صفحات الرأي

هل يستطيع التابع أن يتكلم؟/ د. عبدالله ابراهيم

 

 

عرفت «دراسات التابع» منذ ربع قرن، واستأثرت باهتمام كبير في أوساط المؤرخين، والمفكرين، والنقاد، وتشكل اليوم الموضوع المركزي ل«دراسات ما بعد الاستعمار» في إفريقيا، وآسيا، وأميركا اللاتينية، وتمثل لب «الدراسات الثقافية» التي تخطت المفاهيم التقليدية للنقد الأدبي، وفتحت الأبواب بين الأدب، والفكر. والتاريخ ، والانثربولوجيا، والسياسة، باعتمادها على فكرة «التمثيل Representation» أي الكيفية التي تتجلى فيها الأحداث في الخطابات بكل أشكالها، فمعلوم بأنه لا توجد أحداث مجردة، إنما الأحداث الواقعية «التاريخية» منها أو المتخيلة «الأدبية» تظهر في سياق خطاب، تعمل استراتيجياته على التحكم في نوع الحدث، وتظهره طبقا لسلسلة متكاملة من التحيزات الثقافية الخاضعة لذلك السياق.

سأخصص هذه المقالة لمناقشة بحث شهير جدا، يعد من البحوث المعتمدة في «دراسات التابع» قدمته «غاياتري سبيفاك» في مؤتمر «الماركسية وتفسير الثقافة» الذي عقد عام 1983، ثم نشر في عام 1988 وعنوانه «هل يستطيع التابع أن يتكلم؟ «فخلال عقدين نوقش هذا البحث، وحلل، في عشرات من الدراسات، والمناظرات، والمؤتمرات، فارتبطت دراسات التابع به، حيثما أثير جدل الثقافي حول الهويات الثقافية، ومفهوم التبعية الخارجية «الاستعمارية» والتبعيات الداخلية «الطبقية، والجنسوية» وتعد «سبيفاك» أهم منظري دراسات مابعد الاستعمار، وحينما طلب إليها تعريف نفسها، اكتفت بالقول إنها مفكرة أخلاقية عابرة للثقافات، وتنتسب إلى التفكيك التطبيقي، وهذا يحيل على أمرين: عدم انحباس الثقافة في مكان محدد، والانتماء إلى منهجية التفكيك التي أسسها دريدا، وبالفعل فقد لمع نجمها في العالم إثر ترجمتها الانجليزية لكتاب دريدا «في علم الكتابة Of grammatology» الذي صدر في 1967، ونشرت ترجمته جامعة «جون هوبكنز» في 1976، بمقدمة وافية كتبتها سبيفاك، وإلى تلك المقدمة يعود الفضل ليس لشهرتها فقط، إنما دخول التفكيك في صلب الثقافة الأنجلو -سكسونية، ومنذ ذلك الوقت اعتمدت هي نفسها على استراتيجيات التفكيك في دراساتها النظرية وتحليلاتها النصية.

ولدت «سبيفاك» في كلكتا في البنغال الغربي في 1942 لعائلة من الطبقة الوسطى، وعلى هذا فهي تنتمي الى الجيل الأول من مثقفي الهند بعد الاستقلال، درست الإنجليزية في جامعة كلكوتا، ورحلت الى الولايات المتحدة الأميركية في عام 1960 لدراسة الأدب المقارن، فنالت الماجستير، وأعدت أطروحتها للدكتوراه حول الشاعر «ييتس» وصدرت في كتاب بعنوان «حياتي التي يجب أن أعيد خلقها: حياة وشعر و.ب ييتس «في عام 1974 قدمها الناقد المعروف «بول دي مان» الذي أصبح أحد أهم أعلام جماعة «ييل» للدراسات التفكيكية . عملت معه في وقت لم يكن عرف شيئاً عن دريدا، وسبيفاك نفسها لم تعلم شيئا عن المؤتمر الذي عقد في جامعة «جون هوبكنز» عام 1966 وتشققت فيه البنيوية، وانبثقت مدارس مابعد الحداثة، ومنها التفكيك الذي ارتبط بدريدا، وتواصلت أعمالها التي اتخذت شهرة عالممية منها «عوالم أخرى: مقالات في السياسة الثقافية عام 1987 و«هل يستطيع التابع أن يتكلم؟ « موضوع حديثنا، و«مختارات من دراسة التابع «بالمشاركة مع» رانا جيت جحا» في عام 1988، ثم «ناقد ما بعد الاستعمار: لقاءات، استراتيجيات، حوارات «في عام 1990 و«نقد عقل مابعد الاستعمار «في عام 1999م فضلاً عن عشرات المقالات، والبحوث، والمؤتمرات، واللقاءات الأخرى، وجميع هذه الأعمال جعلتها تتبوأ مكانة كبيرة في دراسات ما بعد الاستعمار، ودراسات التابع، فهي تدرج ضمن النخبة المؤسسة لهؤلاء النقاد والباحثين.

جاء البحث بصيغة السؤال «هل يستطيع التابع أن يتكلم؟ «ولأول وهلة، يبدو وكأنه نوع من الاستفهام الاستنكاري، فمن الطبيعي أن يتكلم التابع، فهو كائن بشري يستطيع الكلام، والكتابة، والتعبير، لكن مؤدى الفكرة التي تريد سبيفاك طرحها هو هل توفرت السياقات الثقافية المؤاتية للتابع لكي يتكلم؟ هل يتمكن من الحديث، وإسماع الآخرين صوته؟ فالشعوب المستعمرة سلب منها حق تمثيل نفسها، أي سلبت حق الكلام، والكلام هو الوسيلة الوحيدة لتأسيس معرفة متماسكة عن التابع، ووعيه، ووجوده. بعبارة أخرى فثمة فرق بين الفكرة القائلة إن التابع فرد مندمج في جماعة، والأخرى القائلة إنه كائن جرى تمثيله عبر الخطاب الاستعماري، ف«سبيفاك» تريد أن تفحص بدقة الفرق بين «الحديث إلى» و«الحديث عن» فأنت حينما تتحدث إلى الآخرين، في المجتمعات التي مرت بالتجربة الاستعمارية، تحاول في اللاوعي، أن تظهر اندماجك في السياق الثقافي للمخاطب، ولكنك حينما تتحدث إلى نفسك، تريد الانتماء إلى السياق الثقافي الأصلي المعبر عن هويتك، وبالسماح للتابع بأن يتحدث عن نفسه يمنح خطابه ميزة التضامن الثقافي بين جماعات متباينة، ونقض مبدأ أن التابع يتحدث للآخرين، بدل أن يتحدث الى نفسه، وفي النهاية سيتكرس دور التابع في تشكيل هويته الثقافية، وإعادة دمج مكونات المجتمع. ترى سبيفاك بأن وعي التابع يتمثل لتأثيرات النخبة، فتلك التأثيرات النفسية تصوغه بسبب قوتها وهيمنتها، فيتعذر استعادته بصورته الحقيقية، بل لا حقيقة له، لأنه مستعاد عبرتمثيل قوة النخبة، وثقافة الاستعمار، لهذا فهومنزلق دائما عما ينبغي أن يدل عليه، إلى ذلك فهو يتجلى مطموسا وممحوا في لحظة تجليه؛ باختصار فهومشوه، ومنبثق ضمن استراتيجيات خطاب أقوى يستحيل اختزاله.

وتطرح سبيفاك إمكانية فك شفرات كلام التابع من خلال فكرة التمثيل الاستعماري له، لكنها تذهب إلى البعد الخاص من الموضوع من خلال كشف طقوس حرق النساء لأنفسهن أثر موت رجالهن، وهو طقس معروف في الهند، يسمى «Sati» فثمة تضافر بين الهيمنات الكبرى للنصوص الدينية الهندوسية المشجعة على حرق المرأة، وبين فكرة تبعية المرأة للرجل بفعل هيمنة الثقافة الذكورية، ثم هيمنة الأبوية، والهيمنة الاستعمارية، ومادام صوت التابع، وهو هنا المرأة التي وجدت أن فكرة الحرق تعبير عن الوفاء، مخنوقا وسط دوائر متضافرة من الحجب والمنع، فهو إذن صوت صامت، ومحكوم بالفشل، لأن قوة المتبوعين، سواء كانوا تقاليد دينية، أو ثقافة أبوية، أو ثقافة استعمارية تحول دون انبثاق صوت التابع، ولكنها تقترح حلا لا يقف أمام هذه النهاية يتمثل باستعادة وعي التابع عبر صوت المثقف المنبثق من صلب الجماعة، لكي ينوب عنها في التعبير، لكن ذلك بحد ذاته يعيدنا إلى فكرة التمثيل، بما فيه التي طرحها ماركس عجز عن الشرقيين على تمثيل أنفسهم.

وسؤال سبيفاك يتخطى المستوى المباشر الى آخر فلسفي متعال، فهي تتحدث أيضا عن إمكانية حقيقة لتأثير كلام التابع وصدقه، إذ ليس كل كلام يحمل الحقيقة، فحديث التابع محاط بسياقات ضاغطة من ثقافات أخرى تجعله غير قادر على التعبير عن الحقيقة، فقد جرى التواطؤ، بسبب السياسات الاستعمارية، على أن التابع غير قادر على تمثيل نفسه،ولا بد أن تمثله السلطة الاستعمارية، ولهذا تتناقض الإمكانية أمام التابع ليقول شيئا حقيقياً، وهذا ينقل سؤال سبيفاك من المستوى الواقعي الى المستوى الافتراضي المتعالي بالمعنى الفلسفي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى