صفحات العالم

هل تبقى الاحتجاجات السورية سلمية؟


د. وحيد عبد المجيد

عظيمة هي التحديات التي تواجه الاحتجاجات الشعبية في سوريا بعد أكثر من خمسة أشهر على بدايتها. غير أن التحدي الأعظم هو أن تبقى هذه الاحتجاجات سلمية مثلما بدأت، وأن تبذل لجان التنسيق وغيرها من القوى السياسية المعارضة أقصى ما لديها من جهد لتجنب الانجرار إلى العنف ووضع حد للأصوات التي بدأت تشجع على استخدام السلاح بعد مذبحة حماة الجديدة التي بدأت في أول أغسطس الماضي. فعندما ينذر بعض شباب الثورة باللجوء إلى السلاح دفاعاً عن النفس أو ردّاً على الاستخدام المفرط للعنف ضد المحتجين، لابد أن يكون هناك من يتحرك بسرعة للتنبيه إلى أخطار هذا التوجه.

فالرد على العنف المفرط الذي تستخدمه قوات الأمن والجيش بأساليب غير سلمية يعني استدراج الاحتجاجات الشعبية إلى دوامة المواجهة المسلحة. ولا نتيجة لذلك إلا عزلها وإضعاف شرعية مطالبها وإفساح المجال أمام عناصر ذات “أجندات” خاصة للدخول إلى الساحة.

فما كان للاحتجاجات الشعبية أن تتواصل وتنتشر وتمثل تحديّاً للنظام، بمقدار ما تواجه هي تحديات لا تقل أهمية، إلا لأنها حافظت على طابعها السلمي في اتجاهها الرئيسي. ولذلك لم تفلح محاولة خلط الأوراق وتشويه الاحتجاجات، ورميها بما هي منه براء. ولا تزال قوتها الأساسية كامنة في سلميتها التي حافظت عليها منذ شرارتها الأولى في درعا. بدأت تلك الاحتجاجات عفوية احتجاجاً على اعتقال 15 تلميذاً كتبوا شعارات على الجدران استلهموها مما حدث في تونس ومصر. فقد كانت الأجواء مهيأة لاحتجاجات قابلة للتصاعد والانتشار بفعل رياح التغيير التي هبَّت في بلاد عربية أخرى. كما كان شباب سوريون يحثون غيرهم على السعي إلى التغيير عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

غير أن أحداً لم يحرك احتجاجاً منظماً بخلاف ما حدث في مصر. كانت الشرارة في سوريا عفوية بالأساس على النحو الذي حدث من قبل في تونس عندما خرجت مظاهرات محدودة عقب انتحار الشاب محمد البوعزيزي تضامناً معه واحتجاجاً على البطالة والتهميش والإقصاء.

كان اعتقال تلاميذ صغار في 15 مارس وتعذيبهم وقلع أظافرهم مستفزاً للغاية، وخصوصاً في أجواء متأثرة برياح جديدة في المنطقة. ولم يقتصر الاستفزاز على عائلاتهم وقبائلهم في درعا فقط، بل امتد إلى أنحاء أخرى في سوريا وصولاً إلى دمشق حيث تظاهر بعض ذويهم ومئات من الحقوقيين والمثقفين في اليوم التالي (16 مارس) أمام وزارة الداخلية في ساحة المرجة للمطالبة بالإفراج عنهم فقامت قوات الأمن بتفريقهم واعتقلت 37 من بينهم المفكر الطيب تيزيني وحقوقيون وناشطون وغيرهم.

وعلى رغم إعلان نائب الرئيس فاروق الشرع في اليوم التالي (17 مارس) أن “ارتفاع وتيرة النقد بعد ما حصل في تونس ومصر يحفز بشكل أو بآخر على الإسراع في عملية التطوير والتحديث التي أطلقها الرئيس بشار الأسد منذ عام 2001″، لم يتم الإفراج سوى عن خمسة من معتقلي تظاهرة اليوم السابق. كما أُطلق الرصاص في اليوم التالي على تظاهرة أخرى خرجت في درعا مما أدى إلى مقتل أربعة أشخاص.

وهكذا أحدث الإفراط في استخدام القوة شرارة أشعلت الاحتجاجات التي أخذت في الانتشار يوماً بعد يوم، ولكنها حافظت على طابعها السلمي. وكان هذا واضحاً منذ يوم 19 مارس خلال تشييع جثامين الشباب الأربعة في درعا، إذ تحولت جنازة اثنين منهم إلى تظاهرة كبيرة شارك فيها نحو عشرة آلاف في أكبر حشد احتجاجي في سوريا منذ عقود.

وحافظ المتظاهرون على سلمية التظاهر. وحدث مثل ذلك في الاحتجاجات التي توسع نطاقها وامتدت إلى كثير من البلدات والمدن الأخرى، على رغم أن الإفراط في استخدام القوة ضدها فاق ما حدث في البلاد العربية الأخرى فيما عدا ليبيا التي تجاوز نظام الحكم فيها كل سقف في قمع الاحتجاجات حين بدأت في شرق البلاد في 17 فبراير. ولكن قوات القذافي نجحت في استدراج المحتجين إلى الرد على عنفها اللامحدود بما يتيسر لهم وهو بالضرورة محدود، فتحولت الاحتجاجات التي بدأت أيضاً سلمية إلى معركة مسلحة يصعب توقع ما يمكن أن تنتهي إليه.

وهذا درس ينبغي أن يستوعبه المحتجون في سوريا جيداً لأن الانجرار إلى أي شكل من أشكال العنف لن يجعلهم في مركز أقوى. فأقصى ما سيتيسر لهم من قوة يظل محدوداً، ويفقدهم قوتهم الأخلاقية والمعنوية المستمدة من سلمية احتجاجاتهم. وهذه هي القوة التي اعتمد عليها المحتجون في تونس ومصر، ويصر عليها المتظاهرون في اليمن على رغم أن انتشار السلاح في هذا البلد وحصولهم على تأييد قبائل كبيرة تملك الكثير منه يغري باستخدامه.

غير أن القوة المعنوية والأخلاقية النابعة من شرعية المطالب وضرورة الإصلاح هي أقوى ما يملكه المحتجون في سوريا. كما أنها هي التي مكنت المحتجين في تونس ومصر من تحقيق التغيير. فقد مضت الاحتجاجات في تونس في طريق سلمي منذ يومها الأول عندما تظاهر مئات الشبان في ولاية سيدي بوزيد في 18 ديسمبر 2010، وهو اليوم التالي لإضرام الشاب محمد البوعزيزي النار في نفسه احتجاجاً على مصادرة السلطات عربة يبيع عليها خضاراً وفاكهة ورفضها قبول شكوى في حق شرطية قال إنها صفعته ثم برأها القضاء بعد ذلك من هذا الاتهام.

وانتقلت الاحتجاجات إلى البلدات والمدن المجاورة لمدينة سيدى بوزيد، ثم وصلت إلى العاصمة للمرة الأولى في 25 ديسمبر وأخذت في التصاعد سلميّاً إلى أن حققت التغيير.

وقد حدث مثل ذلك في مصر مع اختلاف في التفاصيل. غير أن هذا الاختلاف لا يشمل سلمية الاحتجاجات التي ظهر الحرص عليها واضحاً تماماً. كان شعار “سلمية .. سلمية” أحد أبرز الشعارات الأولى في هذه الاحتجاجات، بل أبرزها على الإطلاق منذ اليوم الأول 25 يناير والأيام التالية.

فلم تكن تظاهرات ذلك اليوم عفوية بخلاف ما حدث في تونس يوم 18 ديسمبر. كانت الدعوة إليها سابقة على انتصار الثورة التونسية بعد أن بلغ بطش جهاز الشرطة مبلغاً غير مسبوق، وفاض الكيل بكثير من المصريين وخصوصاً الشباب. وحافظت الاحتجاجات على سلميتها حتى في يوم جمعة الغضب (28 يناير) الذي سقط فيه معظم القتلى والمصابين. فكان الهتاف “سلمية.. سلمية” يأتي سريعاً كلما اشتد عنف قوات الأمن حتى لا يتورط أحد من المتظاهرين أو الأهالي المتعاطفين معهم في الرد.

وحدث مثل ذلك في مواقع عدة شهدت أشكالاً من الكر والفر بين المتظاهرين الذين أرادوا شق طريقهم إلى ميدان التحرير وقوات الأمن التي حاولت محاصرتهم. وكانت سلمية الاحتجاجات المصرية هي أحد أهم أسباب نجاحها، مثلما حدث في تونس. وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه المحتجين في سوريا الآن بعد أن بلغ العنف ضدهم مبلغاً قد يدفع إلى تحرك عربي فاعل في الفترة المقبلة.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى