صفحات العالم

هل هناك حقاً مؤامرة على سورية؟/ حسن شامي

 

 

 

أكثر ما يزدهر هذه الأيام هو حديث «المؤامرة». وتكاد المحنة السورية تكون سوقاً استثنائية لاستعراض كل تنويعاتها. فالشعور المتعاظم بانسداد آفاق أي حل سياسي معقول يجد مكافئه في جموح أطراف النزاع المفتوح إلى التشبّث بلغة المؤامرة التي يدبرها الخصوم للقضاء على هذا المكون أو ذاك من مكونات الوطن السوري.

نعلم أنّ الصراعات بين البشر يصحبها دائماً صراع على الشعارات والكنايات والاستعارات، وذلك لفرض غلبة خطاب ينسب إليه أفضل تصوير وتمثيل للذات والآخر. نعلم أيضاً، أن فكرة المؤامرة تمتلك، في البنى الذهنية لثقافات المنطقة، حظوظاً كبيرة للتمدد وللتعويض عن الكسل الذهني وعن ثبات مجتمعات أهلية وسلطات نخبوية على إجماعات منتزعة ومفروضة بالقوة. ولا يعني هذا أن العالم خلو من المؤامرات. قد يكون العكس هو الأقرب إلى الصواب. وتاريخنا الحديث يعجّ بمناورات وخطط أجريت في الظل والخفاء بهدف السيطرة أو الاستيلاء على السلطة أو تثبيت مصالح وسياسات استعمارية. اتفاق سايكس بيكو المناقض للوعود البريطانية بإنشاء مملكة عربية مشرقية موحّدة كان، بمعنى ما، مؤامرة. والعدوان الثلاثي على مصر الناصرية كان مؤامرة أُعدت في سيفر، في ضاحية باريس.

ما ينبغي الالتفات إليه لا يتعلّق بالسجال العقيم، والنخبوي أصلاً، حول وجود المؤامرة أو عدم وجودها. بل يتعلق بدلالات تداولها وبمقاصد التوظيفات الرمزية والمعنوية فيها.

ما ترسّخ في الوجدان الشعبي منذ الحرب الأولى، هو الشعور بالتعرض لخدعة كبيرة. المخدوع هو ضحية ثقة معنوية ومادية منحها لمن لا يستحقها. وهذا بالضبط ما يمنحه الشعور بأرجحية أخلاقية تبرر كل ما يفعله وتعفيه من المحاسبة والمساءلة. كلما ازدهرت فكرة المؤامرة تقلّصت حظوظ السياسة بوصفها فن الممكن وحقل إدارة الاختلافات والانقسامات. لا يقتصر حديث المؤامرة على تعليقات قراء يتوسمون في المنشدين أن يطربوهم بالشعارات والكنايات التي يطلبها المستمعون. وإذا استثنينا عدداً من الكتّاب المستقلين، سواء كانوا لاعتبارات تخصهم في المعارضة أو في الموالاة أو بين بين، نجد أن جزءاً لا يستهان به من النخبة الإعلامية والمثقفة يتولى تقديم «المؤامرة» في صورة خيبة طارئة أو تبدل مفاجئ وصلف في مقاربة الحليف المفترض. وعلى جهتي النزاع الدامي، اعتمدت وسائل التحريض والتعبئة على تقنية «إعلامية» تقوم على التعتيم على الفظاعات التي يرتكبها الحليف وإشهار الصورة الإجرامية للخصم.

لجأ النظام السوري التسلّطي منذ البداية، إلى مقولة المؤامرة الإقليمية والدولية لتحطيم الدولة السورية التي يحتكر وطنيتها. ولم تتأخر المعارضة في معظمها عن مزاحمته على الأرضية ذاتها، عبر ادعاء تمثيل الشعب السوري واحتكار هذا التمثيل. ومع تعثّر المسار التفاوضي واستخدام وسائل الضغط على الحليف وتضارب الحسابات بين سياسات الصف الواحد، راجت أخيراً مقولة التآمر الأميركي واتهامه بتفضيله بقاء الأسد على بقاء الشعب. وتفترض هذه المقولة وجود تطابق بين حسابات اللاعب المحلي والراعي الدولي أو الإقليمي. لكن، هل هناك حقاً مؤامرة يمكن نسبها إلى إدارة أوباما، او حتى إلى المبعوث الأممي كما يعتقد بعضهم؟

في مقابلة أجرتها صحيفة «لو جورنال دو ديمانش» الفرنسية، الأحد الفائت، قدّم فيليب غوردون، مستشار الرئيس الأميركي باراك أوباما لقضايا الشرق الأوسط بين 2013 و2015، عرضاً مكثفاً يلخص نظرة الإدارة الأميركية وتقلّباتها وتعثراتها حيال الأزمة السورية وصعوبات الحل التفاوضي للمحنة المتواصلة منذ خمس سنوات دامية. رأى غوردون الذي كان عضواً في مجلس الأمن القومي الأميركي حتى أيلول (سبتمبر) الفائت، أن أطراف النزاع في سورية سيجدون طريقة ما للجلوس إلى طاولة المفاوضات كي لا تلقى عليهم المسؤولية عن فشل الحل السياسي المنشود. لكن عقدة بقاء الأسد، وفق الداعمين الروسي والإيراني، أو عدم بقائه، وفق معظم المعارضة وداعميها، ستجعل إمكان التوصّل إلى تسوية أمراً في غاية الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً. ويعترف غوردون بأنه كان هناك، في الجانب الأميركي، خلل وعدم توازن بين الأهداف والوسائل. «لقد أسأنا تقدير صلابة النظام وقوة الدعم الذي يمكن أن تقدّمه له روسيا وإيران. لم نكن آنذاك نسعى إلى تسوية بل إلى إنهاء نظام بشار الأسد. والحال، أنه كلما كثّف الغربيون وحلفاؤهم من العرب السنّة دعمهم العسكري والمالي للمعارضة السورية، كان رد دمشق هو الهجوم المضاد وليس الاستسلام».

يقرّ مستشار أوباما بأن التدخل العسكري الروسي جاء لنجدة نظام الأسد الذي بات منهكاً وعلى وشك الانهيار. مع ذلك ليس هناك، وفق غوردون، أي مبرّر للاعتقاد أن تسريع مساعدتنا للمعارضة كان سيغيّر المعادلة. ويقرّ بأن إحجام أوباما عن قصف قوات النظام بعد تجاوزه الخطوط الحمر كان خطأ، لكن ليس للاعتبارات الشائعة لدى المطالبين بهذا القصف، بل لأنّ الإحجام هذا أضعف مصداقية الإدارة الأميركية وزرع بذور الشك لدى الحلفاء. وقد سعى أوباما قبل التدخل إلى الحصول من الكونغرس على الدعم في حال لم يؤد القصف إلى النتائج المرجوّة. كان يريد الحصول على هذه الشرعية، لكنه لم يحظ بها. ومع أنه كان من مناصري مواصلة الضغط على النظام، فإنه كان يدرك في الوقت نفسه، وفق ما يقول، أن «استراتيجيتنا لم تكن تشتغل بطريقة صحيحة، وينبغي بالتالي تعديلها». وهذا ما يجعله اليوم أقرب إلى حل ترعاه الأمم المتحدة. والسبب هو «أنني لست واثقاً من أن مواصلة الدعم للمعارضة من الغرب والحلفاء السنّيين ستفضي إلى تغيير للنظام، بحيث تحلّ محلّه معارضة معتدلة تخدم الحفاظ على سورية موحّدة. هذا الهدف مثير للإعجاب، لكنه غير واقعي. فهو، إذا ما تحقق، سيدفع ملايين السوريين الموالين للنظام إلى مغادرة البلد خوفاً من الخضوع لمعارضة متطرفة ومنقسمة تحمل في داخلها بذوراً جديدة للحرب الأهلية». ويخلص غوردون إلى القول أن حصيلة عهد أوباما كارثية في هذا المجال ولا ترضي أحداً. لكن هذا لا يعني أنه كان هناك بديل أبسط. ليس أمراً مفرحاً أن يكون تشخيص المستشار الأميركي أكثر واقعية من شطط طرفي النزاع، النظام والمعارضة. وفرصة الرد سياسياً على التشخيص ضاعت. لبؤسنا وبؤس سورية.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى