صفحات سوريةياسين الحاج صالح

هل هناك عرب في سورية؟

 

ياسين الحاج صالح

في نيسان من العام الماضي، رفعت بلدة “كفرنبل المحتلة” في شمال سورية لافتة تقول: “أنا درزي وعلوي وسني وكردي وسمعولي (اسماعيلي) ومسيحي ويهودي وآشوري… أنا الثائر السوري وأفخر”. اللافتة واحدة من كثيرات تقول ما يقارب هذا الكلام، رُفعت في مواقع متعددة من البلد خلال نحو عامين من الثورة السورية. وبمجموعها تعكس انشغال بال السوريين بانقساماتهم الدينية والمذهبية والإثنية الموروثة، وإعلان عزمهم على تجاوزها.

في اليوم نفسه، 13/4/2012، رفعت لافتة في الزبداني غرب دمشق تذكُر السوري بوصفه مسلما أو مسيحيا أو كرديا أو علويا أو سنيا أو درزيا أو اسماعيليا. ويُظهِر رسمٌ من “كفرنبل المحررة” في 23/11/2012 أربعة أشخاص بالأخضر، وعلى صدورهم الصليب والهلال، وسيف ذو الفقار الذي يفترض أن يرمز للعلويين، والشمس التي يفترض أن ترمز للكرد.

هناك غائب كبير عن اللافتتين والرسم هو… العرب. هناك مسيحيون، وهناك دروز وعلويون وسنيون واسماعيليون، وهناك كرد وآشوريون. لكن لا يبدو أن هناك عربا في سورية.

ينبغي لهذا أن يكون مدهشا في “قلب العروبة النابض”، البلد الذي اخترع العروبة السياسية وكان واحدا من مهود إحياء اللغة والثقافة العربية؛ البلد الذي دان الحكم فيه لعقيدة العروبة المطلقة طوال نصف القرن المنقضي، والحزب الذي يحملها: حزب البعث العربي الاشتراكي.

لكن لعله هذا السبب بالذات لم يكد يبقى عرب وعروبة في سورية. طوال عقود استخدمت العروبة لطمس التنوع الاجتماعي الثقافي السوري، ولتقنيع الضمير الطائفي الآثم للنظام، وكذلك كأداة لسياسته الخارجية ودوره الإقليمي. وعموما اقترنت بالاستتباع الداخلي والخارجي، استتباع منظمات ونخب وأشخاص. التابعون وطنيون، وغير التابعين خونة.

ومن وراء سيادة العروبة المطلقة لا يبدو أن العرب العيانيين انتفعوا بشيء، أو حازوا السيادة على أنفسهم وتحكموا بشروط حياتهم، ولا أنهم صاروا أكثر توحدا وتفاهما. العكس هو الصحيح في الواقع. فقد كانت العروبة المطلقة أداة تفريق للسوريين في الداخل، ليس بين عرب وغير عرب (غير العرب نحو 15%)، وهذا محقق، ولكن بين العرب أنفسهم، لكونها إيديولوجية رقابة وتضييق، مبنية على ندرة السلوك والموقف الصحيح، بحيث لا يكون المرء عربيا حقا إلا بخضوعه لجملة اشتراطات سياسية ضيقة، مؤداها هو الولاء للنظام وحزبه. لكن إذا كان الولاء هو المطلوب فلن  تكون العروبة غير أداة بين أدوات أخرى لضمانه.

الطائفية أداة مضمونة أكثر. لا يجري التخلي عن الأداة العربية، لا تزال تنفع في الإطار الإقليمي. .

وما يبدو أنه في سبيله إلى الحصول في سورية سبق أن حصل في العراق. كان العراق عربيا بمعنى ماهوي مطلق، وليس بمعنى اجتماعي وتاريخي نسبي، وأسس هذا النمط من العروبة المنكرة للتغير والفروق لحكم طغيان دموي، فلم يبق منها شيء حين سقط. في العراق اليوم شيعة وسنة ومسيحيون وكرد، وليس فيه عرب. ويرمز اجتثاث حزب البعث في العراق لهذه العملية التي اختلط فيها رفض الطغيان البعثي مع معاداة العرب والرابطة العربية من قبل فاعلين متنوعين: الأميركيون، نخب كردية وشيعية، إيران.

العلاقة بين العروبة المطلقة وبين نزع العروبة مؤكدة في الحالين. لم يقع ما يشبه ذلك في بلدان أخرى مثل مصر وتونس واليمن لأن العروبة هناك لم تتحول إلى إيديولوجية سياسية مشرعة للطغيان. لكن حصل ما يقارب ذلك بقدر ما في مصر في سنوات حكم السادات ردا على العروبة الناصرية، وقد كانت أقل إطلاقا وأكثر براغماتية.

الوطنية السورية ذاتها ستكون أفقر بتدهور العروبة وصعود الروابط الدينية والمذهبية محلها. لا أحد يكسب في سورية من اختفاء مستوى جامع لأكثرية السوريين، الرابطة العربية، لا يلغي مستويات هويتهم الأخرى، الدينية والمذهبية، ويجمعهم بغيرهم في العالم العربي. سورية محتاجة إلى تصور “دستوري” للعروبة يقوم بهاتين الوظيفتين.

قد نلاحظ في لافتة كفرنبل المحتلة أنه ليس هناك مسلمون أيضا. هناك دروز وعلويون وسنيون و”سمعوليون”. هذا مرتبط بصعود الوعي الذاتي الطائفي داخل ما يفترض أنه الطيف الإسلامي من جهة، وبالمطابقة الشائعة بين المسلمين والسنيين في سورية من جهة أخرى. وهي مطابقة يبدو أن الإسلاميين يرتاحون لها لما تدره عليهم من شرعية خاصة غير منازَعة. يسهل لهم الأمر ميل نخب من الأقليات إلى توكيد الهوية الطائفية في مواجهة ما يفترض أنها الأكثرية السنية، وكذلك الدعوة “العلمانية” الموجهة حصرا ضد الإسلام السني، على ما هو معلوم للجميع في سورية.

لكن إذا زالت العروبة كأحد مستويات الهوية الوطنية في سورية بفعل العروبة المطلقة البعثية، فهل يزول المستوى الإسلامي أيضا لمصلحة المستويات الطائفية؟ هذا مرجح جدا إن كتب للإسلامية المطلقة الخاصة بالإسلاميين أن تكون صاحبة الكلمة العليا في سورية ما بعد البعثية وما بعد الأسدية. سنحصل حينها على بعثية جديدة بلا بعثيين.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى