صفحات الثقافة

هل حقاً تقلقهم مصائرنا؟/ نجاة عبد الصمد

في أواخر القرن الماضي كتب الأديب اللبناني أمين معلوف روايته “القرن الأول بعد بياتريس”. رواية لا تشبه أخواتها (ليون الإفريقي، سمرقند، صخرة طانيوس، رحلة بالدسار…) التي تلتقط محطات من التاريخين القريب والبعيد، وتنثره بريشةٍ شديدة الرقيّ والجمال والإنسانية، وتسقطه على الصراعات البشرية المعاصرة.

في “القرن الأول بعد بياتريس”، ويقصد معلوف به القرن الحادي والعشرين، الذي لم يكن قد حلّ أيام كتابة الرواية، يخوض الكاتب في مآل التقدّم العلمي، كيف يمكن أن يرتقي بإنسانية الإنسان، وكم سيكون وحشياً، وفاتكاً بهذه الإنسانية لو وُظّف في غير مكانه. يتخيّل الكاتب اختراع عقارٍ يمنح القدرة على إنجاب المواليد الذكور دون الإناث، ويُمنَع استخدامه في الدول المتقدمة، فينتشر ويزهو ويتصدّر الأسواق الشعبية في إفريقيا وآسيا اللتين لا ترغبان في الدنيا أكثر من تكثير الذكور.

يبدأ الذكور إذاً بالتزايد الدراماتيكي، بالتوازي مع تناقص الإناث، وتعود البشرية إلى تعظيمهم واستثمارهم لتغذية الحروب وتغطية وسائل الإنتاج البدائية فيها كما دأبت على ذلك في تاريخها القديم. لكن بطل الرواية، وهو عالم حشرات فرنسي متزوج من صحافية، يكتشف مصادفةً هذا العقار أثناء زيارةٍ لمصر، ويجري عليه دراساته، ليجد أنه بالغ التأثير، وليس ثمةعقاراتٌ مضادةٌ له. يؤسس هذا العالِم وزوجته مع أصدقائهما مجموعةً يسمونها “شبكة العقلاء” تسعى لوقف الأبحاث في هذا المجال ومنع تشريع نتائجها. عبر قصة الحب الكبير بين الزوجين يصرّ البطل على إنجاب ابنة أنثى وحيدة يسميها بياتريس، هي الأمل، بل هي صورة المستقبل لأن هذا العالَم لن يمكنه الوجود من غير الذكر والأنثى معا، وسيكون أقسى وأشدّ ظلماً حين تتناقص فيه الإناث.

في سياق الرواية يصف معلوف انقسام كوكبنا بين شمالٍ وجنوب بينهما هوةٌ سحيقة لا مجرد بحر متوسط! تبدو أوروبا الغربية هانئةً في مكانها القصيّ شمال هذا البحر، تسود فيها القيم الأخلاقية، وتقوم على مؤسساتٍ تحترم مواطنيها، وتنعم بالاستقرار والديموقراطية والتفوق العلمي والتكنولوجي، وتولد فيها اختراعاتٌ جديدة كل يوم، ويتمتع سكانها بعمر مديد ورعاية صحية مثالية وتسري على تزايد عدد سكانها رقابةٌ عقلانية، وتحيا في حريةٍ وسلام وتطور دائم. لكنها على رغم كل الرفاه والرغد؛ لا تكفّ عن التذمر! على الضفة المقابلة للمتوسط نفسه، هناك في الجنوب والشرق تقبع مجتمعاتٌ لا تكف عن التظلّم من عفونة واقعها، ولا تتفوق على الغرب إلا بافتعال الحروب، وبتزايد سكاني غير محدود، بينما تتداعى أرواح هؤلاء السكان تحت وطأة الإحباط والبؤس والفقر والتمرد والتعصب والفوضى والغضب والعنف والجهل والأمراض، وتخنقها حكومات مستبدة وظالمة وفاسدة ومستهترة بكرامة الإنسان، فلا يعود من خلاصٍ لهؤلاء المساكين بسوى محاولة الهرب نحو جنة الشمال.

ولكن: ما الذي يقدّمه العالم المتحضر حقاً لهذا العالم المتخلف، شريكِه على هذه الأرض؟! هو يصدر إليه إنجازاته العلمية، ويمنحه المساعدات المالية والقروض التنموية ودورات ومنحاً تعليمية لأبنائه، ومساعدات كثيرة أخرى في السياق نفسه. فهل يطمع العالم المتحضّر حقاً إلى الأخذ بيد العالم المريض نحو العافية، ثم إلى ردم الهوة الهائلة بين الضفتين؟! يخلص معلوف إلى أن هذه الدول لا تبغي أكثر من تأمين حدودها مع جارها المتخبّط، لعل ذلك الصراخ يخفت هناك على تلك الضفة الأخرى التعيسة ولا يعود يؤرق سمعها أو ضميرها. بينما في واقع الحال سيظل يتقاسم كرتَنا الأرضية معسكران منغلقان، وبشريتان مختلفتان لا بشرية واحدة، وفي كل يوم تبعد بينهما المسافات، وتعمق بينهما الهوة.

أذكر تجربة على هذا المنوال في السنوات الخمس الأولى من ألفيتنا الجديدة، حين تم التعاقد على مشروعٍ إنتاجيّ (دعم القرى الحدودية وتنميتها) بتمويل من الحكومة الإيطالية وإشراف جمعية مدنية هي جمعية تنظيم الأسرة السورية على تنفيذه.

كان مشروعا بسيطاً لكنه غيمة صغيرة أمطرت أغزر من حكوماتنا بكثير. رصدت الحكومة الإيطالية لهذا المشروع ما يبدو لنا أنه الكثير من الدولارات، لكننا لا نعرف ما الذي قد يساويه في موازناتهم هناك في إيطاليا! المهم أنه تم انتقاء أفقر ثلاث قرى في محافظة السويداء على حدود سوريا الجنوبية مع الأردن، واختير لإنجازه أطباء ومهندسون زراعيون ومرشدون نفسيون أكفاء. واستدعيت النساء في كل قرية للاستماع إلى محاضرات التثقيف حول صحة الأم والطفل، وخطورة الزواج والحمل في عمرٍ مبكر وفوائد الإقلال من المواليد، وضرورة استقلال المرأة اقتصاديا، وتعليمها على القيام ببعض المشاريع التنموية المنزلية (صناعة الألبان والأجبان مثلاً، أو تعليب الخضر والفاكهة في ظروف المنزل) وتشجيعها على اتخاذ قراراتها باستقلالية. نفذ البرنامج جاهزا هكذا كما ورد من المصدر من دون إضافة أو اجتهادات فائضة. وفي نهايته أعطيت كل امرأة هبة مالية متواضعة توظّفها في ما ترغب، كاقتناء ماكينة للخياطة أو تربية بضعة رؤوس من الغنم أو الماعز أو حتى بقرة، أو تبدأ بزراعة أرض لها وتشرف عليها بنفسها. لكنها مجرد ثلاث قرى ومجرد مشروع تم تنفيذه خلال شهور ولن تعقبه أي متابعة، بينما ستهنأ تلك الحكومة كونها أرضت ضميرها (التواق إلى فعل الخير).

في مأساتنا السورية الحاضرة تفيق في الذاكرة كل تلك الصور في رواية أمين معلوف، أو تلك التجربة الفردية في دعم القرى الحدودية الشديدة الفقر، وكأن ما تقدمه حكومات الغرب للسوريين في محنتهم الحاضرة ليس أكثر من استمرار حرفيّ للنهج السابق الذكر، من دون أدنى تفعيل أو شدّ للأحزمة، بينما تلتهم النار سوريا كلها أرضا وبشراً. وإن كان ثمة تفعيل؛ فإنما يصب حصرا في مصلحة تلك الدول لا في مصلحة البلد المنكوب.

كم هي الأمثلة كثيرة ولا يتسع لا مقالٌ ولا قلبٌ لذكرها كلها. لو أخذنا منها هجرة العقول، التي بدأت منذ أواسط القرن الماضي. شبابنا الذي هاجر في طلب العلم إلى أوروبا وأميركا لم يعد منها بعد انتهاء دراسته. لم يكن ثمة ما يغريه بالعودة إلى مستنقع العالم الثالث ما دام قد خبر هناك بلداً يحترم إنسانيته وكفاءته. بعضهم حاول العودة لكنه لم يحتمل الإهانات التي صفعته فور وصوله. وهو في النهاية إنسانٌ له أولوياته. سيؤثر حريته الشخصية واحترام تحصيله العلمي أكثر من أن يجعل من نفسه كبش فداء رخيصاً لن يبالي بتضحياته أحد.

مع القصف الذي يعصف بسوريا منذ سنتين، والذي تسبّب بنزوح الملايين إلى دول الجوار، كم منهم حظي بفرصة اللجوء إلى بلد أوروبي؟! هناك دولةٌ مثلا تعلن أنه ليس في مقدورها استضافة أكثر من 130 لاجئاً سوريا، فهل تختارهم من الفقراء أو المحدودي الذكاء أو الإمكانات؟ أو من المنكوبين أو ضحايا الحرب خدمةً للإنسانية؟ هي أذكى بكثير من أن تضيف أعداداً باهتةً إلى مواطنيها الذين تريدهم جميعاً مشرقين! قد ترحّب بالأغنياء، الفاحشي الثراء أو بالعباقرة العلماء أو المتميزين في أي مجال. وردتْ أنباء أن سفارة ألمانيا في لبنان تولّت أمر كثيرين من الطلاب النازحين إلى لبنان. اختارت المتميزين منهم في مرحلة الدراسة الثانوية ليتابعوا تعليمهم في ألمانيا. شكراً لألمانيا التي تستحق الشكر. لكنه سؤالٌ غير بريءٍ يطرح نفسه: هؤلاء الطلاب الذين هشلوا مع أهاليهم من بيوتهم المحروقة؛ غادروها مرعوبين ومطاردين ومهددين في أمنهم ولقمتهم ومأواهم وحياتهم، وهم لا يزالون في بداية مواعيدهم مع الحياة، هؤلاء الذين ستُصان إنسانيتهم في ألمانيا، وسيكملون تفوقهم في الدراسة فيها، وسيدخلون أفضل الجامعات وسيجدون من يقدّر مواهبهم ويمنحهم حين التخرج فرصاً ممتازة للعمل وفق اختصاصاتهم، وسيكونون قد ألفوا عادات وطنهم المضيف، وربما حازوا جنسيته، وبالتأكيد لا يزال في وجدانهم نحوه أعمق الامتنان. كم منهم من يفكر في العودة إلى سوريا؟! وكم منهم يعود حقاً؟! أي جدال عنيف سيظل يؤرقه بينه وبين نفسه كل ليل سواءٌ أعاد أم لم يعد؟! لماذا لا نفطن إلى أن الحكومة الألمانية قد استوقفتها هذه الأسئلة كلها قبل عزمها على “إنقاذ مستقبل الشباب السوري”، وحدست، مسبقاً، جميع الأجوبة عن هذه الأسئلة المريرة، واستثمرتها للاستئثار بكفاءاتنا الوطنية التي كانت ستعلي من شأن أوطاننا، ولتعلن بعالي الصوت أنها المحسن والكريم وفاعل الخير والشهم، وراعي الأفكار والعقول، ومنقذ المضطهدين؟

هل تفكّر المؤسسات الإنسانية الغربية أو الحزبية مثلاً بالضغط على حكوماتها لاتخاذ إجراءات فعليّة لوقف استبداد حكومات العالم الثالث بمواطنيها، حتى لو تعارض ذلك مع مصالح الغرب السياسية والاقتصادية؟ بدلاً من أن تمنح المفكرين والسياسيين والأدباء والمعارضين السلميين، ومعتقلي الرأي السابقين لجوءاً سياسياً أو إنسانياً مع منحة للعيش لهم ولأسرهم ليمكنهم هناك في الغرب التفرغ للإبداع والبحث في قضايا بلادهم؟! وهؤلاء اللاجئون؛ هل أيضاً يعودون مع عائلاتهم إلى هذا الشرق الذي لا ينجز حرباً قبل أن يستخلفها بحرب؛ أم يكملون حياتهم في المهاجر ويكتبون فيها كل يومٍ عن الحنين إلى الوطن؟! هل يرجعون ويعمرون بيوتهم أو يطلقون أصواتهم في مقاهي مدنهم بأحاديثهم الرفيعة وبأفكارهم السابقة لأزمانهم؟!

لا مناص! سيظل هذا البلد الثاكل يفتقد القدوة والطليعة والنخبة بينما النخبة والطليعة غارقة هناك بعيداً في حنينها ولا تزور بلادها إلا لتشييع أمهاتٍ أو أباءٍ قتلهم الشوق إلى أبنائهم مثلما أنهكهم شظف العيش. أو قد تحلّ هذه النخبة ضيفةَ شرف في مهرجانات الأدب والسينما والمسرح، وما إن ينتهي الاحتفال حتى تغادر من جديد إلى غير عودة.

لقد قالها لي شاعر صديق مهاجرٌ إلى أسوج: سأظل أكتب عن حنيني إلى عامودا إلى أن يقضي الله. لكن لن أفكر يوماً ولو في زيارةٍ لسوريا أو لإحدى الدول العربية، فضلا عن العودة للعيش فيها!

فهل حقا تؤرقهم مصائرنا أم أنهم يطعنوننا مرتين؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى