أكرم البنيصفحات سورية

هل من أفق لحرب باردة جديدة؟!


أكرم البني

أعجب لمن راح يفرك يديه فرحا بعد فوز بوتين، معولا على دور عالمي جديد للاتحاد الروسي استنادا إلى تواتر خلافاته مع الغرب على عدد من القضايا، وأهمها الوضع السوري، وكأنه يمنّي النفس بأن يشهد العالم في يوم قريب عودة محمومة إلى سباق التسلح وأجواء الحرب الباردة، وما قد يتركه تفاقم الصراع بين القوى العظمى من هامش حركة وحماية لأنظمة استبدادية اعتادت أن تعتاش على خلافات الآخرين، ولا تزال مفتونة بلغة القوة والمكاسرة لتحقيق الغلبة، فمثل هذا الرهان لا أساس له في الظروف الراهنة ولا حظ، بل هو نوع من التبسيط اعتبار الموقف الروسي من المسألة السورية منعطفا نوعيا أو بداية لمرحلة جديدة، عنوانها القطيعة والجفاء مع الغرب بدل الحوار والتشارك، والأرجح أن الخلاف بين الطرفين لن يتعدى حقل التنافس المدروس والتنازع الآمن على بعض حصص السيطرة والنفوذ، في ظل تشابك مصالحهما وتنامي قدرتهما على احتواء الأزمات.

صحيح أن روسيا تبقى منزعجة بشدة من خسارتها الحرب الباردة، ويتملكها حنين قوي إلى وزنها وموقعها العتيق، وأنه لا يرضيها تفرد الغرب بالهيمنة على المسرح العالمي، وصحيح أن انزعاجها الأكبر وسخطها الأشد إنما ينبعان أكثر من أي شيء من ازدياد النفوذ الغربي في محيطها الجغرافي وسعي أميركا لتنفيذ مشروع الدرع الصاروخية في بلدان أوروبية كانت حتى الأمس القريب تدور في الفلك الروسي، لكن الصحيح أيضا أن روسيا اليوم ليست مؤهلة للعب دورها القديم، ولنقُل ليست بوارد العودة إلى احتلال موقعها كقطب عالمي منافس، وتاليا من المبالغة التسرع في رسم صورة لمستقبل قريب يعود فيه الصراع الغربي – الروسي ليكون سيد الموقف، ومن الخطأ أن تخدعنا عبارات أطلقت لفائدة انتخابية، غرضها الإيحاء بأن سياسة بوتين وميدفيديف تمكنت من إرجاع روسيا إلى موقعها كقوة عظمى، ونجحت في إجبار العالم كله على احترام كلمتها، فكم من مواقف واندفاعات هجومية جربتها قيادة الكرملين في غير مناسبة وتراجعت عنها بسرعة لافتة لحساب دعوات التشارك والتعاون، ولنتذكر جميعا ما حل بتهديدات موسكو وتصريحاتها النارية ضد الدرع الصاروخية؟!

لكن ومثلما يجب الاعتراف بأن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفياتي في حقبتي السبعينات والثمانينات، يجب الاعتراف بأنها ليست روسيا التي انكفأ دورها أواخر القرن الماضي، بل هي دولة نجحت في معالجة أوضاعها الاقتصادية المتعثرة، وتمكنت من تسديد غالبية ديونها وبدء مرحلة من التطور المستقل والازدهار، ربما ساعدها في ذلك الارتفاع الكبير في أسعار النفط، لكن أساسا تحررها من أعباء دورها العالمي، وهي تاليا تقف اليوم في وضع يؤهلها للعب دور عالمي أكبر قليلا من الماضي على حساب التراجع النسبي في أداء الغرب، بسبب أزمته الاقتصادية المتفاقمة منذ سنوات، وبسبب تكلفة التفرد الباهظة في قيادة العالم، والحرب الواسعة ضد الإرهاب، والفشل في تحقيق النتائج المرجوة من الحربين على أفغانستان والعراق.

الهاجس الرئيسي لإدارة الكرملين ليس المبادئ بل ضمان استقرار مصالحها وتطوير سياسة تحمي هذه المصالح وتنمّيها، سياسة أقدر على التعاطي براغماتيا مع أزمات العالم، وتتطلع لأن تؤخذ مصالحها في الحسبان في تقويم الأزمات الإقليمية واحتمالات تطورها، ومن هذه القناة يمكن النظر إلى خلافاتها مع الغرب، بشأن المسألة السورية، واستخدامها كورقة ابتزاز لتشجيعه على الدخول في شراكة بعد أن خرجت بخفي حنين من ليبيا، بل يجوز تصنيف هذه السياسة في إطار البحث عن شروط جديدة لعلاقة بين الطرفين، ودعوة مستمرة للتعاون، وباب مفتوح أمام طريق المساومات الذي قد يفضي، في وقت قريب، إلى توافقات جديدة تناسب الطرفين. فموسكو اليوم تبدو كما لو أنها تريد دفع لعبة المصالح إلى مستوى أعلى، وتوسيع رقعة المنازعة على الحصص والدور، لكنها في الوقت ذاته غير قادرة على دفع هذا التحدي كثيرا إلى الأمام، ولعلها أيضا بعد خلاصها الصعب من الكارثة الاقتصادية التي حلت بها إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، غير راغبة في تغيير مسارها التنموي الواعد والانتقال إلى مرحلة جديدة من سباق التسلح وسياسات التحدي، فقد جربت هذا الخيار طويلا ولم يفض إلى نتيجة سوى ما كابده الشعب الروسي من العذاب والمعاناة!

في ضوء ما سبق، لا يصح القول بأن ثمة حربا باردة جديدة تلوح في الأفق، لكن ربما يصح التساؤل: هل نشهد اليوم طي مرحلة تجاوزت العقدين من الزمن سيطر فيها القطب الواحد وبدأ التفرد الأميركي ينحسر لصالح رؤية جديدة تحمل صورة من صور الشراكة والتعاون بين الدول العظمى، وهل يعيد هذا الجديد للأمم المتحدة ومجلس الأمن دورهما في خلق الحلول والتوافقات حول الملفات الساخنة، أم لا يزال مثل هذا الاستنتاج مبكرا، ولا تزال التوجهات الجديدة للسياسات العالمية تشاد فوق رمال متحركة، ولما تعرف بعد معنى الاستقرار؟!

والنتيجة أن موسكو اليوم استفادت من التراجع الغربي، لكن ليس لحساب عودتها لاحتلال موقع القطب العالمي المعارض، بل إن قيادة الكرملين تعرف أكثر من غيرها، خطورة التظاهر أن بلادها باتت الدولة العظمى المقررة كما كانت أثناء العهد السوفياتي لمجرد أن الدولة الأميركية التي كانت تستفرد بمكانة الدولة العظمى قد أصابها بعض الإنهاك وتراجع دورها، وهي تعرف جيدا أن الشراكة والتعاون مع الغرب هما الطريق الأسلم بدلا من الانبهار بتفوق واهم وعابر، وتعرف أيضا أن استخدام نبرتها «السوفياتية» في التحدي لا يمكنها، وحتى إشعار آخر، أن تتجاوز حدودا ترسمها موضوعيا توازنات القوى القائمة على الأرض.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى