صفحات سوريةعمر قدور

هل يختار النظام السوري طريقة سقوطه بنفسه؟


 عمر قدور

لا يختلف الكثير من السوريين على أن النظام السوري آيل إلى السقوط لا محالة؛ قد يختلفون في رؤيتهم للوسائل المؤدية إلى سقوطه، أو في المدة الزمنية التي سيستغرقها. بخلاف ذلك يتهيأ السوريون للمرحلة المقبلة، من دون امتلاك مؤشرات قوية تدل على طبيعتها، بل يتفق الكثيرون على أن القادم مفتوح على احتمالات عديدة، وربما على احتمالات لا يفضّلونها ولكنهم قد يضطرون إلى تقبلها بدلاً من الانتظار الذي يعني عشرات القتلى والمصابين يومياً ومئات المعتقلين والمفقودين.

«إلى حلف الناتو: أنا بانتظارك ملّيت. التوقيع: كفر نبل المحتلة». هذه إحدى اللافتات التي رفعت مؤخراً في مظاهرة في «كفر نبل»، وفيما عدا الصياغة خفيفة الظل، تعبّر هذه اللافتة، وغيرها في مدن أخرى، عن الرغبة في الخلاص بأي ثمن. فلم يعد التساؤل عن البديل مؤرقاً لشريحة واسعة لسانُ حالها: «ليذهب هذا النظام وليأتِ الشيطان». ولعلّ هذا يحمل رداً صريحاً على أنصار النظام الذين يرفعون شعار: «الأسد أو لا أحد».

لم يكن لحلف الناتو سمعة طيبة في الأوساط السورية ليتهافت السوريون اليوم على استدعائه، وما يزال هناك في أوساط المعارضة التقليدية خصوصاًَ، من يرى في الغرب عدواً أكبر من النظام الحالي، وبوسعنا القول إن بعض اللافتات التي تدعو إلى التدخل الخارجي تكشف بحياء عن تراجع الأيديولوجيا التحررية السابقة؛ الأيديولوجيا ذاتها التي عزف عليها النظام طوال عقود من بقائه. مع ذلك ثمة نسبة لا يُستهان بها لا يصرّحون علانية بما تكشف عنه اللافتات، ويصرون على الطرق السلمية لإسقاط النظام وعلى رفض التدخل الخارجي، وإن أقروا بأن الحراك السلمي وحده لن يُسقط نظاماً يستخدم ترسانته الأمنية والعسكرية في قمع المتظاهرين العزّل!.

إن الجدل السوري الحالي، والذي شاهدنا نتيجته أمام مقر الجامعة العربية حين قذف محتجون بالبيض دعاةَ عدم تدويل الملف السوري من المعارضين؛ هذا الجدل مرشّح للتصاعد كلما طال أمد الانتفاضة دون أن يتحقق هدف سقوط النظام. والبشرى السارة هنا للنظام هي أنه قد يكسب أنصاراً من المعارضة يغلّبون عداءهم للغرب على عدائهم له، أما ما لن يسر النظام بالتأكيد فهو أن شريحة مؤثرة من التجار والاقتصاديين قد تنحاز إلى الشارع بحكم مصالحها، التي تقتضي علاقات طيبة مع الغرب، لا إلغاء له من الخريطة كما بشرّ بذلك وزير الخارجية السوري.

في الواقع نجح النظام السوري في استبعاد الحلول السياسية الداخلية منذ بدء الانتفاضة، بحيث لم يعد يملك خياراً آخر سوى الاستمرار في القمع وتصعيده، وأي تخلٍّ عن هذا الخيار يعني تلقائياً سقوط النظام. ومما لا شكّ فيه أن المعركة الحالية خرجت نهائياً عن نطاق المساومة السياسية، وأخذت طابع المعركة النهائية الوجودية، فلا النظام قادر على التراجع الذي يعني سقوطه، ولا الشارع قادر على التراجع الذي يدرك أنه يعني سحق الانتفاضة كلياً والعودة إلى أسوأ مما كان عليه الحال من قبل. في معركة الوجود هذه تكون الاحتمالات مفتوحة على شتى أنواع التصعيد؛ فأعوان النظام يلوّحون بأنه لم يستخدم بعد فائض القوة الذي يمتلكه، وكأنهم يقصدون بذلك أن الدبابات سلاح خفيف إذا قورن بالقدرة التدميرية للترسانة العسكرية، يُضاف إلى ذلك التلويح بالحرب الأهلية. وهو إنذار أطلقه النظام منذ بداية الانتفاضة. في الجانب الآخر؛ أدرك أنصار الانتفاضة أن النظام لن يتورع عن سحقها بكل ما أوتي من قوة، وثمة بالتأكيد من يعارض النظام لكنه يبدي خشيته من بطشه، فيقبل بفتات الإصلاحات الموعودة بديلاً عن فاتورة الدم المتحققة، أما المزاج الغالب فهو يتجه إلى الإقرار بأن التغيير المنشود في سوريا لن يكون انتقالاً سلمياً للسلطة، وأن القوة بالمعنى المباشر وحدها هي الكفيلة بإسقاط النظام، وبما أن المؤسسة العسكرية والأمنية أبدت حتى الآن تماسكاً كبيراً، يستبعد حدوث انقلاب من الداخل على الطريقة المصرية أو التونسية، فإن الخيار المرجح والممكن هو إسقاط النظام بفعل القوى الخارجية. هذا الخيار، على صعوبة ابتلاعه من قبل البعض، يتجه ليكون قناعة يسلّم بها الكثيرون، وإن لم يعلنوا ذلك أو حتى إن كان لا يوافق أهواءهم.

منذ البداية أطلق النظام نظرية المؤامرة لإنكار وجود انتفاضة شعبية ضده، واستغل الأصوات الداعية من أجل توفير الحماية الدولية للمتظاهرين السلميين كي يؤكد لأنصاره على وجود المؤامرة، وعلى وجود «عملاء» لقوى دولية. هذه الدعاية بدورها لم تعد مؤثرة كما من قبل، فالحماية الدولية التي حظي بها النظام من روسيا والصين وإيران أولاً تفنّد ادعاءات النظام، وتُدخل العامل الخارجي في صميم الحدث السوري، وليس تفصيلاً هامشياً أن تُرفع أعلام هذه الدول في المسيرات المؤيدة بينما تُحرق في المظاهرات المضادة. خسر النظام رهانه على سكوت العالم على قمعه مقابل بقائه كضمانة للاستقرار، ولم تنفع الرسائل المبطنة، التي أُرسلت إلى الولايات المتحدة خصوصاً، في ثني العالم عن استنكار القمع الوحشي وإبداء التململ من استمراره، وصولاً إلى المطالبة بتنحي السلطة. وربما تكون المفارقة التي لن يدركها النظام إلا متأخراً هي أن أوراق القوة التي يملكها في الملفات الإقليمية ستكون ذاتها الأوراق التي تُضعفه خارجياً، وإذ وصل النظام إلى التلويح والتهديد بهذه الأوراق علانية فهذا مؤشر على الضعف الذي بات فيه، وهي رسالة قد تؤدي إلى عكس المقصود تماماً، عندما تقرر القوى الدولية أنها لن ترهن استقرار المنطقة بنظام فقد صوابه.

يقرّ عدد غير قليل من السوريين بأن النظام هو اللاعب الأكثر فعالية في الساحة، ويتندرون بأن النظام نفسه قدّم خدمات جليلة للانتفاضة. وعلى سبيل السخرية المعبّرة أنشأ نشطاء صفحةً على الفيس بوك باسم ضابط الأمن الذي اقتلع أظافر الأطفال في مدينة درعا؛ ينوّهون فيها ببطشه الذي ساهم في اندلاع الانتفاضة. هذا السياق الذي قد يوصف بالحماقة من قبل البعض، والذي يدفع النظام إلى النهاية باطراد، قد لا يكون حماقة بالمعنى الدقيق للكلمة، بل هو على الأرجح يعبّر تماماً عن بنيته التي لا تسمح باحتمالات سوى ما تحقق منها بالفعل. لقد كان واحداً من المآخذ على النظام أنه أقصى المجتمع عن السياسة واحتكرها لنفسه، لكن ما تبدى لاحقاً هو أن النظام أيضاً خارج السياسة، وأنه كان على الدوام موجوداً بفعل القوة والهيمنة على إرادة المجتمع. ليست مفارقة أبداً أن يبدأ النظام بالحديث عن المؤامرة الخارجية إلى أن يصبح التدخل الخارجي مطلوباً، فهذا الاستشراف إن صحّ التعبير يتطابق مع بنيته التي لا تعي سوى القوة المجردة، والتي ليس لها ما ينافسها داخلياً، وعلى ذلك يبدو كأن النظام يشير إلى طريق سقوطه بنفسه!.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى