صفحات سوريةطيب تيزيني

هل من “دولة” طائفية محتملة؟


د. طيب تيزيني

مع تعاظم الصراع العسكري الأمني في سوريا تتعقد الأحداث على الأرض، كما تتسع رقعة التساؤلات حول مصير “الدولة” المحتملة، يداً بيد مع بروز مشكلات هي، في أساسها، غريبة على التاريخ السوري الحديث والمعاصر تحديداً، وفي مقدمتها مشكلة الطوائف والدول الطائفية. ولا سبيل هنا إلى تجاوز السؤال التالي، ذي البعدين الاثنين: هل استطاعت اتفاقية “سايكس بيكو” الفرنسية الاستعمارية تحقيق “دولة طائفية” في سوريا سُنيّة أو علوية أو درزية…إلخ، وفي الشق الثاني يبرز السؤال فيما إذا كانت هذه “الدولة” الطائفية قد مثّلت مشروعاً “وطنياً” لدى فريق أو آخر؟

إن الإشكالية السابقة، بما يلحق بها من حيثيات، ظهرت بالتاريخ السوري الحديث والراهن في حالتين اثنتين، حالة ارتبطت بالمشاريع الاستعمارية، وأخرى ظهرت مقترنة بحلول طرحتها نظم ديكتاتورية واستبدادية بوصفها (أي الحلول) طريقاً إلى إحكام السيطرة على الشعب السوري. وفي كلتا الحالتين، ظهر الانتماء الديني والآخر الطائفي بوصفهما طريقين إلى تحقيق ذلك. فكما أشرنا إلى “سايكس بيكو” على أنها المشروع الفرنسي لتفتيت سوريا وفق طوائفها (وهذا فشل فشلاً ذريعاً)، فكذلك نشير إلى ما أخذ يطرح نفسه بسوريا في سياق الانتفاضة الثورية وضدها تحت عبارة “ضرورة تحرير الطوائف الصغيرة من هيمنة الطائفة الكبيرة”.

فإذا أخفقت الطائفية من الخارج، فإنها تجد نهاياتها في الداخل الآن وغداً. فلقد كان إجماع على إدانة الطائفية في سوريا بوصفها مشروعاً استعمارياً، وذلك الإجماع الذي ظهر خصوصاً عبر رجال سوريا الكبار في حينه: سلطان الأطرش، وصالح العلي، وفارس الخوري، ويوسف العظمة، وإبراهيم هنانو وغيرهم، كان هنالك المشروع الاستعماري ومنه الصهيوني، الذي حاول حتى بالسلاح إخراج سوريا من الامبراطورية العثمانية الآخذة بالتفكك ومن الحرب الأولى والثانية، مقسمةً متهالكة.

وإذ نجح الاستعمار الغربي في تمزيق الوطن العربي، إلا أنه ظل عاجزاً أمام تقسيم سوريا إلى دول أو كانتونات طائفية، بل إن تحقيق استقلالها عام 1946 كان منطلقاً لمشروع وطني، لم يستمر طويلاً. فلقد جاءت الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958 لتحقق مدخلاً إلى الوحدة العربية، لكن بعد أن انتُزع من القطرين ما يوطّد وحدتهما، وهو المجتمع السياسي والحراك السياسي والتعددية السياسية الحزبية.

ولم يطل الأمر كثيراً، فجرى تفكيك الوحدة، لتدخل سوريا مرحلة جديدة اتّسمت بالضعف، بحيث قاد ذلك إلى إدخالها ثانية في عجلة الانقلابات العسكرية. وتأتي ثالثة الأثافي حين ينجح انقلاب عام 1963، لينشأ مشروع غير مسبوق يُدخل سوريا في حالة جديدة من الحكم السلطوي، ونعني بذلك حكم الدولة الأمنية، التي تتجاوز مطامع الدولة الانقلابية العسكرية. لتؤسس، بقوة وبشمول، لسلطة كلّية لم تعد تكتفي بالنظر إلى خصمها متمثلاً في طُغَمٍ عسكرية ومدنية انقلابية. لقد ظهر “الخصم الجديد” متمثلاً في المجتمع السوري برمته، وإذن يجب أن تجفف سوريا من كل المشاريع التغييرية الوطنية، لبقائها حقلاً جيوسياسياً يختزل تاريخها بمقولة “إلى الأبد”.

أمّا ما لم يُؤخذ بالحسبان فهو إن التاريخ “القومي أو الوطني أو العالمي” لا يمكن أن يُغلق لصالح نسق واحد، وهنا المفاجأة لأولئك الذين وضعوا حساباتهم بمقتضى الأبدية. لقد أخفق فوكوياما، وكذلك أخفق هؤلاء. ها هنا برز ما كان غائباً نسبياً عن البال: إنه محاولة إنتاج رهانات تحافظ على الأبدية. ومن هذه الرهانات، راحت تبرز الحروب الطائفية، والأخرى الأهلية، والثالثة التحالفات مع قوى أجنبية تسعى، كذلك، إلى امتطاء الكون كله. لقد عادت رهانات الطائفية يداً بيد مع مشاريع الأبدية الزائفة المؤسسة على رباعية الاستئثار بالسلطة وبالثروة والإعلام والمرجعية الاجتماعية السياسية.

د. طيب تيزيني

أستاذ الفلسفة – جامعة دمشق

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى