ابرهيم الزيديصفحات الناس

هنا تل أبيض/ إبرهيم الزيدي

 

 

تل أبيض ليست هنا. إنها هناك، في منتصف الطريق، بين طفولتي وامتحان النسيان.

إنها هناك، حيث أصابع الأسئلة تبحث عن كفّ تتبناها. إنها هناك، حيث الفرح فرض كفاية، والقهر فرض عين.

تل أبيض، وما أدراك ما تل أبيض؟

مدينتي التي جفّ حبر خيالها، ولم يعد لصوتها حبال أتمسك بها! في الماضي شطرتها سكة قطار الشرق السريع قسمين، شمالياً أصبح لتركيا، وحمل اسم أقجي قلعة. آق تعني أبيض، وقلعة تعني تل، من حيث أن القلاع كانت تبنى على التلول. أما القسم الجنوبي فأصبح سوريا ليحمل اسم تل أبيض. إنها واحد من المعابر السورية الخمسة؛ تل أبيض، معبر اليعربية، جرابلس، السلامة، وباب الهوى. استوطنها الأرمن في أعقاب “السوقيات” 1915 وهو الاسم الذي اشتق من كونهم تفلتوا من “آمر السوق” الذي كان يشرف على سوقهم إلى حتفهم. فقد كانت أدغالها ملاذا لتلك الأسر الهاربة من الموت، التي يقال إن أفرادها مكثوا مدة سنة في تلك الأدغال، قبل أن يخرجوا إلى الحياة العلنية، ذلك الخروج الذي جعل من تل أبيض مدينة مثالية في ستينات القرن المنصرم، محاطة بالبساتين، تظلل الأشجار شوارعها. سبقت الرقة التي أخذت صفة محافظة، بوجود ثلاثة فنادق، وخمسة مقاه، وخمارة، وبحسيتا، وهو بيت الدعارة الذي كان تحت إشراف وزارة الصحة. إضافة إلى أربعة محلات للحلاقة الرجالية، والدكاكين والبقاليات. هذا كله لم يكن موجودا في تلك المنطقة قبل وجودهم، لذلك يمكن اعتبارها حاضرة المنطقة آنذاك، مما أهّلها لأن تكون مدينة، وتستقطب أبناء القرى المحيطة بها. بعد شعور الأرمن بالاستقرار، وانتشار وسائل النقل، أصبح لهم صلات مع مدينة حلب، التي استوطنها الكثير منهم أيضاً لقربها من الحدود التركية، فرحل بعضهم إلى حلب، وغادر بعضهم الآخر إلى أميركا وأوروبا وكندا، وحلّ محلهم العرب وأقلية كردية. بقيت الحال على ما هي عليه حتى نهاية السبعينات من القرن المنصرم، حيث أصبحت تل أبيض قبلة للكثير من أكراد المنطقة، إلا أن نسبة العرب بقيت هي الراجحة. وككل المدن السورية انصرف ناسها إلى أعمالهم التي كانت تعتمد على الزراعة أولا، والتجارة باعتبارها بوابة حدودية، إضافة إلى المهن الأخرى والعمل الوظيفي. من أشهر قبائل المنطقة قبيلة المشهور المتفرعة عن البقارة، وهي القبيلة، أو العشيرة. هكذا تسمى بلهجة المنطقة الأكثر حضوراً في تل أبيض.

المسافة بين منطقة تل أبيض ومحافظة الرقة لا تتجاوز 100 كلم، وتبعد عن رأس العين نحو 150 كلم، والأخيرة كانت هي الثغرة الخالية من الأكراد ما بين دجلة والفرات، فسكانها هم من البدو من قبيلة عنزة، إضافة إلى جيس ونعيم وعرب آخرين. وهناك التركمان إلى الجنوب، والمسافة بينها وبين تل أبيض كانت خالية من الأكراد، يقدر عمر وجودهم بأربعين سنة، حتى أن رأس العين لم يكن فيها كردي واحد حتى العام 1960، وهم الآن أكثر أهلها. بقيت تل أبيض طوال فترة النصف الأول من العام 2012 تحت وصاية النظام، ومن ثم سقطت، وكانت أول بوابة حدودية تسقط من يد النظام، ثم سقطت مرة أخرى بيد “داعش” وها هي اليوم تسقط من يد “داعش” لتصير في أيدي قوات الحماية الشعبية الكردية، بمساندة بعض القوات العربية المسلحة، وبغطاء جوي من قوى التحالف، فتصدر اسمها نشرات الأخبار، مرفقا بمعلومات ضحلة عن انتهاكات قامت بها قوات الحماية الشعبية الكردية لسكان المنطقة، وقد اعترفت بذلك نسرين عبد الله من قيادات قوات الحماية الشعبية بتلك الانتهاكات، واعتذرت عنها، تجاوزات قائمة على أسس قومية وخاصة في مدينة تل أبيض، وناحية عين عيسى. تزامن ذلك مع حملة على مواقع التواصل الاجتماعي تصف عرب المنطقة بأنهم “شوايا البعث” و”البيئة الحاضنة لداعش”، وثمة من نعت عرب المنطقة بصفة المستوطنين. هنا لا بد من السؤال عن النتائج المستقبلية للتداخل بين جبهتي العراق وسوريا، فهذا التقدم الذي حققته قوات حماية الشعب الكردي، والذي أدى إلى نزوح عشرات الآلاف من سكان المنطقة إلى تركيا، والبعض منهم إلى الداخل السوري، لا ينبئ بخير. فهذه القوات إن جاءت لتحرير المنطقة، فتقتضي الضرورة توفير الأمان لسكانها، وإن كان ثمة مقاصد أخرى، فالرسالة على ما يبدو قد وصلت إلى سكان المنطقة، وهذا ما جعلهم يتوجسون شراً، وينزحون عن ديارهم، ليأخذ الشمال السوري حصته من أحلام التقسيم، وكأنه ليس للبندقية سوى عين واحدة، والعالم لا ينظر إلينا إلا من خلالها!

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى