صفحات سوريةهوشنك بروكا

هل تحوّل الأكراد إلى عصافير بيد الأسد؟

 


هوشنك بروكا

بدايةً لا بدّ من الإشارة إلى أنّ القصد من الأكراد ههنا، هو “أكراد النظام” أو “أكراد الأحزاب” بالدرجة الأولى، وليس “أكراد الشعب” أو أكراد الشارع القادم، لا محال. فهولاء، مثلهم مثل كلّ أطياف الشعب السوري، هم سوريون غاضبون على النظام، ويريدون ما تريده درعا وحواليها، الآن، جنوبي الغضب السوري.

انتفاضة 12 آذار التي كانت من الشعب إلى الشعب، ولم يكن للدكاكين الحزبية فيها غضبئذٍ، أي يدٍ، هي أقرب دليل من الذاكرة الكردية السورية على ذلك.

أما “أكراد النظام”، كما أثبت رؤساء دكاكينهم في “نوروز النظام” هذا العام، فلنا فيهم كلامٌ آخر، لا بل أنّ للشعب فيهم أكثر من كلام.

طريقة تعاطي النظام السوري، مع معارضاته الفعلية أو الوهمية، لم تعد سريةً تجري وراء الكواليس، وفي غرف المخابرات وأمنه، كما كانت من قبل. فالدنيا وأحوالها تغيّرت، الأمر الذي دفع بالنظام السوري إلى أن يغيّر سلوكه، تجاه ما حوله.

فهو غيّر من سلوكه(وهو شكليّ محض على أية حال)، مع أشدّ وأشرس معارضيه جماعة الإخوان المسلمين، قبل أكثر من سنتين، عندما علّقت الجماعة كلّ أنشطتها المعارضة ضد النظام خلال الحرب الإسرائيلية على غزة نهاية 2008 وبداية 2009. ليس لأن النظام أراد إصلاح ما يمكن إصلاحه مع الجماعة، أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه في سوريا كما وعدها، وإنما لأنه أراد تخريب المعارضة من الداخل، وتعطيلها ما أمكن، وذلك عبر مغازلته للإخوان، بإعتبارهم أقوى فصيل منظّمٍ يحسب له أكثر من حساب، والجلوس إليهم وترويضهم بالكلام المعسول، والوعود المؤجلة، وضربه بأطراف المعارضة الأخرى.

النظام، نجح في هذا المسعى، حتى الآن، نجاحاً كبيراً يسجل له.

أخبار غضب درعا والحوارانيين من حولها، وما نشهده من صمتٍ خطير لجماهير الإخوان في مدن الداخل السوري، حتى اللحظة، تؤكد نجاح النظام في فرملة الإخوان أو تحييده عما يشتعل من غضبٍ قائمٍ في الجنوب على قدمٍ وساق.

هناك من يقول على لسان “أكراد الأحزاب”، هذه الأيام، ويعتقد جازماً، بأنّ النظام السوري بدأ بتغيير سلوكه معهم نسبياً، قبل أن يغيّره الشعب. بدأنا نقرأ مؤخراً، تنظيرات من هذا القبيل، خصوصاً بعد أن فاقت تغطية وسائل إعلام النظام، لنوروز أكراد(ه)، في كونه “عيداً حضارياً متنوعاً”، كلّ التوقعات.

ولكن السؤال الذي يمكن طرحه ههنا، هو: هل يمكن لنظامٍ ديكتاتوري، اختزل كل السلطات في رئيسه، أن يغيّر سلوكه بالفعل؟

تاريخ سوريا خلال أكثر من أربعة عقودٍ من الخراب واللإصلاح واللاتغيير، في ظل هذا النظام الثابت على “ممانعاته”، يقول بأنّ تغييراً في السلوك أو شيئاً من هذا القبيل، هو أقرب إلى المستحيل. فالنظام عوّدنا وعوّد سوريا، على سلوكه الثابت: إما الكلّ وإلا فلا؛ أيّ

كلّ السلطات، وكلّ المؤسسات، وكلّ الملك، وكلّ القرارات، وكلّ الحريات، وكلّ الحقوق…هكذا كان سلوكه، على مرّ حكمه الحافل بالأحكام العرفية والقوانين الطارئة.

له كلّ شيء، وللشعب لا شيء. تلك هي “فلسفة” النظام للفوز بثالوث “الوحدة والحرية والإشتراكية”.

ظهور نوروز في سوريا إلى العلن ودخوله وسائل الإعلام الرسمي لأول مرةً في تاريخه، كشف الغطاء عن لعبة جديدة قديمة للنظام، لعبها هذه المرة في الوقت الضائع، مع أكراد(ه) من سادة الأحزاب والجماعات السياسية، التي يبدو لكأنها دخلت في “زواج متعة” مع السلطة، إلى أجلٍ غير مسمى.

هذه الأحزاب، التي دوّختنا وصرعتنا ببياناتها ونداءاتها وتضامناتها وقصاصاتها، طيلة نصف قرنٍ ونيف، صامَت عن الكلام هذه الأيام، حيث تُقتل درعا كلّ يوم أكثر من مرة، ويُقتل السوري الحوراني الغاضب لأجل كلّ سوريا هناك، بنار ورصاص النظام مرةً تلو الأخرى.

هذه الأحزاب الذاهبة في متعتها مع السلطة إلى أكثر من زواجٍ وعلى أكثر من مستوى، كما يبدو، تتحدث هذه الأيام بلسانين: لسانٌ كرديٌ تتحدث به إلى الشارع، لفرملة غضب أكرادها، الذي لا يقلّ في حقيقته عن غضب حوارن، فيما لو انفجر، ولسانٌ آخر عربي، به تجلس إلى السلطات في الغرف المغلقة، وبه تمارس فنون الإستماع إلى الكلام الحلو، والإستمتاع بوعود النظام العسلية المؤجلة، منذ أكثر من أربعين عاماً.

ماذا يعني أن يطالب الحوارنيون في أقصى الجنوب السوري، ب”رفع حالة الطوارئ، والأحكام العرفية، وإطلاق الحريات، وتبييض السجون من كلّ معتقلي الرأي والضمير”، فيما نرى الأحزاب الكردية التي يعاني أكرادها ظلماً مزدوجاً، وسجناً مزدزجاً، وحالة طوارئ وأحكاماً عرفية مزدوجة، نراها تخرس وتصوم عن الكلام، لكأن حوران هي “دولة مستقلة”، لا يجوز التدخل في شئونها الداخلية!

ماذا يعني أن تغضب درعا ضد الديكتاتور، فيما نرى هذه الأحزاب ومسؤولوها يجلسون ويتوددون إليه في كلّ شيء لأجل لاشيء؟

ماذا يعني أن تُقتل درعا وهي ممنوعة ومحظورةٌ الآن، في أقصى الجنوب السوري برصاص النظام، فيما يرقص “النوروز الحضاري”(الممنوع المكتوم منذ أكثر من أربعة عقودٍ)، مسموحاً به للتو، هذا العام، على مرآى ومسمع كلّ أجهزة الأمن السورية، وعلى طول وعرض وسائل إعلامه الرسمية؟

ماذا يعني أن يُقتل السوري الحوراني هناك، لأجل حريته، فيما يعيش السوري الكردي ههنا ضد حريته، التي قتلها النظام ومشى في جنازتها؟

ماذا يعني أن يعتقل ويقتل المسؤول السوري درعا وأبناءها، الآن، فيما يجلس المسؤول نفسه إلى أكراد(ه) من الأحزاب، ويشرب معهم القهوة وأشياء أخرى، ويتجاذبوا أطراف الحديث، كما شاهدنا وقرأنا أخبار هذا القيام والقعود الحميميين، في مضافات نوروز، قبل أيام؟

ماذا يعني أن يكون الكردي السوري، هنا، في عيده القومي، الذي منع عليه و”خوّن” به عقوداً طويلة، “سورياً وطنياً، حضارياً، وجزءاً من النسيج السوري المتنوع”، فيما يكون الحوراني السوري هناك، في غضب درعا، “خارجاً على القانون”، و”مشاغباً”، و”مندّساً”، و”إرهابياً”، و”عميلاً”، و”خائناً”؟

ماذا يعني أن تقوم درعا الآن، وتذهب على يد كف أكثر من عفريتٍ إلى حريتها، فيما المكان الكردي، من شماله، يقعد في أكثر من سكوتٍ وصمت؟

المعروف عن الأحزاب الكردية السورية، منذ انطلاقة أول حزب كردي عام 1958، هو أنها أحزاب تتأرجح قراراتها المصيرية، طيلة نضالها، بين مرجعتين كردستانيتين: مرجعية الجنوب الكردستاني الممثلة بالحزب الديمقراطي الكردستاني بالدرجة الأولى، ومرجعية الشمال ممثلةً بحزب العمال الكردستاني.

جلّ الإعتصامات ومظاهرات الغضب التي كنا نشهدها طيلة تاريخ هذه الأحزاب، كانت تخرج بتأثير مباشر من هاتين المرجعيتين، اللتين استخدمتا الشارع الكردي السوري، جسراً للعبور إلى مصالحها الحزبية بالدرجة الأساس.

لذا ليس من قبيل الصدفة، أن تجد حزباً كردياً سورياً، بارزانياً أكثر من البارزاني مصطفى نفسه، أو آبوجياً أكثر من عبدالله أوجلان، الزعيم الكردي الأسير في سجن إيمرالي منذ 1999.

تلك هي الحقيقة الكردية السورية “الغائبة”، والمرّة في آن.

هذه الأحزاب الكردية السورية، نشرت مئات البيانات والتصريحات والقنابل الصوتية، ودعت إلى عشرات المظاهرات لأجل هولير في الجنوب وآمد/ دياربكر في الشمال. المئات(بل الأولوف) من الشباب الكردي السوري المنخرط في صفوف هذه الأحزاب، استشهدوا أو جرحوا أو عُذبوا أو سجنوا، لأجل ولاء قادتهم للبارزاني أو أوجلان.

ولكن ماذا عن الولاء لحقوق أكرادهم في جهتهم السورية الآن؟

لا شيء سوى الكلام، و”سياسة الجعجعة”، والتسويف والتخويف، والتطنيش والتدفيش.

ماذا كانت ستقوم به هذه الأحزاب، مثلاً، لو كانت درعا الآن، هي هولير، أو دياربكر آمد، أو إيمرالي؟

لكلٍّ حقه في السياسة، بالطبع، أن يكون ما يشاء، ويتبع ويخضع لمن يشاء، ولكنّ السياسة، فضلاً عن الإجتماع وما حواليه من ثقافةٍ، تقول أيضاً، أن “الدار هو قبل الجار”.

السياسة لها حدود، مثلما للعراق ولتركيا حدودها.

السياسة لها حدود، مثلما تقول الصكوك والمعاهدات الدولية، أن للأكراد في جهاتهم المشتتة من سوريا إلى تركيا، ومن العراق إلى إيران، حدودهم.

البارزاني الرئيس الآن، لا ينصر أكراده السوريين، لأنه ملتزمٌ بعراقه، ولا يتدخل لخاطر عيونهم في شئون سوريا “الجارة” الداخلية. بل العكس، يمكن أن يكون هو الصحيح، كما ألمح إلى ذلك الزميل الآستاذ الشاعر عبدالقادر الجنابي في مقالٍ سابقٍ له، منشور في إيلاف.

الشيء ذاته يمكن سحبه على أوجلان الزعيم الكردي في الشمال أيضاً، فهو الذي بقي تحت الوصاية السورية وحمايتها، لحوالي عقدين من الزمن، ملتزمٌ الآن في سجنه بإيمرالي، بحقوق أكراده في الشمال، في إطار تركيا واحدة، تحت راية علمٍ واحد، ونشيدٍ واحد.

في كلّ مناسبات الأحزاب الكردية السورية ومؤتمراتها، نرى صوراً لهذا الزعيم الكردي الجنوبي البارزاني، أو ذاك الزعيم الكردي الشمالي أوجلان، تُرفع أعلى من أعلامهم، ولكن لماذا لا نجد هذه الأيام الغاضبة، الصور ذاتها تُرفع مع درعا التي تطالب بحقوقٍ وحرياتٍ، هي تطالب بها منذ أكثر من نصف قرنٍ من الزمان؟

لماذا تحضر هذه الصور هناك، وتغيب مواقف أصحابها ههنا؟

لماذا لا تفهم الأحزاب الكردية السورية، إذن، ما فهمه البارزاني في العراق، وأوجلان في تركيا، بأنّ للمواقف أيضاً، في حارات السياسة حدود؟

لماذا لا تلتزم هذه الأحزاب حدودها مع أكرادها ضمن سوريا واحدة، مثلما يلتزم البارزاني في العراق، وأجلان في تركيا، الحدود ذاتها؟

لماذا لا تفهم هذه الأحزاب، أن درعا السورية الآن، هي أقرب إليهم من هولير العراقية، وآمد/ دياربكر التركية؟

ثم لماذا لم يجلس النظام السوري إلى هذه الأحزاب في غضبها الكردستاني الذي امتدّ من هولير إلى آمد، وإنما فعله اليوم، في عزّ الغضب السوري المشتعل بدرعا؟

لماذا ضربَ الحقيقة الكردية السورية، الآن، بعكسها، حيث تمشي درعا على دمها القتيل، إلى حقيقة حريتها، التي تساوي كل الحرية لكلّ سوريا؟

هل بات الأكراد بالفعل، “عصافير” في يد النظام، كما يُروّج الآن، لهذه السياسة هنا وهناك؟

هل تحالف النظام مع أكراد(ه) في الأحزاب، ودخل معهم في “زواج متعة”، كان نوروز بدايته، ولا ندري أين ومتى ستكون نهايته؟

سؤالٌ أتركه مفتوحاً لمن يهمه الأمر أو لا يهمه، لعل القادم من الغضب السوري، الذي ليس له إلا أن يشتعل من درعا إلى قامشلو، يأتينا ببعضِ جواب.

ايلاف

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى