صفحات الرأي

هل كفرنا بالديمقراطية؟/ صادق الطائي

 

هل حقق الانتقال إلى نظم أكثر ديمقراطية في منطقتنا تغييرا على مستوى حياة الفرد؟ هل تحققت مطالب الشارع بأن يصبح تداول السلطة سلميا؟ وهل يؤثر ذلك على حياة الانسان العربي اليومية ومتطلباته الحياتية؟

هل يمكن اختصار الديمقراطية ببعض شروطها كصندوق الانتخابات؟ هل شعوبنا ما تزال غير مؤهلة لخوض تجربة الديمقراطية الحقيقية؟ وهل نحن أسوأ من مجتمعات اخرى مرت بظروف مشابهة لظروفنا في الشرق الاقصى، وفي إفريقيا وامريكا الجنوبية وحققت نجاحات ملحوظة في التحول الديمقراطي؟ لماذا نجحوا وفشلنا في ذلك؟

الكثير من الاسئلة تطرح بلجاجة بعد اكثر من عقد على غزو العراق واطاحة نظام صدام حسين والتبشير بتحول العراق إلى دولة نموذجية في الانتقال نحو الديمقراطية والتنمية، لكن المسيرة ما تزال متعثرة، بل ربما تومئ إلى اختفاء الدولة ذاتها كليا من على الخريطة. وبعد خمس سنوات على موجة الانتفاضات الشعبية التي عمت المنطقة وعرفت باسم «الربيع العربي» نرى حال دول الربيع العربي وهي تمر بأزمات خانقة جعلت شعوبها تترحم على ايام النظم الشمولية، ما هو السبب؟ أين يكمن الخلل؟

بالقاء نظرة سريعة على تاريخنا القريب، نعرف أن المنطقة خرجت من انظمتها القديمة ودخلت في عصر الحداثة بعد الحرب العالمية الاولى، وما انتجته من احتلال الدول الاوروبية وتوزيع ممتلكات الدولة العثمانية بينها، ثم ما لبثت الدول الكولنيالية أن خلقت دولا رديفة وحليفة لها، تربطها معها احلاف عسكرية ومعاهدات اقتصادية تضمن بها مصالحها، وفي ظل الاحتلال والانتداب والاشراف الغربي ولدت (الدولة /الامة) القومية، ومن رحمها ابتدأت مرحلة تكوين أطر الدولة الحديثة بمفاهيمها السياسية القائمة على مدلولات لم تكن موجودة فيما سبق، مثل الامة والدستور والمواطنة والاحزاب والانتخاب والاغلبية السياسية، وتبلورت على هذا الاساس حركات سياسية وفكرية كرست مفهوم الديمقراطية الليبرالية، ولاننا متأثرون ومنفعلون بمصدر التغيير الخارجي، ما لبثت الحركات القومية الشوفينية التي اجتاحت اوروبا ما بين الحربين أن انعكست على بلدان الشرق الاوسط وشمال افريقيا وتبنتها احزاب محلية رأت في النموذج الالماني النازي والايطالي الفاشي مثالا يحتذى ونموذجا مثاليا تنطبق شروطه على ظروف العرب، ويمكن تحقيق النهضة من خلال منهجيته السياسية. وابتدأت التغييرات على يد العسكر في دول المنطقة مع او بعيد الحرب العالمية الثانية، في العراق اولا، عبر انقلابي 1936 و1941 الفاشلين، ثم في سوريا في انقلاب حسني الزعيم 1949، ليأتي سيد الانقلابات ونموذجها الذي تحول إلى ايقونة الانقلابات اللاحقة، انقلاب 1952 في مصر، لتكر بعده انقلابات الضباط الاحرار في كل المنطقة، ونتيجة توازنات الحرب الباردة منذ خمسينيات القرن الماضي حتى تسعينياته.

عاشت وتوالدت انظمة العسكر دون أن تتمكن القوى المدنية من ازاحتها، ومن فكر في ذلك لقي حتفه قتلا او اعتقالا وتعذيبا، ومن قاد محاولات التغيير ومزاحمة أنظمة العسكرتارية كانا تيارين اساسيين، الماركسيين والاسلاميين، ولم يصل كلاهما إلى سدة الحكم في اي دولة عربية، هذا اذا استثنينا التجربة المشوهة في اليمن الجنوبي.

مع انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، الذي سبقه انتصار الثورة الاسلامية في ايران وظهور الجهاد الاسلامي في افغانستان، دق ناقوس التغيرات الذي تزامن مع عويل المعارك عندما اجتاح صدام حسين الكويت، هذا الاحتلال الذي مثل نقطة فجرت مستقبل المنطقة وابتدأ منها تاريخ التغيرات المتلاحقة والسريعة، لم يسقط نظام صدام بعد خسارته معركة احتلال الكويت، رغم الانتفاضة الشعبية التي سيطرت على جنوب البلاد وشمالها، وبقي في حالة موت سريري على مدى 13 عاما اخرى، حتى اسقط عام 2003 على يد تحالف تقوده الولايات المتحدة، وتسارعت الخطوات نحو التغيير الديمقراطي، واصبحت شعوب المنطقة تطالب بالديمقراطية، وفي اغلب الاحيان دون أن تعرف لماذا، على الجانب الاخر، كل النظم الشمولية التي تعفنت انظمتها عبر حكم امتد لعقود رسخت في وعي مجتمعاتها أن الديكتاتور هو النموذج الوحيد الممكن في حياة دولنا، وطرح الديكتاتور معادلة تكاد تكون موحدة في دول المنطقة مفادها (أنا أو الفوضى).

ومع تراجع دور اليسار الملموس في الساحة السياسية العربية، اصبح تسويق بعبع الاسلاميين بضاعة الديكتاتور الاساسية في حواره مع الغرب عبر تغذية نزعات الاسلاموفوبيا وتسويق صورة الديكتاتور حليف الغرب المضمون، رغم كل سيئاته، لانه الوحيد القادر على أن يلجم قوى التطرف الاسلامي، فاذا ما اطيح به فإن الفوضى مقبلة لا محالة.

الاسلاميون بدورهم ومع تنوع طيفهم من اقصى «التشدد السلفي» حتى اقصى «اليسار الاسلامي» كان موقفهم غائما من الديمقراطية، فمرة يطرحون شعارات فضفاضة مثل (الاسلام هو الحل) ومرة يتعكزون على تخريجات لا ماهية لها باستنباط معطيات مثل (الشورقراطية بديلا عن الديمقراطية الغربية) او (القرآن دستورنا ) مما جعل حملات الديكتاتوريات تفلح في تأجيل التغيير طوال عقد التسعينيات، ولنا فيما حصل في الانتخابات الجزائرية في مطلع التسعينيات نموذج دال على ذلك، ومع أن بعض الفصائل الاسلامية دخلت اللعبة السياسية الليبرالية بشروط النظام، الا أن ذلك كان هامشا في الحراك السياسي وليس متنا، والمثال الاهم هو ما حصل مع جماعة الاخوان المسلمين المحظورة في مصر، التي فازت بـ 20% من مقاعد البرلمان في انتخابات 2005 مع اول انفراج، أو هامش حرية سمح به النظام، ومع أن الاسلاميين دخلوا اللعبة على انهم مستقلون، والنظام يعرف جيدا أنهم اخوان، والاخوان يعرفون أن النظام يعرف انهم اخوان، في لعبة مخاتلة سخيفة فرضتها شروط «الاستقرار السياسي» القلق الذي حاول أن يتمسك بمعطيات بقائه القائمة على توازنات الحرب الباردة التي لم تعد موجودة اصلا.

حصل الزلزال واجتاح التغيير المنطقة، ولأن الاقوى شعبيا هو من يسيطر على المشهد، لذلك تقدم الاسلاميون الصفوف بفضل تنظيماتهم التي خرجت من تحت الارض بكامل أهليتها، مقارنة بقوى اليسار التي اعتاشت على موجات الحنين النخبوي وتراجع ادائها الشعبي، وحركات ليبرالية طرية ماتزال تتلمس اولى خطواتها. الاسلاميون سيطروا على مقاليد الحكم في العراق بعد التغيير، وكذلك في مصر بعد ثورة يناير، وفي تونس وليبيا واليمن، كما مثلوا دور اللاعب الابرز الذي ابتلع تمثيل معارضة النظام السوري، بل حتى الدول التي لم يشملها الزلزال فاز الاسلاميون في انتخاباتها، او كادوا كما حصل في المغرب والاردن وفلسطين – في قطاع غزة تحديدا- ناهيك عن دول مجلس التعاون التي لم يعد خافيا دعمها لمختلف تيارات الاسلام السياسي، بحسب الاجندات التي تتماشى مع توجهاتها السياسية.

وفشل الاسلام السياسي فشلا ذريعا في ادارة الدول التي سيطر عليها سياسيا، فبعد أن اطلق بعض رموزه من مشايخ الفضائيات على الاستفتاءات والانتخابات اسم (غزوة الصناديق) في تلبيس واضح لمفاهيم حديثة مع مفاهيم قروسطية تشير إلى التغالب لا التعايش في ظل قيم الحداثة، وبعد أن بات واضحا أن تيارات الاسلام السياسي تتخذ من آليات الديمقراطية مطية توصلها إلى سدة الحكم، لتنقلب بعدها على الديمقراطية وقيمها. والنتيجة التي وصلنا لها هي كفر رجل الشارع بـ»الربيع العربي» ونتائجه، حيث بات الانسان البسيط يرى أن الأنظمة العلمانية السابقة مهما كانت سيئاتها، كانت أفضل من البديل الاسلاموي، وانتشرت نظرية المؤامرة بشكل مخيف، حيث بات اتهام الغرب بالمسؤولية عن تكوين التنظيمات المتطرفة ودعمها لتحطيم دولنا امرا مفروغا منه وغير قابل للنقاش، وان مصلحة اسرائيل هي السبب الرئيسي وراء تحطيم انظمة كانت مستقرة، حتى إن كان فيها «بعض السلبيات» لكنها كانت قادرة على الوقوف بوجه الكيان الصهيوني، واخذت الانظار تنتقل إلى تجارب «نهضوية» تمت بدون الحاجة إلى «مآسي» الديمقراطية، مثل التجربة السنغافورية والتجربة الصينية الحديثة، والتركيز على ما يمكن تسميته بالحكم الرشيد الممسك بقوة بزمام الادارة والضارب بقوة على يد الفساد، الذي اصبح السمة الاساسية المتزامنة مع انتشار فوضى ديمقراطياتنا المعاصرة. ليبقى السؤال يدور باحثا عن اجابة دون جدوى، هل تطبيق الديمقراطية صعب التنفيذ في بلداننا؟ أم اننا مانزال دون مستوى تحمل المسؤولية في تطبيقها؟

كاتب عراقي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى