صفحات الرأي

 هندسة عسكريتارية للدولة وللديموقراطية!/ ماجد الشيخ

 

 

تأبى الديموقراطية إلا أن تكون هي ذاتها، مهما جرى ويجري إلباسها، أو تزيينها بمختلف الأزياء، أو تصويرها وكأنها عملية محايدة لا دخل للسياسة أو الأنظمة السياسية في إظهارها، أو الاشتغال عليها، وتقنينها وفق المصالح المرسلة لهذا الطرف المالك للسلطة أو ذاك الطامح لها.

لقد جربت أطراف كثيرة أن تلبس العملية الديموقراطية أو الانتخابية زي مطمحها الأكثر توافقاً وانسجاماً مع مصالحها، حتى وهي تتضارب وتتناقض مع مصالح الآخرين، كل الآخرين في الفضاء الوطني. من قبيل تحولها إلى نوع يتأسس وفق التقاليد على ترسبات الماضي، الذي كانت قد أرسته بدورها تقاليد المجتمعات الأهلية والقبائلية والعشائرية، وصولاً إلى أشكال من هيمنة التقاليد البيروقراطية العسكرية لمجموعة أو لفئات من الضباط المحترفين، الذين نشأوا وأنشأوا سلطتهم في ظل حكم عسكري سابق، شكلوا عماد سطوته وسلطته العميقة، وها هم اليوم يشكلون سلطة لهم، لا تخرج عن إطار ومضمون تلك «العسكرقراطية» المحفوفة بأنواع شتى من التضاد وحتى معاداة القوى والأحزاب الوطنية الأخرى، واشتقاق طرق وأساليب لا تكفل سوى الحفاظ على مجموع المصالح الفئوية الخاصة، لطبقة العسكرقراطية، حتى في تضاربها وتناقضها مع ما تدعيه لنفسها من أهداف مضمرة أو معلنة، لا علاقة لها بمصالح غالبية من الناس.

كل هذه الأشكال الهجينة من مزاعم الدمقرطة، أو «الانتخاب البديل» الذي صار يتجلى أخيراً في أن يقترع أصحاب المصالح، كبدلاء عن أصلاء، حتى صار الناخب في هذه العملية مجرد أداة قد تعي أو لا تعي ما تفعل، هو رهينة سلطة منحازة، لا هي محايدة ولا هي مستقلة، السلطة هي التي تختار نفسها وشخوصها والمقربين منها، وذاك استبداد مكرر ومضاف، مفضوح ومقنع، يعادي السياسة والديموقراطية والعملية الانتخابية، ولا يأخذ في الاعتبار أن هناك شعباً له تطلعاته من أجل الحرية والكرامة وتأمين مستقبل لائق لأبنائه، على أسس من قيم المواطنة والحداثة والتنوير، وتجاوز فتن الفوات والتخلف الممسك بتلابيب مجتمعات ودول محكومة لفساد واستبداد السلطة وتبعيتها للخارج، وبيع بلادها لأصحاب النفوذ والمصالح.

هنا تتحول النزوات السلطوية الصغرى، إلى ارتكابات وخيانات كبرى، لا ينفع في مداواتها الصمت أو غض النظر والبصر والبصيرة عما تجري هندسته من قبل السلطة المباشرة، وهي تستغل سطوتها وسطوة ما تدعيه من توصيفات لذاتها، في غيبة فعل الإرادات المستقلة الممثلة للقطاعات الأوسع من الشعب، لتخطط في ليل ما أرادت وما تريد أن تكونه، كممثلة لمصالح خاصة بفئات من عسكر وحرامية الاقتصاد الوطني واحتكار التجارة، لتكتمل سطوة السلطة على السياسة، وعلى كل ما يفتح أمامها آفاق النهب والسمسرة، وصولاً إلى السيطرة الكاملة على عمليات الاقتراع، وذلك بهدف هندسة كامل معايير ومواصفات هيمنتها على أدنى مؤسسات الدولة، حتى تصبح الدولة هي السلطة والسلطة هي الدولة. وهذا هو حال أنظمة الفساد والاستبداد السلطوية، مدنية كانت أم عسكرية، وحتى مختلطة، على ما كان حال ما سميت يوماً «الأنظمة التقدمية»، التي يُعاد اليوم إنتاج نظائر لها في عدد من الدول، في ظل تلميع صورة هيمنتها العسكرية، كمآل أخير لتحولاتها.

في هذه الحالة الموصوفة اليوم في بلادنا، لم يترك العسكر للسلطة أن تبقى مدنية، أو تحفظ للبرلمانات دورها التشريعي، أو للشعب كمرجعية لديموقراطية مغدورة، أو للسياسة دورها المفترض. لقد ذهبت شهوة السلطة والمصالح الفئوية الخاصة، إلى إعادة هندسة المجتمعات المحلية وإعادة قولبتها بما يتوافق وأهداف عسكرة السلطة وشخوصها، وإعادة إنتاج هرمية طبقات المجتمع، بحيث تحول الجنرالات وبعض المسؤولين الأمنيين إلى شركاء في الهيمنة على الاقتصاد، مباشرة عبر مؤسساتهم الأمنية، أو في شكل غير مباشر، عبر سطوة نفوذهم وهيمنتهم وإرهابهم الآخرين لإشراكهم في مسألة الهيمنة الطبقية أو الاجتماعية أو السياسية، حتى صارت للجنرالات احتكاراتهم الخاصة لهذه السلعة أو تلك – بالفرادة أو بالشراكة – وصارت «الدولة العميقة» صناعتهم وصنيعتهم، وفي بعض الحالات يدخل الرئيس نفسه في إطار تلك الصناعة، ما دام عاجزاً عن أن يحكم بمفرده، وبكاريزماه الخاصة التوريثية أو المكتسبة، من دون عون العسكر والأمنيين، ومن لف لفهم من مدنيين يؤثرون دائماً أن يكونوا الفئة الرثة الارتزاقية، التي عادة ما تختار الانضمام إلى السلطة أياً كانت أو تكون.

على هذا يشكل غياب وعي المجتمع والمواطن بحقوقه السياسية، إحدى مثالب عملية الاقتراع، وليس الديموقراطية فحسب، وبالتالي فهذه الأخيرة لا يمكن أن تستوي كعملية حقيقية من دون الوعي والإحساس بالمواطنة، والحصول على كامل الحقوق المدنية والسياسية، فأي ديموقراطية يمكن أن تقوم لها قائمة في ظل أنظمة سياسية متخلفة، جاءت بها وجادت قرائح قوى إقطاع سياسي طبقي، عمادها انحيازات طائفية ومذهبية، أوصلتنا أخيراً، بل أسلمتنا إلى تراتبية أنظمة عسكرية أو متعسكرة، آل إليها الحال السياسي والاقتصادي والاجتماعي، في ظل سيادة نهج من تدين متعسكر، باتت معه العديد من قوى «الإسلام السياسي» الوجه الجديد للإقطاع الديني والسياسي الحالم بمد سلطته وسلطانه على كامل الرقعة الدولتية السياسية والاجتماعية القائمة في بلادنا.

* كاتب فلسطيني

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى