صفحات الثقافة

هنا يرقد باسل فقط ورياض الصالح الحسين/ خليل يونس

 

 

رياض الصالح الحسين كان ساكن بغرفة صغيرة بالديوانية (حي قديم في مدينة دمشق)، ويقال إنو أبو خلدون، بائع الفلافل، اشترى أغراض غرفة رياض من أحد أقرباؤو وقت مات.

استخدم الأغراض الصالحة متل سرير رياض والغاز الأرضي، وبعض أدوات المطبخ. باع الأغراض يلي ما بتلزمو، وأوراق رياض المبعثرة بعتها مع ابنو عالمحل للف الصندويش.

كان أبو خلدون عندو أوراق بالآلاف، اشترى معظمها من أقرباء شعراء وأدباء الديوانية الفقراء أو الشهداء.

أوراق رياض انحطت بأسفل الكومة وضلت لأكثر من ثماني سنوات محفوظة، ما كان يجيها الدور لتنلف وتنباع نظراً لخطوط إمداد أبو خلدون الورقية الدائمة. وكان كمان، حبرها الأحمر غير مشجع للف، بما أنّو اللون الأحمر غير ملائم للأطعمة، وخصوصاً إذا كان مجهول المصدر.

بعد إصدار قرار منع لف الصندويش بالأوراق المحبّرة من وزارة الصحة، حط أبو خلدون تلة أوراق اللف الضخمة يلي بيملكها جنب باب المحل. وكتب لافتة لتشجيع المارّة على أخد رزم من الأوراق للتدفئة أو لاستخدامها كمسودات.

طبعاً، ما كان حاسب حساب الهوا يلي كان أحياناً يهب بزواريب (يقصد بالزواريب الأزقّة) الديوانية. بنفس اليوم بالليل، هوا ليل الصيف القذر، الأسود، طيّر تلة الأوراق الضخمة، وبعثرها بكل منطقة العدوي (منطقة في وسط دمشق).

تاني يوم، كانت أساطيح بيوتنا كلها ورق، ما كان هالمرة لا عيد الجيش ولا عيد الطيران وكانت الأوراق بيضاء وكبيرة، مو ملونة وصغيرة. الأوراق يلي من نصيب بيتنا كانت جزء من رواية لكاتب شاب على ما يبدو، كان في تقريبا 100 ورقة من مسودة الرواية الأولى، بالإضافة لبعض أوراق دفتر حساباتو وديونو.

اسم الكاتب كان باسل، باسل فقط، اسمو التاني أو كنيتو كانت “فقط” على ما يبدو. كان من الصعب جداً قراءة خط إيدو، بس العلامة المميزة كانت نقاطو. كانت النقاط يلي فوق أو تحت الأحرف المنقوطة عبارة عن دوائر صغيرة. بعض هالدوائر كانت مخطوطة بقلم أسود، وكان قلب الدوائر الصغيرة ملون بألوان مختلفة. بعتقد أنو كانت هالعادة تساعدو عالتفكير، أو يمكن كان متوحد عبقري عم يخترع لغة جديدة نقاطها عبارة عن دوائر، ولون الدائرة بيحدد صوت الحرف يلي تحتها أو فوقها. لغة بتنكتب بواسطة 20 قلم ملون على الأقل، وكل ما كثر عدد الأقلام الملونة المستخدمة كل ما كانت اللغة أبلغ وأدق.

أوراق رياض كانت من نصيب عدّة برندات ببناية بتطلّ على حارتنا. أولاد الطوابق يلي حطَّت عندهن الأوراق صاروا يعملوا منها صواريخ ويطلقوها عالحارة. الصواريخ ومداها ودقتها كانت متفاوتة على حسب عمر وخبرة الطفل. بعضها كان يحلّق ويطير لمسافات بعيدة، بعضها كان يطير، يلف ويرجع لعند صاحبو.

الملفت بالصواريخ والمميز، كان لونها الأحمر بسبب الحبر. استمرَّ قصف الحارة وبيوتها القديمة بصواريخ رياض الصالح الحسين لعدة ساعات، كأطفال مُعدَمين لقيناها فرصة جيدة للتقرُّب من أطفال الطوابق العالية. صاروا هنن يرموا الصواريخ ونحنا نركض لنلقطها قبل ما تنزل عالأرض، ونتبارَى مين بيجمع صواريخ حمرا أكتر. أنا جمعت أكبر عدد منها، لأنو كان بيتنا هو الأقرب عالبناية. وأغلب الصواريخ كانت تحط عنا بالبيت بسبب سوء صناعتها.

في مجموعة أوراق طارت وحطت على سطوح جارتنا أم عائشة، جارتنا البياعة الماهرة يلي كانت تبيع كلشي بيوقع تحت إيدها. أجت بنفس اليوم لعند أمي عم تعرض عليها رزمة الأوراق المكتوبة بخط غير مفهوم أبداً على أساس إنّها قرآن مكتوب بخط الإيد، كاتبو حفيدو الألف للشيخ محي الدين. أمي أخدت رزمة الورق وعطتها صحن فريكة بدالهن، قمحَاتو لقوهن بجرّة فخار مدفونة بمقام لولي مدفون بالديوانية، على حسب ما قالت أمي لأم عائشة البياعة.

رزمة أوراق جارتنا أم عائشة البياعة كانت عبارة عن مسودات لقصائد غير معنونة ومن دون اسم كاتب، ومع أنو كان معظمها مكتوب بخط غير مفهوم، كان في بعضها واضح جداً. كانت قصائد بعيدة جداً عن القرآن المكتوب بخط اليد. كانت أغلبها قصائد جنسية مبهمة وغريبة، بتحكي عن أفعال جنسية جديدة، مخيفة أحياناً، فيها تعذيب أحياناً، وفيها حب، كان في اعترافات بجرائم قتل بشعة، بس ما كان واضح إذا كانت اعترافات حقيقية أو كتابات رمزية أدبيّة.

أمي صادرت رزمة الأوراق مني وقت عرفت بمحتوى بعضها، حطت الرزمة بأرض الديار، غرقتها بالكاز وحرقتها. اشتعلت رزمة الأوراق لفترة طويلة، لأكتر من ساعتين، والغريب أنو كان لون لهبة الأوراق بنفسجي، أحياناً أحمر، أو أصفر، أو أخضر. اللهبة الحمراء كانت لهبة احتراق أوراق اعترافات الجريمة، واللهبة الخضراء كانت لصفحات القرآن المكتوبة بخط اليد يلي ما بنعرف إذا كانت موجودة بالفعل لما لا، واللهبة الزرقاء كانت لهبة القصائد الجنسية، بظن أنو رغم الحميميّة العنيفة يلي كانت عم تحكي عنها القصائد، كانت أغلب نهاياتها باردة، متل لون اللهبة.

صواريخ رياض الصالح الحسين، رجعت فردتها بعد سنوات طويلة وحولتها لأوراق عادية وجمعتها بدفتر مع أوراق مسودة رواية باسل فقط.

حزمت الأوراق بشكل تبادلي، صفحة لباسل وصفحة لرياض. ببعض الصفحات، نقاط باسل الملونة بتنشاف بشكل واضح من خلال صفحات رياض خصوصاً بالمناطق الشفافة المصبوغة بالزيت، زيت سنوات وجودها عند أبو خلدون، لدرجة أنّو ببعض المقاطع، نقاط باسل بتظهر وكأنّها معمولة ومصممة لتنقط كلام رياض أو لتغير صوت حروفو. بسنة 2011، نشرت الدفتر من دون أي تعديلات، من دون أيّ عنوان، ومن دون غلاف. على الطرف السفلي من أول صفحة كتبت بخط إيدي الرديء.

“هنا يرقد باسل فقط ورياض الصالح الحسين”

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى