صفحات سوريةنجاتي طيّارة

هل فات الأوان في سورية؟/ نجاتي طيّارة

 

يوشك سوريون كثيرون على الاعتقاد بأنه فات أوان استعادة وطنهم، بأرضه الموحدة، وفق واقع ما قبل الثورة، أم وفق ما رسمته خارطة سايكس ـ بيكو الشهيرة، والتي قُضمت في الإسكندرون ثم في الجولان، ثم تفرقت بين سلطات الواقع ما بعد الثورة. وذلك فضلاً عن استعادة مشروع المواطنة السورية التي بقيت حلماً، ولم تتحقق يوماً ما، بما تعنيه من مساواةٍ وعدالةٍ في الحقوق والواجبات، وحياديةٍ للدولة السورية العتيدة، وأجهزتها، تجاه جميع مكونات الشعب السوري من طوائف دينية وقوميات إثنية، وغيرها.

وإذا كانت مسؤولية السوريين عن سوريتهم أمراً بديهياً، لا معنى ولا قيمة للتهرب منه، فإن نظرية المؤامرة كثيراً ما تسمح لبعضهم بالتهرب من مسؤوليتهم، وتحميلها بسهولة للأعداء الطامعين بالمنطقة، وشعوبها وثرواتها، وهم متوفرون دوماً بطبيعة الحال، لكن المعنى والقيمة مفقودان في أي حديث عن مساواة في مسؤولية القيادات والنخب الحاكمة، مع جماهير الشعب والعامة. إذ ستبدو هذه المساواة في المسؤولية فجائعيةً، قبل أن تكون مضحكة، وتماثل المساواة بين ركاب السيارة وسائقها، وهي آيلة إلى التدهور، إلا إذا كان المفروض بالركاب أن يقذفوا أنفسهم من السيارة، قبيل تدهورها، وفي ذلك انتحار أكيد، أو النزول منها، وعدم ركوبها أصلاً، وذلك ما يشبه الخروج من الوطن إلى المنافي، والبحث عن خلاصٍ فردي، صار إلى غربة وشتات تاريخي.

اليوم، يرسم الصراع بين الثورة والنظام استقطاباً، أخذ سورية والسوريين إلى جحيم ومشروع نكبة، تكاد تتجاوز النكبة اليوغسلافية والرواندية ونكبة إفريقيا الوسطى، وتفوق بعضها من حيث الضحايا والدمار، إن لم تتجاوز النكبة الفلسطينية من حيث الزمن والشتات. فمن الواضح بعد سنوات ثلاث من الصراع، أن أياً من طرفيه لا يستطيعان تحقيق الانتصار على الطرف الآخر، على الرغم من وهمه عند النظام في القصير ويبرود، والهدنات التي تحققت في عدة مناطق، قد تشمل حمص خلال أيام، وكذلك وهمه عند المعارضة في الساحل وحلب ودرعا، كما أنهما لم يعودا يستطيعان التراجع أيضا.

ولم يكن فشل مؤتمر جنيف 2 إلا مجرد مناسبة إعلامية، لتأكيد ذلك الاستقطاب، فالصراع السوري تحول لعبة إقليمية ودولية، معترفاً بها، وصار أكثر من صراع بين أطراف داخلية، فخرج قراره، إلى حد كبير، من أيدي هذه الأطراف، كونها دخلت في صراع حياة وموت، أو وجودٍ أو عدمه. فافتقد ذلك الصراع، بعنفه العسكري، كل سياسةٍ تسعى، بطبيعتها، إلى حلول مرنة، ولم يكن ممكناً الاستمرار فيه، من دون دعم ومساندة وتدخل من حلفاء الطرفين وأصدقائهما، مع اختلاف طبيعة ذلك الدعم، ومستواه، بين من يقف خلف كل من الطرفين. أما جماهير الشعب السوري وأفراده، فليس لهم سوى الهرب إلى معسكرات اللجوء والمنافي، أو البقاء تحت رحمة آثار الصراع وتمرير حياته، لكي يعيشوا ذلك الشقاء المتراوح بين حد الموت والاعتقال والخطف وكل الفظاعات التي لم تكن تخطر على بال، من جهة، وحد ادعاء تمرير البقاء على قيد الحياة، يوماً بعد يوم، لكن، بتكاليف باهظة، من حيث الغلاء المتصاعد، أو من حيث الشعور بالكرامة المتدهورة.

بطبيعة الحال، لا يمكن لعاقل المساواة في المسؤولية بين كل من طرفي الصراع في ما وصلنا إليه، فالنظام الذي رفض كل إصلاح قبل الثورة، لم يستخدم، بعدها، إلا الحل الأمني. ولا حاجة لتكرار الحديث عن قصة السلمية، والعسكرة المعترف بها من كل الملاحظين. لكن، هناك حاجة حقاً لملاحظة أن فشل النظام في إعادة الناس إلى بيوتهم، وصمتهم التاريخي السابق، دفعته، بإصرار، إلى متابعة ذلك الحل الأمني، واللجوء إلى عنفٍ، فاق كل حد مسبوق، وعرفه التاريخ، ما أكد طبيعته المستعصية على أي حل سياسي. فدفع، بذلك، إلى رد فعل طبيعي، تجاوز في ظل ظروف التدخل الخارجي كل حد طرحته التصورات الأولية للثورة.

أذكر، في هذا المجال، أنني كنت في إطلالاتي على قنواتٍ تلفزيونيةٍ عربيةٍ وعالمية، في الأشهر الأولى من الثورة، أردد العبارة التالية: على الرئيس أن يقود حواراً وطنياً، إن فاته في أول الطريق، فالآن منتصفه، خوفاً من أن يفوت أوان ذلك في آخر الطريق. وتصادف أن كررتها على قناة الحرة، قبيل اعتقالي عصر يوم 12/5/2011 بنصف ساعة. وواضح، اليوم، أن أوان ذلك الحوار قد فات، وأن الرئيس صار مجرماً فقط، ينبغي أن يطلب للعدالة، طال الزمن أم قصر. لن تغير في ذلك شيئاً مهزلة الانتخابات المقبلة، والتي سينجح فيها بالتأكيد، ولو بنسبة أقل من نسب الـ 99% المعتادة فيها. كي يدّعي تحديث نظامه وشرعية استمراره، والتي كشف التدخل الصريح لحلفائه عن فقدانه القدرة الذاتية عليها.

وإذا كان سؤال فوات الأوان منتهياً، بالنسبة للرئيس وبطانته، وكل من هو مسؤول عن سفك دماء السوريين، فإنه ما زال مطلوباً من باقي السوريين، وخصوصاً من كل من يلعبون دوراً قيادياً، أو يمكن أن يلعبوه، في كل من جانبي الصراع.

ذلك أمر، إذا كان من الصحيح أنه لا يمكن الاكتفاء بالإجابة عنه، بالكلام والنداءات والبيانات، قياساً على المثل الشعبي السوري: ليس على الكلام جمرك. فالمطلوب هو القيام بالأفعال والأدوار العملية. ومن الصحيح، أيضاً، أنه يمكن أن يبدأ بكلام من نوع آخر، وهو كلام يشبه الفعل، أو يسبقه. فكما قالت العرب قديماً، أول الحرب الكلام، يصح اليوم القول: تنتهي الحرب بالكلام. عندها سيجلس المتحاربون إلى مائدة الوطن، يعتذرون عن جرائم ارتكبها بعضهم، أو معظمهم، ويطلبون من ضحاياهم السماح، لتبدأ بعدها مرحلة عدالةٍ انتقاليةٍ سريعة، تلتئم فيها الجراح، وتُرد المظالم، ويتم التعويض عن الضحايا من كل الأطراف، كما يكرم الشهداء الذين عمّدوا بدمائهم طريق التغيير، والذي سيؤكد أن هناك مشتركاً سورياً، ومشروع مواطنة سورية، ما زالت مطروحة، على الرغم من كل ما حدث، ويحدث، من آلام. ولعل في مثال عودة طائر الفينيق السوري إلى الحياة خير معبّر عن الأمل بولادة جديدة للسوريين، لم يفت أوانها بعد.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى