صفحات سورية

هل بات رهان اليساريين العرب على الأنظمة؟!

 

 


كفى الزعبي

حدث، وقد حدث ذلك فعلا، أن شهدت ندوة ثقافية أقيمت في عمان في شهر شباط ( فبراير)، أي بعد انتصار الثورة التونسية بأقل من شهر، في يوم ماطر في عمان وفي القاهرة.

حيث كانت ملايين مصر في ذروة ثورتها وهي تعتصم في ميدان التحرير… في لحظة تاريخية كان النظام المصري يتهاوى فيها في بث حي ومباشر على جميع المحطات والذبذبات والأمواج الأثيرية والبشرية التي لا تكف تهتف ‘ الشعب يريد إسقاط النظام’ …في هذه اللحظة، تصورا! فالأمر فعلا يبدو عصيا على التصديق. كانت نخبة من المثقفين اليساريين الأردنيين يجتمعون في ندوة تناقش أزمة التحرر العربي!! يومها برر أحد المشاركين أنه كان قد أعد ورقته قبل اندلاع الثورة في تونس! تبين أن إعجابه بتحليلاته النظرية لأزمة التحرر العربي قد فاق إحساسه بأهمية ما يحدث على أرض الواقع، فبدت الثورة هامشية ليست ذات قيمة، وهو يقرأ مطولا على مسامعنا دراسة من عشرين صفحة ـ وربما أكثر ـ عن أسباب الأزمة ومكوناتها وسبل الخروج منها.

لقد كشفت الثورات العربية فعلا عن أزمة حقيقية، إنما ليس أزمة تحرر عربي فالتاريخ وكما أثبت لنا قادر على العثور على مخارج لأزماته ـ إن وجدت ـ ذاك أن توصيف أزمة هو من اختراع المثقفين والنخب، وربما للتاريخ توصيف آخر وقراءة أخرى. لكن الثورات كشفت وبما لا يبقي مجالا للشك عن أزمة النخب اليسارية العربية وعجزها عن قيادة الشارع، وعن قراءة الواقع، وتخلفها على الأقل عن مواكبته…بيد أن الأمر لا يبدو كارثيا لا سيما في حالتي مصر وتونس حينما تجاوزت الثورة ببساطة وهدوء صالونات النخب وكتاباتهم وانشغالاتهم وجدالاتهم ومضت قدما مبقية إياهم غارقين في دهشتهم بينما هم يقفون على الهامش.

لا يبدو الأمر مثيرا للقلق في حالة تونس ومصر…أما في حالة سورية فيبدو الأمر فعلا مثيرا للقلق، وبالتحديد في قراءة ليس اليسار السوري لانتفاضة الشعب السوري بل في قراءة اليساريين العرب الذين تعودوا منذ زمن طويل على غض النظر عن استبداد النظام السوري وفساده ولم يشاؤوا أن يرووا سوى مواقفه الوطنية والقومية ودعمه للمقاومة اللبنانية والفلسطينية. ربما بوسع المرء أن يعثر لهم على مبررات ما، في سياق مرحلة تاريخية كانت الشعوب العربية فيها لا تمارس إلا الصمت. أما الآن وبعد أن خرج الشعب السوري إلى الشارع مطالبا بالحرية والعدالة فإننا نشهد مؤشرات أزمة خطيرة في أوساط النخب اليسارية العربية، ينم ـ في رأيي ـ عن رؤية تعاني من جمود عميق في قراءة الواقع كما وينم عن خلل عميق يمس جوهر الفكر الثوري ـ الذي من المفترض أنهم يتبنونه ـ وهو التشكيك بمسوغات الانتفاضة الشعبية السورية ـ الطبقية والاضطهاد وغياب الحرية والديمقراطية… والخ من المسوغات الدامغة التي نضجت ودفعت بالناس إلى الشوارع ـ وتبني هذه النخب مع شيء من الحذر والخجل. خطاب النظام الملوح بالخطر الطائفي وبوجود مؤامرة خارجية ( أمريكية وإسرائيلية) على سورية تهدف إلى تفتيت الدولة من أجل تحطيم المقاومة ومعسكر الممانعة العربي. قد لا نستغرب هذا الخطاب من النظام السوري، فهو كطرف في الصراع معني بالحفاظ على السلطة وعلى مصالحه حتى وإن أدى به ذلك إلى التضحية فعلا بوحدة سورية، ذاك أننا لم نسمع ولو شعارا واحدا في المظاهرات يدعو إلى الطائفية والانقسام، بل على النقيض من ذلك، ففي حين ـ كما نوه إلى هذه النقطة الكاتب المبدع أمجد ناصر في مقالة له ـ وردت كلمة ‘ فتنة’ في خطاب بشار الأسد المقتضب سبع عشرة مرة، وأقول لأمجد أن رد الشارع على بشار جاء فورا: ‘ واحد واحد واحد…الشعب السوري واحد’.

في الحقيقة يذكرني سلوك النظام السوري بسلوك عصابات المافيا التي انتشرت في روسيا في بداية تسعينيات القرن الماضي، حينما كانت تفرض هذه المافيا ضرائب مالية طائلة على كل فرد من الشعب الروسي لكي تحميه منها هي ذاتها…من كان يرفض الدفع كان يقتل وكان مكان عمله ـ إن كان صاحب عمل خاص – يتعرض للحرق.

قلت أن خطاب النظام مبرر في سياق صراعه من أجل البقاء…أما اليساريون العرب الذين يتبنون هذا الخطاب فلست أفهم ما الذي يريدون قوله: هل يريدون من الشعب السوري أن يبقى أسير القمع والفقر والاضطهاد واللاعدالة من أجل الحفاظ على وحدة سورية ومواقفها ‘ الوطنية’، من أجل أن لا يقتل هذا الشعب ولا يحرق ولا يتشرذم؟ أم أنهم فعلا لا يثقون بالشعوب ولا يعولون على مواقفها الوطنية ولا ينتظرون منها سوى صراعات طائفية ستنفجر إن لم تقيد وتسجن وتكمم الأفواه ـ كالكلاب المسعورة ـ في أقفاص مغلقة، يقف عندها شرطي على أهبة الاستعداد لقتلها وإبادتها إن تململت؟

في رأيي المتواضع أن معركة تحرر الشعوب العربية من الطائفية ومن الإقليمية والعشائرية والجهوية…المعركة التي يمكن أن تقود هذه الشعوب إلى الوقوف على أعتاب المجتمع المدني، إنما تبدأ من التحرر من الأنظمة الديكتاتورية البوليسية الفاسدة.

لهذا بالذات يبدو لي أنه على اليساريين العرب المدافعين عن النظام السوري ( وسأفترض حُسن نيتهم) أن ينفضوا الغبار عن معتقداتهم الثورية التي يستعملونها حسبما تقتضي أوهامهم ومخاوفهم، وليس حسب قوانين هذا التاريخ ذاته، ذاك الذي يمضي بصراعاته حسبما يشاء هو وليس حسبما نشاء نحن…التاريخ الذي طالما أخبرنا بهدوء أن المراهنة الحقيقية الرابحة في نهاية المطاف، يجب أن تكون على الشعوب وليس على الأنظمة، لا سيما إذا كانت هذه الأنظمة مستبدة وفاسدة.

خاص – صفحات سورية –

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى