سمير سليمانصفحات مميزة

هل حسم الإسلاميون خيارهم ضد الثورة ؟: سمير سليمان

 

سمير سليمان

       يعطي عنوان هذه المقالة ( هل حسم الإسلاميون خيارهم ضد الثورة ؟ ) لدى البعض , إيحاء باتهام الإسلاميين بما هم ليسوا فيه , جائرا ومثيرا للجدل . ونعتقد أن هذا الإيحاء , في حال وجوده , قد خلقه الإسلاميون أنفسهم . فصعودهم لمراكز السلطة والقرار السياسي في بلدان الربيع العربي , كنتيجة لثورات الشعوب في تلك البلدان , لايجب أن يخدع أحدا . وهم لايستطيعون في الواقع الإستمرار في الخداع الذي كان مجديا قبل السلطة التي أمسكوا بها . فكما يقال : الماء يكذّب الغطّاس . ولكن ذلك لايعني أن الإسلاميين الذين قادتهم الموجة الأولى للربيع العربي إلى سدّة الحكم قد جاءوا بطريق الخداع . فهناك ظروف محددة أوصلتهم إليها , وتطالبهم الآن بأثمان مستحقة . أثمان بدوا أنهم يتهربون من دفعها , بمعنى أنهم يفضّلون الوقوف ضد الثورة تجنبا لدفعها , لأنهم يرونها مكتسبات لايجب التخلي عنها , ويعضون عليها بنواجذهم .

       وقبل متابعة الحديث , نوضح أننا نقصد بتعبير ” الإسلاميين ” أو ” الإسلام السياسي ” الإخوان المسلمين أساسا , بكافة تنويعاتهم في بلدان الربيع العربي , والسلفيين بدرجة أقل . مستبعدين كل أشكال الجهاديين ودعاة ” الحاكمية ” و” دولة الخلافة ” , فهؤلاء يعلنون أنفسهم صراحة ضد هذه الثورات , ولايتناقض ذلك مع وقوفهم ضد الأنظمة التي قامت تلك الثورات لإسقاطها . كما ننوّه أن تعميم الكلام على جميع الإسلاميين في تلك البلدان لايقلل من صحته , بسبب التشابه الكبير للثورات , وتشابه الأرضية الإجتماعية والسياسية التي قامت عليها , وتشابه الأنظمة التي جرت الإنتفاضات ضدها , وتشابه الإسلاميين في كل مكان .

       تضافرت عوامل عديدة , سياسية وثقافية , ظرفية وتاريخية , ومن عدة جهات , لتجعل ثورات الربيع العربي تسمح للإسلاميين , بل وتدفعهم , إلى تبوّء مراكز قيادتها سياسيا . حدث هذا في جميع بلدان الربيع العربي , كما يحدث  في سورية الآن , حيث لاتزال عملية إسقاط النظام جارية .

        بسرعة وجدت هذه الثورات نفسها , ومنذ لحظة إنتصارها الأولى , في مواجهة متفردة مع ذات الإسلاميين الذين وضعتهم هي على كراسي الحكم . فهل تغير الإسلاميون بوصولهم للسلطة ؟ . لانظن ذلك . بل نعتقد أن العقيدة السياسية الثابتة , ولانقول المبدأية , للإسلاميين , والتي حملتهم على سطح الموجة الأولى للربيع العربي , هي نفسها العقيدة السياسية التي تضعهم الآن في مواجهة استكمال المد الثوري في بلدانهم . وليس هناك من دلائل على إختلاف الأمر في سورية سوى أن سلطة الأسد لم تسقط بعد , فالمؤشرات المؤيدة لكلامنا في أدائهم ضمن صفوف المعارضة السورية , ليست قليلة .

       عوامل طفوّ الإسلاميين على سطح الموجة الأولى للربيع العربي , وتسلّم قيادتها , تتأتّى من جهتين : جهة الثورات ذاتها , شكلها وبنيتها ومساراتها . وجهة أخرى تتعلق بمجتمعات تلك البلدان . مجتمعات تتشارك بالإفقار السياسي والثقافي والأخلاقي المريع , وإن اختلفت شدته قليلا بين بلد وآخر .

       فواقع أن الإنتفاضات العربية اندلعت بلا قيادات سياسية تمثلها , وتركيز مطالب المنتفضين على هدف رئيسي تجسد بنداء : إرحل . نداء كان يقصد به رأس النظام وعائلته والمقربين منه ( زين العابدين وأقرباؤه , حسني مبارك وعائلته , القذافي وأولاده , صالح وأبناؤه وأصهاره , آل الأسد – مخلوف وشركاهم ) . هذا الواقع خلق ظرفا ثوريا ملائما كي يتصدره الإسلاميون بلا برامج لديهم , تصدروه باعتبارهم المعارضة الأقوى , المعارضة التي لم تستطع أنظمة الإستبداد تشتيتها وإضعافها عبر سنوات الطغيان الطويلة , مثلما فعلت بغيرها . ولايعني هذا أن تلك الأنظمة قد تركت الإسلاميين تقصدا , لمصلحة لها في ذلك , بل بسبب أنها لم تستطع تجريفهم من المجتمع وتشتيتهم كما فعلت مع بقية المعارضات غير الإسلامية .  فإيديولوجيا الإسلاميين هو الإسلام , وهو دين الشعب , والجامع هو مقر العبادة وممارسة الشعائر الإسلامية , وخطاب الجمعة الموجه لحشود المؤمنين هو واجب ديني على إمام الجامع , وحضور جموع المؤمنين للصلاة جماعة في المسجد حق لايستطيع أحد الإعتراض عليه . وتلك أمور لايستطيع نظام الإستبداد منعها , حتى لوكان نظاما ” علمانيا ” أو ” قوميا ” كما كانت تدعي أنظمة الإستبداد في بلدان الربيع العربي . والمسألة هنا أن هذا الهامش المتاح للعمل قد خدم الإسلاميين كثيرا . فالنص الإسلامي يمكن استخدامه سياسيا , وعلنا في الجامع , ويمكن استثمار تجمعات المؤمنين في الجوامع بما يشبه النشاط الحزبي للإسلاميين , ويمكن تحويل خطبة الجمعة إلى تحريض سياسي . كما سُمِح دوما للإسلاميين بالتغلغل ضمن شرائح المجتمع عبر العديد من مؤسسات البر وجمعيات المساعدات الخيرية . بمعنى أن الأنظمة القائمة على منظومة القمع والفساد لاتستطيع منع نشاط الإسلاميين في عملهم السياسي والإجتماعي والإيديولوجي , على العكس , فهي تخصب بيئتهم الإجتماعية باستبدادها وفسادها , وبتشتيت المعارضة السياسية المنافسة لها . وعندها يبدو الإسلاميون الملجأ الأفضل للتعبير عن السخط ضد النظام , ويبدو الإسلام حدا أعلى للفقر السياسي والثقافي والأخلاقي الذي يفرضه نظام الإستبداد على مجتمعه ككل . ففي الجامع يمكن الإلتقاء دوما مع ” الأخوة ” والتشاور في الشؤون العامة للمجتمع , ويمكن التعبير عن السخط والإعتراض على الظلم الجاري من موقع الإلتزام بالدين والشريعة الإسلاميتين . ومن الضروري هنا اعتبار عامل الزمن , فعلى مدى ثلث قرن , عمل الإسلاميون ضمن هذا الهامش الواسع , ثقافيا وسياسيا واجتماعيا . وحتى في سورية , حيث يحكم على أعضاء الإخوان المسلمين بالإعدام لمجرد انتمائهم لهذا التنظيم , بقي هامش نشاطهم الإجتماعي والثقافي متاحا أكثر من المعارضة اليسارية بكل تشكيلاتها . وعشية الإنتفاضات في دول الإستبداد القومي والعلماني , كانت الأنظمة قد استكملت تغولها على تلك البلدان , وأسرت مجتمعاتها , واستهلكت ثرواتها , وضعضعت معارضيها وشتتهم . وتزامن ذلك مع أسلمة المجتمع على نطاق واسع , في الوقت الذي تكرست فيه مظلومية الإخوان المسلمين نتيجة صراعهم العنيف مع تلك الأنظمة ابتدأ منذ سنوات طويلة . صراع كان العنف فيه خيارا للطرفين في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته وحتى النصف الأول من تسعيناته . فلم يكن مستغربا , والحال هذه , أن يتصدر الإسلاميون الإنتفاضات القائمة . بل سيبدو من المستغرب أن يتصدرها غيرهم أيا كان . ولكن ماحصل بعد ذلك , بعد تصدرهم لإنتفاضات الربيع العربي , كان أن نقلتهم تلك الإنتفاضات , بلا إبطاء , من حال إلى حال .

      يقال أن الثورة تجب ماقبلها . وهذا القول غير مقصور على الأنظمة الساقطة فقط , فهو يشمل المجتمع بكليته , سياسيا وثقافيا وإقتصاديا , ويشمل المعارضة أيضا . وبهذا المعنى يتعرض الإسلام السياسي لإحتمال ” الجبّ ” فيما بعد الثورة إن هو بقوا كما هو . فالحد الواقي , الحامي للمجتمع , من الإفقار السياسي والثقافي والإجتماعي والأخلاقي الذي مارسته الأنظمة بحق شعوبها , والذي مثله الإسلاميون لسنوات ماقبل الثورة , هذا الحد نفسه يصبح الآن حدا معيقا ومقاوما لما تطمح له الثورات من سقوف عالية على تلك الصعد . وإذا كانت العقيدة السياسية والإيديولوجية للإسلاميين أعلى سقفا مما تفرضه أنظمة الإستبداد المتهاوية , فقد أصبحت بعد الثورات أدنى بكثير مما تريده الشعوب المنتفضة , وأعجز بكثير عما تطمح الإنتفاضات لتحقيقه . ولذلك , وبمجرد جلوس الإسلاميون على كراسي الحكم في بلدانهم , وجدوا أنفسهم في مواجهة مع تلك الثورات , وشعوبها . ووجدوا أنفسهم أيضا , بمواجهة الخيار الصعب .

      تطرح ثورات الربيع العربي على الإسلاميين في السلطة , خيارين صعبين لاثالث لهما : إما التحول باتجاه ما يمكن تسميته ” إسلامية علمانية ” تستطيع قيادة مجتمعاتها ديموقراطيا , بما يشبه الحالة التركية . وإما التحول إلى سلطة استبداد سياسي جديد بغطاء إسلامي , شفّاف وممزق وعاجز عن التغطية .

    الخيار الأول يفيد جميع الأطراف , وأولهم الإسلاميون , فهو خيار وطني , يطوي صفحة الإستبداد , وينهي العنف السياسي  بلا رجعة , ويوفر طاقات المجتمع , ويفتح أبوابا عريضة للمستقبل , ويوجه المجتمع باتجاه العمل والتنمية وتطوير بناه المادي والروحي . ولكنه خيار يشترط تحققه وعيا سياسيا عاليا من الإسلاميين , وشجاعة وجرأة في المراجعة ونقد الذات , وتغليب الوطنية على الإيديولوجيا , واعتراف بضرورة مشاركة القوى الديموقراطية في السلطة لمواجهة المشاكل الكثيرة والمتراكمة , والتي يعلمون أنهم لايستطيعون حلها بمفردهم . هذا خيار لايلوح في سلوك الإسلاميين المتعطش للإستفراد بالسلطة في كل بلدان الربيع العربي . ولذلك نرى أنه خيارا مستبعدا الآن من خططهم في الحكم .

     وبالمقابل , يبدو أن الخيار الثاني يغري الإسلاميين كثيرا , ويعملون الآن على ” تجريبه ”  عبر صراع مكشوف مع القوى السياسية والإجتماعية الأخرى في المجتمع . ويعلم الجميع , والإسلاميون منهم , أنه الخيار الأسوأ , الخيار اللاوطني واللاإنساني . فهو خيار استمرار الصراع , بما يتطلب ذلك من المزيد من التضحية والإعاقة وهدر الجهد والوقت , وزيادة الإرتهان للخارج . إن استبدال الاستبداد العلماني الآفل باستبداد ديني جديد ليس خيارا للحياة , بل نعتقد أنه سيكون خيارا ” انتحاريا ” للإسلاميين . إنتحار لن يتحقق في وقت قصير . إنما سيتحقق بفعل ” الأرجحية التاريخية ” , ومنطق الأمور .

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى