صفحات الرأي

هل نريد الواقع كما هو؟

 

روجيه عوطة

أثار الإعلام اللبناني في الآونة الأخيرة إشكالية تتعلق بأخلاق المهنة لدى تغطيته حدثاً ذا شأن في البلاد. فعندما تنافست التلفزيونات المحلية في قضية المخطوفين اللبنانيين في سوريا، انحدر بعضها إلى القاع، فبدا كأنه يتعامل مع الموضوع بمعزل عن بُعده الإنساني، كما لو أنه مجرد سبق صحافي لا أكثر. وحين تتطرق قنوات إلى الاشتباكات المسلحة في هذه المنطقة أو تلك، لا تتوقف عن تكرار الأخبار وتحويلها إلى عاجلة، ما يؤدي إلى إصابة المشاهد بالتوتر الدائم.

تعتمد هذه الوسائل الإعلامية استراتيجية إثارة الجمهور وجذبه إلى متابعة الأخبار باستمرار. وذلك، من خلال محاكاة وعيه، وتبني خطابه العام. والأخير، في الحالة اللبنانية، هو خطاب طائفي، لا يتوانى عن تصنيف الناس بحسب هويتهم الدينية أو المذهبية.

نرى الإعلام أحياناً الوقائع بحسب اللغة السائدة، ولا يتوقف عن نقلها – طائفياً – إلى جمهوره. فالجريمة التي راح ضحيتها سامر كنج، والتي لم يُعرف إن كان لوقوعها سبب مذهبي أم اجتماعي، سرعان ما تحولت، على شاشات عديدة، إلى خبر مكوّن من هويتين طائفتين متصارعتين: الشاب السني أحب فتاة شيعية، فكان عقابه الموت في الضاحية الجنوبية لبيروت… من دون التنبه إلى النتائج المحتملة لنشر الخبر بالطريقة “المثيرة” هذه. فرغم تعدد وجهات النظر حيال الحادث، انطلقت غالبية المحطات التلفزيونية من الهوية الطائفية للضحية كي تسرد وقائع الجناية.

من ناحية أخرى، لا تهتم الميديا بالمواضيع والقضايا غير “الجذابة” بمعنى الإثارة الذاهبة مرات عديدة إلى التحريض. فقضية اللحوم الفاسدة، والأدوية المهربة، إضافة إلى الظروف المعيشية الصعبة، أخبار لم تُتابع إلا براهنيتها، في فترة اكتشافها فقط، وغابت. كأنها أمر مسلّم به، قَدَر، لا يُستثار به الجمهور. لذا، لا يستمر تسليط الضوء عليها، وسرعان ما لا تعود تطوراتها “عاجلة”، على عكس أخبار الصراع الطائفي، سواء ارتدى لبوساً أمنياً أو سياسياً. ويطغى الأمن والسياسة على الشؤون المعيشية والمدنية في غالبية الأخبار المتلفزة، وإن تميزت “إل بي سي” باهتمام لافت بالشأن المدني واليومي، إضافة إلى ما قد تكون عودة للتحقيقات الاستقصائية إلى النشرات الإخبارية، آخرها تحقيق أعدّه وأخرجه الزميل رياض قبيسي في “الجديد”، تحت عنوان “افتح يا سمسم”، وتناول فيه الفساد في مرفأ بيروت، متّبعاً منهجاً صحافياً غير تقليدي بل ربما “متطرف” في نزعته الاستقصائية، ملاحقاً الموظفين ومواجهاً إياهم بالحقائق والصور أثناء تلقيهم الرشاوى.

ينقل تحقيق “افتح يا سمسم” الواقع، ويبحث في خلفياته. وهذا ما يحيلنا إلى نقاش أوسع عن علاقة الواقع بالاستراتيجيات الاعلامية، إذ لا يمكن إنكار أن الواقع اللبناني مطابق، في معظم الأحيان، للأخبار المتناقلة عنه. فحين يورد الإعلام خبراً عن شاب قُتل على خلفية طائفية، وإذا ما ثبت أن الجريمة طائفية فعلاً (وهنا افتقدنا الاستقصاء والتأكد من الشائعات)، فذلك لا يعني إنها تكذب أو تزور “الحقيقة”، بل هي تلتزم “الموضوعية”، وتسرد الحادثة كما جرت. بالتالي، لا يعود ممكناً تحميلها المسؤولية، أو الكلام عن دور تلعبه في تسعير الصراع والتمهيد للتقاتل. بهذا المعنى، رفعت قناة “الميادين” شعار “الواقع كما هو”، وكان لجريدة “الأخبار” شعار “كما تكونون، تكون الأخبار”.

وفي حال اتُهمت الميديا المحلية بـ”إثارة النعرات الطائفية”، مثلاً، سترد بأن الواقع مُستثار من قبل أن تنقل أخباره. لهذا السبب، لا يمكن التفريق بين وصفه أو تفسيره، فأي حادث عابر في البلاد قد يتحول إلى خبر عاجل، ويؤدي إلى كارثة ٍ مجهولة النهاية. لكن، في الوقت عينه، لا يمكن تبرئة الوسائل الإعلامية من تهمة “الإثارة”، لأنها في إيراد الأنباء ضمن المانشيت الأحمر “عاجل”، تهدف إلى جذب الجمهور وحثهم على متابعتها باستمرار.

ويعود سبب تلازم بين النقل السريع للخبر وجذب المتلقي، إلى غايات ترغب الوسيلة الإعلامية في تحقيقها، ويمكن تقسيمها إلى أربع. الأولى، غاية رمزية، وهي إيصال المعلومات إلى العدد الأكبر من الناس. الثانية، براغماتية، متعلقة برفع نسبة المتلقين للأخبار عبرها. والثالثة، تجارية، أي التفتيش عن السُبل الأفضل  لجذب الإعلانات من خلال إثبات تفوق في سياق المنافسة. أما الغاية الرابعة، فإطيقية (ethical)، وغالباً ما يفشل الإعلام في تحقيقها. إذ أن العلاقة الأخلاقية التي تجمعه مع الجمهور غائبة في الكثير من الأحيان. وفي حال حضرت، فذلك ضمن حدود الأخلاق الذاتية، المتأثرة بقواعد المنافسة في السوق، وذلك على عكس الإيطيقيا المنطلقة من الآخر، المتلقي، من ظروفه وأحواله، كي تعالج الأحداث المحيطة به.

كما أنها تشترط على كل وسيلة إعلامية أن تميّز بين نوعين من العقود التي تجمعها مع جمهورها. فمن جهة، تتوجه إلى الأخير بوصفها مؤسسة دعائية، تبحث عن المتلقي/المستهلك الدائم. ومن جهة أخرى، تتعامل مع الجمهور كما لو أنها أداة تواصل، أي أن المعلومات التي تنشرها تهدف إلى تعزيز التفاعل والاتصال بين المتلقين.

عندما يطغى العقد الدعائي على العقد التواصلي، يفرط الإعلام في إثارة المتلقي. وذلك، على خلاف ما ستكون عليه الحال جراء التوازن بين العقدين، أي أن يتحلى خطاب الميديا بإيطيقيا مهنية، تسمح له بنشر الأخبار على سبيل التواصل مع المشاهدين والقراء.

بعد ذلك، تبرز تساؤلات أخرى: كيف تتبنى الوسائل الإعلامية  المحلية لغة ً جديدة ً لا تحاكي الخطاب العام من دون أن تخسر جمهورها؟ وهل في إمكانها أن تتحدث عن الواقع بعيداً من طائفيته، ولا تفقد دقتها وموضوعيتها؟ ثم أن السوق الذي تخضع له، يرغب في تعميم الإثارة على كل الأحداث، فهل في مقدورها التمرد على قواعده؟ لا إجابات حاسمة في شأن علاقة الميديا بالسيستم السلطوي، الذي يبدو أن الإيطيقيا وحدها غير قادرة على إسقاطه أو ترويض سوقه الإعلامي!

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى