صفحات العالم

هل يمكن الحديث عن يحيى الشغري/ غسان زقطان

 

 

هل يمكن الحديث وسط هذه الفوضى عن جندي شاب بشارب خفيف وعينين ملونتين، جندي من اللواء 93 في الجيش السوري، مدمى وموثق اليدين خلف ظهره، جندي خذله قادته وتركوه بقميص تقطعت أزراره غنيمة للقتلة وقطاع الطرق، ورغم ذلك وتحت السكين لم يتراجع عن فكرته” والله لنمحيا”، الجملة القصيرة المكونة من كلمتين بما فيها القسم، التي ربما قصد اختيارها بهذا القصر بسبب ضيق الوقت بين السؤال والطلقة، وأجابت بهدوء غريب عن سؤال القاتل، حول “دولته الإسلامية”، السؤال الذي لا يعني شيئاً للفتى سوى أنه منحه فرصة الإجابة البسيطة والنافذة، ليس واضحاً أن القاتل التقط التمتمة العنيدة لـ “يحيى عدنان الشغري” الجندي الأسير من أفراد “اللواء 93” في مطار الطبقة العسكري، فلهجة القاتل لا توحي بأنه سوري، كما لهجات الكثيرين من القتلة الذين يتجولون بسكاكينهم في سوريا والعراق تحت رايات سوداء، وسيكون صعباً عليه، القاتل، التقاط عبارة الشغري المغرقة في سوريتها والمتمتعة باضغام الهاء، وهو أمر يبدو تكراراً مع المونتاج لليوتيوب الذي وزعته داعش بهدف بث الرعب وتعزيز أسطورتها المتوحشة، كما فعلت مع عشرات الجنود السوريين الأسرى أشباه العراة، الذين كانوا يتدافعون على منحدر مغبر قبل أن يجهز عليهم “مجاهدون” مقنعون غير بعيد عن نهر لا يظهر بوضوح في اللقطة.

الشغري هو الذي بقي في أذهان الناس ومخيلتهم، بينما بطولات الذين قاموا بإعدام الأسرى المجردين من سلاحهم وذبح الجنود المقيدين، أو ادعاءات أبواق النظام الذين تخلوا عن الشغري ورفاقه وبلاغتهم وتغنيهم ببطولته وجرها نحو الولاء للنظام، لم تتسبب سوى بالاشمئزاز، ولم تترك انطباعاً بالبطولة أو التقوى أو الشجاعة.

الشغري المخذول من النظام والمتروك كغنيمة بعد أن استنفذ تماماً، والمدان من المعارضة لأن وجوده في لحظة إعدامه تصادف ضمن تشكيل نظامي في الجيش السوري كما مئات الآلاف من الشباب السوريين المجندين، ومهدور الدم من التكفيريين لنفس السبب ولأسباب طائفية كثيرة رغم أن الفتى ينتمي، بالصدفة أيضاً، لعائلة سنية.

يحيى عدنان الشغري بغض النظر عن معسكره هو ابننا وشقيقنا وهو نحن وهو بالضبط سوريا التي نفتقدها.

سوريا التي بدأت بالاختفاء بعد السنة الأولى للثورة، عندما اندفع السوريون إلى شوارع مدنهم وقراهم يطالبون بحرية بسيطة بعد أربعة عقود من حكم آل الأسد وعبثهم بحياة الناس والبلد والمنطقة.

في تلك الشهور العشرة، أقل او أكثر قليلاً، كانت سوريا واضحة تماماً وحقيقية وكانت أغلبية السوريين تعرف بالضبط أين تكمن أحلامهم.

كان ذلك قبل أن تستدرج سوريا إلى الحرب الأهلية العبثية التي تذرع الآن البلاد، قبل أن تدفعهم أجهزة النظام الى حقل الرماية المكشوف حيث تتمرغ الحرب بانتظار فرائسها، وقبل أن يستولي “الإخوان المسلمون” على فكرة الثورة ببصيرتهم المحدودة وولعهم الغريب بالسلطة، وعنادهم المغلق في حربهم المفتوحة والعدمية ضد الجغرافية، ومحاولة عزل السياسة عن الجغرافية، وعزل التاريخ عن السياسة، في انهماكهم المرضي في تفكيك المنطقة وخلط مكوناتها عبر فوضى عارمة ضمن تحالفات غامضة وتحت مسميات عديدة.

ثمة ثورة مغدورة هناك بين درعا وحلب وبين حمص واللاذقية، ثورة سيئة الحظ تغرق روحها النبيلة تحت غبار التحالفات ومكائد المتحالفين ودسائسهم، من أردوغان الجار الشمالي وخليفة الإخوان المسلمين في اسطنبول الى البيت الأبيض في واشنطن.

ثورة تقف أمام افق مغلق بعد أن تطرف الاستقطاب وتحول الى مواجهة ثنائية بين فصيلين لا يمتان لسورية بصلة، النظام وداعش، فيما تراجعت القوى الحية التي كانت رافعة الثورة الى مناطق الظل والعتمة، او في افضل احوالها تحولت إلى اسيرة الجغرافية والتمويل والتحليلات الساذجة المثيرة للحزن.

أولئك الذين انتظروا الضربة الأمريكية للنظام من الدوحة واسطنبول وانشغلوا في تقسيم البلاد والتمادي في بناء التحالفات بحيث تم استحداث افكار ونظريات، تبدو الآن طريفة، في تبرير التحالف مع ” القاعدة ” ممثلة ب “النصرة” والتغاضي عن تمدد ” داعش ” تحت شعار أن ” التناقض الرئيسي ” مع النظام .. وافكار بائسة كثيرة من هذه المدرسة، وهاهم بانتظارها، الضربة الأمريكية، من جديد ولكن ضد داعش هذه المرة ومن الدوحة واسطنبول أيضاً.

سيعيد النظام انتاج مقتل الشغري بعد أن استنفذه حياً بالتعاون مع “داعش “، سيسطو على بطولته الصغيرة، تلك التي لم يخطط لها ولم يفكر بها ولا أظنه كان يتوقعها، وستتردد “المعارضة” طويلاً إلى أن تنسى الإشارة إليه رغم حربها المعلنة ضد “داعش”، ستصمت في تأكيد جديد لجمود فكرتها عن شعبها وعن نفسها، وهي المحكومة بمرجعية الانتقام والتعميم والإقصاء، إذ سيبدو وجود مثل هذا الفتى في هيكلية “جيش النظام ” خارج السياق تماماً، وستوزع “داعش” عملية إعدامه البربرية كرسالة لخصومها من المعارضة والنظام على طريقتها في بث رسائلها للمنطقة والعالم.

“يحي الشغري” هو الوجه الآخر لـ”إبراهيم القاشوش” مغني حماة الذي اقتلع شبيحة النظام حنجرته وتركوه طافياً على مياه العاصي، هو الإشارة التي يجب أن يعيد منظرو الثورة أمامها قراءة الواقع والحقائق التي تتمدد على الأرض، الإشارة التي ينبغي التوقف طويلاً أمامها ومحاولة تفكيك عفوية الجملة التي لفظها الفتى أمام قاتله وإعادة صياغة برامجهم وفكرتهم عن حرية بلادهم وشعبهم على ضوئها.

موقع 24

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى