صفحات العالم

هل يمكن بعد إطفاء الحريق؟


حسن شامي

ليس السوريون وحدهم من يلهج لسان حالهم، في هذه الأيام العصيبة، بعبارة المتنبي الذائعة:

عيد بأية حال عدت ياعيد

ذلك أن كثيرين في عوالم المجتمعات والكيانات الوطنية العربية القريبة والبعيدة يلهجون بتساؤل المتنبي المستنكر. فالشقاء العربي مقيم، على ما يبدو، رغم وعود ربيعه الباذخة والسخية. لا حاجة للتوسع في أحوال اللبنانيين وهم يناورون، خصوصاً في أعقاب اغتيال رئيس شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي اللواء وسام الحسن، على شفا الهاوية الجاهزة لابتلاع الجميع. ولا للاستفاضة في أحوال الفلسطينيين فهم مرشحون دائماً، على ما يبدو أيضاً، للخسارة. والأنكى أن تشاء معادلة دولية غريبة أن يكون الفلسطينيون كبش فداء ثابتاً للحراك العربي منذ النكبة. فزيارة أمير قطر إلى غزة قبل أيام، وتعهده بمشاريع عمرانية وإسكانية كبيرة، وهي استثنائية لكونها الأولى لرئيس دولة، لم يحفظ منها سوى أنها صفعة للسلطة الوطنية ورئيسها عباس. هذا في الأقل ما استوقف معظم التغطية الإعلامية الدولية للحدث باعتبار أن الوضع الفلسطيني يختزله الانقسام بين «حماس» و»فتح» مما يقلل من أهمية القرارات الإسرائيلية المتتالية بتوسيع الاستيطان. ولا تستبعد قراءات متعددة لتسخين المواجهات في غزة قيام الجيش الإسرائيلي بعملية عسكرية واسعة في القطاع، فيما يهدد وزير خارجية إسرائيل فلسطينيي الضفة بتدابير قاسية في حال لجوئهم إلى الأمم المتحدة.

على أن التأسي بمناسبة الأضحى لا يمليه الإيغال في انطباعية عاطفية تدور على اضطراب أحوال المجتمعات العربية وغموض مستقبلها. فهو يكتسب سورياً قيمة خاصة بالنظر إلى حجم الخراب وانسداد الدروب المفضية إلى حل يحترم تضحيات الانتفاضة ويحفظ ما تبقى، بعد 19 شهراً من الجموح المتدرج نحو أقصى الفظاعة، من الهوية الوطنية واللحمة الاجتماعية والمجتمعية المركّبة، أي غير المقتصرة على جماعة الأصل والولادة والمعتقد. بعبارة أخرى لن تكون الهدنة التي نجح الأخضر الإبراهيمي كموفد دولي في انتزاعها من النظام ومعظم المعارضة المسلحة سوى استراحة قصيرة جداً، وهشة على الأرجح، بين جولات مذبحة متصلة. هذا في حال احترام طرفي النزاع «هدية» العيد هذه كي يتسنى للبشر التقاط الأنفاس. أي في حال عدم التذرع بموقف جماعات مقاتلة كـ «جبهة النصرة» التي أعلنت رفضها للهدنة وإصرارها على مواصلة القتال منتشية ربما بذيوع صيتها إثر تفجيرات قوية وعمليات انتحارية شملت عسكريين ومدنيين، وأعلنت هذه الجماعة مسؤوليتها عنها.

من المتوقع أن يواصل النظام النفخ في صورة الدور الذي تلعبه المجموعات السلفية الجهادية والسعي إلى اختزال الانتفاضة بكل أبعادها والمطابقة بينها وبين نشاطات مجموعات قد يصح وصفها بأنها «إرهابية». العقل الأمني للنظام يجعلنا نرجح استخدامه لخطاب خشبي ودعوي يعفيه من الاعتراف بالقسم الأكبر من المسؤولية عن الأزمة الوطنية، وبالتالي عن نزوع كتلة متزايدة من المعارضة إلى منطق حرب الكل ضد الكل وعن توفير الشروط الملائمة لازدهار النزعات الجذرية ذات الطابع الأهلي والطائفي.

غير أن إدانة سلوك النظام ولجوئه إلى الحل الأمني لا تستدعي بالضرورة صرف النظر النقدي عن حسابات ومناورات خصومه وطنياً وإقليمياً ودولياً. فهؤلاء يتحملون أيضاً، وإن بنسب ومقادير متفاوتة، مسؤولية عن انسداد الأفق واتساع الحريق ووصول الطرفين إلى ما يشبه التقابل الشمشوني. لا يعني هذا أننا نضع على قدم المساواة غطرسة النخبة الحاكمة وانتفاض المحكومين الشرعي. بل هي دعوة إلى تجاوز ما وصفه نيتشه مرة بالانتقال من الوعي الاضطغاني، أي اعتمال الضغينة، إلى الوعي الشقي. معادلة «أنا طيب إذن أنت خبيث» والرد عليها بمعادلة مقلوبة هي «أنت شرير وآثم، إذن أنا طيب وطاهر».

ولا يقود هذا إلى حرب أهلية فحسب بل كذلك إلى حرب استئصالية لا تبقي ولا تذر. ليست الأرقام الدالة على حجم الكارثة والأعداد الهائلة للضحايا والمفقودين والنازحين داخل البلد وخارجه هي وحدها ما يبعث على التشاؤم والخوف من تحويل البلد إلى مقبرة مفتوحة، بل تعذر امكان التوصل إلى صيغة تفتح باباً صغيراً لاستقبال حل سياسي قابل للعيش بأقل الخسائر. يستدعي ذلك جهداً هائلاً لأخذ بعض المسافة عن المقتلة الدائرة على إيقاع قصف وحشي للمدن والبلدات والحارات وما يستثيره من نوازع الثأر والاستئصال.

نعلم أن الفرص تكاد تكون معدومة أمام جهد كهذا وأمام إظهار بعض التواضع حيال استعصاء الأزمة. فقد بات الأمر يتعلق بإنقاذ سورية من التعفن والتحلل أكثر مما بسقوط نظام شرس وضار ساهم لاعبون كثيرون في تسويق الاعتقاد بسهولة إلحاقـــه بالنظم السلطوية التي تهاوت في غير بلد عربي. وكان كل طــرف قد أجرى حساباته الخاصة الإقليمية والدولية، خصوصاً بعـد التدخل العسكري الأطلسي في ليبيا، لترسيخ معادلة التحكم بمسارات الانتقال السياسي وتطويق قدرات السلطات الناشئة والمنتخبة على الاستقلال بنهجها ومقاربتها للمصالح الوطنية.

لقد استفاد النظام الفئوي من الأقلمة والتدويل المتزايدين. وليس مستبعداً أن يكون استدرج القسم الأكبر من المعارضة إلى الحرب التي أرادها. وهو استفاد من النفاق الغربي وارتباكاته دافعاً الأزمة نحو مزيد من التعقيد. ولا يفيد كثيراً النفخ الشائع في صورة شمشونيته المتمثلة في الأسد والأبد وحرق البلد ولا أحد، فهو في النهاية يدافع بشراسة عن مصالح يأمل التمتع بها هو ونخبته الأمنية والريعية، لكنها مصالح تشمل كذلك فئات أخرى وتوفر للنظام قاعدة اجتماعية ينبغي أن يحسب حسابها.

نعلم أن مثل هذا التشخيص قد يكون مزعجاً للمؤمنين بأن لا صوت يعلو على صوت معركة إسقاط النظام. ولكن بعد أكثر من سنة ونصف من القمع، الدموي والقاسي، ومن عسكرة تضاعف معها عدد الضحايا، وانتقال من رفض التدخل الأجنبي إلى ما يشبه الاستجداء، وتعقد التجاذب الدولي وحرص الغرب على حصر الحريق داخل النطاق المحلي ولو أدى ذلك إلى تفحم المجتمع كله، يصبح من الواجب التفكير في إنقاذ بلد عريق تشير كل المعطيات إلى استطالة أزمته وحربه الأهلية إلى ما شاء الله.

تعويل الإبراهيمي على صحوة ما قد تتولد عن الهدنة الهشة، في حال حصولها، يكفي للتدليل على ظلمة النفق السوري الحالكة والشديدة. عسى أن لا يكون ذلك صرخة في صحراء.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى