صفحات الثقافة

هل القراءة ضرورية؟

 

احمد بزون

هل ما زالت القراءة ضرورية؟ سؤال يمكن أن يبدو صادماً، نرميه في وجه كل الذين يتشاءمون من تراجع القراءة في العالم.

لا نريد أن نركز هنا على نسبة القراء، إنما على ماهية القراءة. فإذا استعرضنا تاريخ القراءة، يمكن أن نبدأ بالمرحلة الشفوية، التي كان الحفظ فيها وسيلة وحيدة لتخزين المعلومات، وعندما بدأ عصر الكتابة صار القارئ النادر يقرأ الكتاب أكثر من مرة ليحفظه، فالكتب المطلوبة للمعرفة كانت قليلة، وتداولها كان صعباً في زمن النسخ المضني، فكان على القارئ أن يخزن بضعة كتب يحفظها عن ظهر قلب، إلى أن أتى عصر الآلة في القرن الخامس عشر، وبدأت الطباعة، وهجم القراء على المعرفة ينهلون منها ما يستطيعون، فصار كلٌّ وما يستطيع أن يستوعب دماغه.

في ذلك الزمن باتت القراءة وسيلة لتخزين المعلومات، ومن ذلك الزمن بدأ سباق القراء مع المؤلفين، ولغاية زمن قريب كان القراء أكثر من المؤلفين بالطبع. أما اليوم فيطرح سؤال القارئ من جديد وبقوة وخوف، إذ لم تعد القراءة، في زمن المعلوماتية، ضرورية لتخزين المعلومات، فخزائن الإنترنت تقدم كل ما نحتاجه من معلومات في العالم، وقد انتشرت المكتبات الضخمة، التي نستطيع أن ننهل منها المعارف، وصارت «غوغل» أكبر عقل آليّ في العالم.

يحضرنا هنا قول الفيلسوف العربي الغزالي «إن حقائق الأشياء مسطورة في اللوح المحفوظ، بل في قلوب الملائكة المقربين»، فإن الحقائق باتت اليوم في مكان آخر، أو أنه بات لـ«اللوح المحفوظ» معنى آخر، وبتنا نلجأ إلى «لوحنا» الجديد بسهولة ويسر من دون حاجة إلى ملائكة الغزالي.

نعم تغير مفهوم القراءة في عصر آلة الكومبيوتر، ثم الإنترنت الذي بدأ في تسعينيات القرن الماضي. وبتنا نضحك طويلاً عندما نتذكر كتابة الشعراء السورياليين الأوتوماتيكية أو الآلية، على نسق ما سمّي بـ«الجثة الشهية»، ولم يعد ضرورياً أن يجتمع شعراء عدة اليوم ليكتبوا نصاً آلياً يقرأ كأنه فضيحة أو فض أوراق مطوية، إذ الشبكة العنكبوتية باتت «تفضح» الشاعر الواحد كلما كتب جملة، بل إن الفضائح بالمعنى الحقيقي باتت بالقناطير، في هذا العصر الذي بات فيه الكتّاب في الإنترنت أكثر عدداً من القراء، بل صار كل من يدخل معترك مواقع التواصل الاجتماعي كاتباً، يطرح مواقفه السياسة والحكمية ونصوصه الأدبية.

لقد بتنا، والحال هذه، نبحث خارج أسماء الكتّاب عن قراء، يحملون هذه الصفة فقط. إذ تحول كل القراء إلى كتّاب. حتى خارج هذه المواقع، وبوجود التفاعلية، صار كل قارئ يمكنه أن يكتب تعليقاً على ما يقرأ، إلى درجة يصير فيها النص الأساسي هامشياً أمام سلسلة الردود والتعليقات.

المهم، كانت العبقرية مقرونة بخزائن الدماغ، أما الآن فالسباق مستمر بين الهندسة الوراثية التي تبحث عن «الإنسان الأعلى» الذي رسمه الفلاسفة، وهندسة المعلوماتية التي تجعل الآلة هي الأعلى.

لن ننتظر فتوحات البيولوجيا، فتراجع القراءة المستمر، يصل، كاريكاتورياً، إلى السؤال عن مصير القراءة.. بسخرية لا بد منها.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى