صفحات العالم

هل يضحي المعسكر الاستئصالي ببشار؟


غسان الإمام

لا أدري من أين أبدأ مع نظام بشار. دعني أبدأ من حيث انتهى: كانت مطالب الانتفاضة السلمية، في غاية البساطة. مجرد مطالب إصلاحية في بنية الإدارة الحكومية، وفي تعاملها مع القضايا الشائكة. كالبطالة. الفساد. المحاباة. احترام كرامة المواطن، من دون تعال عليه، وإنكار حريته.

مع مجابهتها بالقمع. بالقتل. بالاعتقال. بالإهانة، صعدت الانتفاضة المطالب من الإصلاح الجزئي إلى التغيير الشامل، تحت شعار «إسقاط النظام». كان السوريون قد فقدوا الأمل في الإصلاح، منذ عهد الأب الراحل. علقوا الأمل على الابن الشاب النشيط. المتحفز. المتحمس. بعد إهراق الدماء، فقد الابن في رؤيتهم شرعيته. فلم يعد لديهم الشاب الذي كان.

لماذا «احترقت» شعبية بشار وشرعيته بهذه السرعة؟ هل هو حقا مشارك في القمع، ليتحمل صامتا المسؤولية عنه؟ أم هل القمع فرض عليه، ليتحمل صاغرا المسؤولية عن ممارسيه؟! هل هؤلاء القمعيون خارج سلطته وإمرته؟ هل يمارسون القمع مضحين به؟ هل يحرجونه عمدا ليخرجوه؟ ليستغنوا عنه، من دون أن يكون لديهم بديل جاهز مصقول مثله؟ أم هم يقدمون مصالحهم ومصالح الطائفة في بقاء النظام، على بقاء بشار وحكم العائلة؟

السياسي المحترف قادر على إصدار أحكام مطلقة، وفق هواه ومصالحه الضيقة. الصحافي الأمين مع نفسه وقارئه لا يصدر أحكاما. قد يكتفي بأن يبدي رأيا. أو يتبنى موقفا. من هنا، بعد قراءتي لبشار ونظامه، أترك الحكم لقارئ «الشرق الأوسط»، كعادتي معه.

في نظام سلطوي مغلق، تنعدم فيه مؤسسات المجتمع المدني الحقيقية والمستقلة (القضاء. البرلمان. الأحزاب. النقابات. الصحافة. الثقافة. الحوار…)، تصبح مراكز القوة الظاهرة والخفية بديلة لهذه المؤسسات الشفافة. وهي في قربها وبعدها عن مركز القرار وصانعه، تغدو لغزا صعبا على الفهم والتحليل، لا سيما لدى المعلقين ومراكز البحوث في الخارج.

بات معروفا أن الطائفة العلوية هي مركز القوة الحقيقية في النظام المهيمن على الدولة والمجتمع. لكن ليس معروفا أن هذا المركز هو في الواقع عدة قوى. وأجنحة. ومعسكرات متحالفة. متهادنة. متناحرة. تجمعها المصلحة المشتركة في بقاء النظام. وتستميت في الدفاع عنه، فيما يفرقها النزاع بينها على المواقع. الاحتكارات. السلطات. الامتيازات (الغنائم).

الحزب. الحكومة. الجبهة «التقدمية». البرلمان… أردية هشة تغطي حكومة طائفية خفية، في غاية السرية، تتحكم بالنظام، وبسياساته وتوجهاته الداخلية والخارجية.

هذه الحكومة تضم مراكز القوة مجتمعة. هناك المرجعية الدينية المؤلفة من مشايخ المذهب، ووجهاء وأعيان الطائفة وعشائرها. هناك الجيش بفرقه المدرعة بقيادة ضباط الطائفة. هناك الميليشيا العسكرية (الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة) بقيادة ابن العائلة ماهر شقيق الرئيس. ثم هناك الأجهزة الأمنية المدنية التي باتت عصب النظام. فقد حيدت الجيش (الرديف العسكري والاحتياطي للنظام). وهيمنت على الحزب. والإدارة الحكومية. والحياة الاجتماعية.

في التعامل القمعي مع الانتفاضة، بدت مراكز القوة هذه، كجناح أو معسكر استئصالي. هذا المعسكر يرى دائما أن أية مواجهة مع الشعب، هي بمثابة المعركة الأولى والأخيرة التي يجب أن يكسبها المعسكر. الرؤية المستترة هي «نحن وهم». أي الطائفة في جهة. وفي الضفة المقابلة، الشعب بأغلبيته الدينية، وأقلياته الطائفية والعرقية.

للأمانة مع الحقيقة، أقول إن هناك استثناءات، حتى في المعسكر الاستئصالي. هناك من يرى الاكتفاء بالقمع الفردي. وتقديم «تنازلات». هناك من يصر على ممارسة القمع الجماعي لإخماد الانتفاضة. بالإبادة. تماما كمجزرة حماه (1982).

بل هناك داخل الطائفة، أفراد ومجموعات. مثقفون. موظفون. شباب… تجاوزوا الخوف، ليعتبروا أنفسهم منتسبين إلى شعب جريح ومهان. هناك علويون يرون بذخ ورفاهية علويين استفادوا. اغتنوا. هؤلاء الفقراء يتساءلون: إذا لم نستفد من نظام محسوب علينا، فمن أي نظام، وفي أي عصر سنستفيد؟

بالنسبة لبشار، فقد كشف التعامل القمعي مع الانتفاضة، عن فرز وتوزيع للسلطات والصلاحيات داخل النظام. بدا بشار مسيطرا على الإدارة المدنية. الحكومة. الحزب. المجتمع. الاقتصاد. صناعة القرار السياسي والخارجي، فيما الجناح الاستئصالي قادر على استخدام الجيش والأجندة الأمنية المدنية.

تجاوزت الطائفة والعائلة قرار ابنها الرئيس، بإلغاء حالة الطوارئ. بالإفراج عن المعتقلين. بتجريد الشرطة من السلاح. أمر بعدم إطلاق النار على المتظاهرين. أخيرا، أنزل الجناح الاستئصالي الرديف الاحتياطي (الجيش) لحصار وتجويع المدن، واستعان بالميليشيا الطائفية والعسكرية (الشبيحة)، بملابس سوداء، لقنص المدنيين والعسكريين في ساحة الصدام. ثم تشييعهم باحترام، مدعيا «استشهادهم» على أيدي «عصابات مسلحة» يعجز بشار عن ملاحقتها.

وهكذا، سواء كان بشار معارضا للجناح الاستئصالي، أو مسايرا له. ومتفقا معه، فهو بالنسبة للانتفاضة المسؤول الوحيد، عما جرى لها من قمع. وقتل. أيا كان موقف بشار الحقيقي، فقد بات في موقع الإحراج أمام شعبه، لعدم وفائه بوعوده وإصلاحاته. ثم في قفص الاتهام أمام الجناح الاستئصالي، بأنه في تقديمه «تنازلات» للانتفاضة، فهو يغرق نفسه، مع إغراقه مركب الطائفة.

في حديثي الطويل مع بشار. هنا في باريس، قبيل وفاة أبيه (2000)، وفي إنصاتي إلى كثيرين قابلوه. عرفوه. عارضوه. أو أيدوه، أسمح لنفسي بأن أقول إن هذا الشاب (النشيط. المنضبط. كما وصفه أبوه) حسن النية تجاه مجتمعه وأمته. الأخ بشار ليس الأخ معمر. علته في كونه ابن أبيه. وابن طائفته. وفي كونه بلا ماض عسكري (يحمل رتبة فريق). ثم في قدرته الفذة على أن يتكلم كثيرا، من دون أن يقول شيئا. فقد أتقن لغة الحزب الخشبية.

بشار مجموعة تناقضات (Dr. Jekyll and Mr. Hyde). لا شك أن الانتفاضة كانت درسا بليغا: لا يمكن بناء زعامة بالتباهي بنجاحات دبلوماسية وهمية. وعلى تحالفات مصلحية مع أنظمة وتنظيمات إقليمية، من دون بناء قاعدة شعبية عريضة. ومتماسكة في الداخل.

إذا نجا بشار من انتفاضة تحاول إسقاطه. ومن معسكر استئصالي يحاول إحراجه، فهل هو قادر على التجديد لنفسه مرة ثالثة (2014)؟ تأخر بشار كثيرا. تكلم عن الإصلاح. ثم قدم لمسات تجميلية تحت ضغط انتفاضة سلمية. ارتكب أخطاء. زاوج حكم الطائفة بحكم العائلة. الفساد. آه! «مصيبة المصائب» في رأيه. ثم تركه لبطانة عائلية وطائفية، تعيث فسادا مع تحالفات بورجوازية لا تعي دينامية ليبرالية، ربما كانت قادرة على صنع طبقة وسطى مزدهرة.

ما زالت في الضمير والوعي أحاديث عن سوريا لم تنته. في الثلاثاء المقبل، حديث عن طائفة احتلت جيشا، فعجز عن تحرير سوريا من الاحتلال. وها هو يحاول أن يحتل شعبا أبيا بقوة الحديد والنار!

 

الشرق الأوسط

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى