صفحات الرأي

هومي بابا : رؤى ما بعد الكولونيالية/ عبدالستارعبداللطيف مال الله الاسدي*

 

 

 

في سياق الدراسات النقدية الكثيرة برز, في ثمانينيات القرن الماضي, حقل معرفي جديد, اهتم بالبحث الثقافي والسياسي و التاريخي معا , ضمن توجه جديد, يؤكد على تداخل ميادين المعرفة بأزالة الحواجز الافتراضية بينها, اصطلح عليه بالدراسات مابعد الكولنيالية (او مابعد الاستعمارية) و يقوم على اساس انه في الدول المستعمرة(بكسر الميم) والدول المستعمرة(بفتح الميم), حتى بعد الانفلات من نير الاحتلال العسكري و امتلاك ناصية “الحرية” السياسية , بزغت نتاجات ثقافية مولّدة او هجينة – هي مزيج من ثقافة المركز و هو بؤرة الهيمنة الثقافية, عرف بأنه الحاضرة Metropolis (لندن او باريس او مدريد او روما…) , و ثقافة الافلاك Satellites اي المستعمرات السابقة – و هذا الحقل الجديد يدرس التوتر بين الثقافتين و الازاحات الثقافية و تبعاتها على الهوية الفردية و المجتمعية التي اعقبت الغزو و الهيمنة من منظور لا-اوربي المركز, يحاكم امبريالية القوى المستعمرة و السياسات التوسعية ويعرّي نظامها القيمي الداعم لها, و الذي لم يزل , من ناحية, مهيمنا على تفكير الساسة و الباحثين و صناع القرار في العالم الغربي, ازاء “العالم الثالث” برمته! و من ناحية اخرى, يلقي (النقد ما بعد الاستعمار) الضوء على السبل التي انتهجها هؤلاء “المنزاحون ثقافيا” لدرء ما بوسعهم صده او رده عن ابناء جلدتهم ثقافيا بمعنى اماطة اللثام عن نماذج المقاومة”الوطنية” الفكرية التي سعى الغرب طوال مسيرته الماحقة على طمسها بل و كشف الارتباط بين الامبريالية و الرأسمالية بصفتهما وجهان لعملة واحدة و بتعبير هومي بابا- Homi Bhabhaاحد ابرز المنظرين في ميدان النقد ما بعد الاستعمار:

“ولدت (رؤى مابعد الاستعمار) من رحم شهادة العالم الثالث – وهي شهادة المستعمر(بفتح الميم) وخطابات الاقليات ضمن تقسيمات جيوبوليتكية: (الشرق/الغرب) و(الشمال/الجنوب) و اشتغلت على صياغة ردودها النقدية حول قضايا الاختلاف الثقافي و الهيمنة الاجتماعية و التمييز السياسي من اجل كشف لحظات التباين و العداء ضمن تبريرات وفرتها الحداثة “(بابا 1992: 438) **…كما في مفاهيم التقدم و الانسجام و النزعة العضوية الثقافية و الامة العريقة و الماضي التليد و هي تبريرات استعقلت نزعات التسلط باعتبارها “امرا طبيعيا” لابد منه ضمن الثقافات.

اي ان عبارة (ما بعدالكولنيالية او ما بعد الاستعمارية) جاءت لتغطية كل الميادين الثقافية التي تاثرت بالعملية الامبريالية من لحظة الاستعمار حتى الوقت الحاضر لاستمرارية انشغالات الهمجية الاوربية عبر التاريخ بالهيمنة على الشعوب المستضعفة و غدت العبارة ملائمة للافصاح عن النقدالجديد العابر للثقافات …اذن هي تغطية للادب اثناء و بعد فترة الهيمنة الامبريالية الاوربية و تاثيراتها على الاداب المعاصرة… و من هنا فان آداب كثيرة و متعددة لشعوب متنوعة و متباعدة تندرج ضمن هذا المصطلح كالشعوب الافريقية و العربية و الهندية و السيريلانكية و البنكلاديشية و الماليزية والمالطية و الاسترالية و النيوزلندية و الكاريبية و امريكا اللاتينية…الخ و هناك من يدخل الشعب الامريكي ايام الاستعمار البريطاني في هذا الميدان المعرفي الذي غايته ابراز التجربة الاستعمارية و ما فيها من توتر مع التاكيد على الفوارق بين مراكز الهيمنة و الافلاك الدائرة حولها.

و لا ادري ان المصطلح (مابعد الكولنيالية او مابعد الاستعمارية ان شئت في نسخته المعرّبة– الامر سيّان), بهذه الصياغة , هو الاخر وقع – عن وعي او دون وعي – فيما سعى الحقل الجديد (او زعم انه سعى)- لتعريته او لكشفه او لالقاء المزيد من الضوء , على ظلمات الحقبة الاستعمارية المقيتة, مادام ان المصطلح نفسه – رغم كل ما انجزه – لايجد خلاصا من ماض ارتبط بالاستعباد و التبعية و الدونية و القهرالفكري و لا يريد – كما يبدو- ان ينفلت من عقال الدوران في فلك الحاضرة المستعبِدة له, و لا يعترف بالمتغيرات اللاحقة بل يؤسس لمستقبل غير مرئي هو الاخر يدور في حتمية الاستعمار وقدر لا مناص منه بل و” طبيعي” … وانا لا استغرب هذا – فرواد التيار الجديد تربوا “هناك” و عقلوا الاشياء بمنظورغربي و ظلوا في الطوق وان امتد الطِوَل بهم! هل هوالاخر نتاج ماكنة الفكرالغربية؟ مجرد تساؤل!

لعل من ابرز القضايا التي تناولها هومي بابا في اعماله هي قضية التفاعل بين المستعمر(بكسرالميم) و المستعمر(بالفتح) وهي قضية كان الدارسون قبل ذلك يحجمون عن التطرق اليها فهذا ايميه سيزير على سبيل المثال في كتابه (خطاب حول الاستعمار)(1955) يرفض البت بتحقق اي اتصال انساني بين الاثنين في ظل سيادة علاقات الهيمنة والخضوع , فالمستعمر الاوربي دائما هوالسيد : فهو مدير مدرسة او عريف بالجيش او السجّان او سائس العبيد بينما صار الاهلي هو العبد او مجرد و سيلة انتاجية وهذا ما تعززه الوثائق و التقارير البريطانية و الفرنسية بشأن الحياة في المستعمرات ولكن يظل الادب الميدان الامثل لرؤى كاشفة اخرى لم تقترب منها تلك التقارير فالخبرة الاستعمارية مثلا في رواية قلب الظلام لجوزيف كونراد هي التي أثّرت في تحول كيرتز تاجر العاج الى احد المهووسين بالثروة و في رواية رحلة الى الهند لفورستر نشهد امرأتين تعانيان الامرين بشكل دائم طوال وجودهما في الهند و تدفعان الثمن لمغادرتهما الحدود المالوفة.

يرى بابا ان لقاء المستعمربالمستعمر لقاء اُثّر فيهما معا فالاستعمار بكل ما فيه من ازاحات و لايقينيات هو خبرة غير مستقرة بشكل جذري و تنم عن الهامشية (بابا1992: 438) و ما مصيبة المستعمر(بالفتح) الا تشكيل للتشظية و اللامدرك وفق مفاهيم مابعد البنيوية ، من ناحية ومن ناحية اخرى، ان الخبرة الاستعمارية اثرت بالمقابل على المستعمر(بالكسر) الذي لم يعد بمقدوره الهروب من اتمام علاقة معقدة و متناقضة ظاهريا مع المستعمر(بالفتح) وان هويته غير مستقرة قلبا و قالبا فهو بدلا من ان يكتفي بذاته فيما يخص هويته تراه يبني جزءً منها على الاقل من التفاعل مع المستعمر(بالفتح) لان هويته ليس لها من اصل في ذاته و ما هي بالكيان الثابت بل تفاضلية اي ان المعنى يتولد بالاختلاف المبني على الخطابات الغربية ذاتها عن الشرق مما ينم عن اتكال جزئي على (الاخرين) الذين ليسوا على ود معها و ظاهريا عليه ان يقنع ذاته المرة تلو المرة بحقيقة هذا النمط و بالمدى البعيد بهويته و ثقة المستعمر (بالكسر) بنفسه لسوف تتقوض اكثر فاكثر بما يدعوه بابا بالتقليد و هي الطريقة الغريبة و المشوَّهة دائما – نوعا ما – التي يسعى فيها هذه المرة المستعمر(بالفتح) سواء باختياره ام تحت القهر لتكرار سبل المستعمر(بالكسر) و خطابه بحيث انه من خلال هذا التقليد, يرى المستعمر(بالكسر) نفسه بمرآة تشوّه صورته بشكل مؤثّر و في دراسة بعنوان مفاهيم اساسية في الدراسات المابعدالكولنيالية اشترك في كتابتها ثلاثة من ابرز النقاد هم (بل آشكروفت) و (كاريث كريفيث) و (هيلين تيفين) ورد هذا النص للدلالة على التقليد, مقتبس من رواية عنوانها (رجال ديدنهم التقليد) (1967) The Mimic Men للكاتب الترينيدادي ف.س. نايبول V.S.Naipaul:

“و بالنسبة لمستر شايلوك … الذي لديه مومسة و بدلة مصنوعة من القماش الفاخر جدا لدرجة شعرت أني اهم بألتهامها لكني لا املك الان الاّ الهيام بها … اعتقدت ان المستر شايلوك رجلا متميز , كما يبدو عليه – محام او رجل اعمال او سياسي – كانت تستحوذ عليه عادة ان يضرب صيوان اذنه و يميل راسه ان اراد الاصغاء, لقد استنسخت ذلك عنه و كنت قد ادركت من الوقائع المنصرمة في اوربا …صحيح – انهم عذبوني, و صحيح ، اني جاهدت لابقاء اودي بسبع باونات في الاسبوع ، على الرغم من ذلك, قدمت لمستر شايلوك بالغ تعاطفي الصامت” .

ان هذا المقطع ينم عن المفارقة العميقة خاصة لو عرفنا ان الراوي يدفع لشايوك ثلاثة جنيهات في الاسبوع اجرة للغرفة التي يعيش فيها (ينبغي ان نتذكرتاجر البندقية و ما يثيره الاسم من ايحاء) كما ان المقطع يشير الى الهولو كست و بالتالي الى ما يفترض بالقراء ان يقدمونه! و ان موقف الراوي الكاشف لاعجابه و احترامه الظاهريين و موقفه الحذر المتوجس من الرجل لهو امر يكتنفه الغموض و الحيرة ليس لشايوك نفسه بل للقراء ايضا و عموما , فان خطاب المستعمر (بالكسر) – و هو سلاحه الاكثر فعالية في الالتقاء الثقافي – ليعد اقل استقرارا و امنا و يعود ذلك, الى ان التنميط هو العنصر الاساسي في الخطاب الاستعماري , ولعله بسببه , ماعاد واثقا بنفسه و لا تسلطيا كما يتمنى ان يكونه او كما يقدم نفسه بل و فقد سيطرته المطلقه عليه عندما وقعت الهيمنة تحت مطرقة القلقلة Destabilization لاسباب ليست لها علاقة بكليهما تارة و تارة اخرى, نتيجة افعال المقاومة الواعية من لدن المستعمر(بالفتح) – فمن الناحية العملية, و في لقاءات فعلية بينهما ,غالبا ما يتجنب هذا الاخير, ان تلتقي نظراته مع نظرات الذي استعبده , وبعيدا عن هذا كله , فان لغة المستعمر (بالكسر), خاضعة لتاثيرات الاختلاف, وفق المفهوم الدريدائي.

ان من ابرز اسهامات بابا تركيزه على الهجنة, اذ ان اللقاء الاستعماري يؤدي الى الانصهار, و بالتالي ظهور الهجين الاستعماري, وتتداخل الهجننة في ممارسة السلطة , لا لتشير الى استحالة (اي تحوُّل) هويتها فحسب, بل الى تمثيل اللامتوقع لحضورها , وقد انُتقد بابا على رايه هذا, فهو ان صح نظريا, لا يجد له مكانا في الممارسة اليومية للحكم الاستعماري , فالسلاح الذي يحمله المستعمر (بالكسر) الغر, قد لا يعزز هويته من الاساس, على الرغم من اعطائه زخما لاحتقار كل علامات التقليد التي تصادفه, و احتج اخرون على مستوى التجريد الذي تشتغل عليه اعماله, فالنقاد الماركسيون و “دعاة الانثوية المابعد الكولنيالية” – مثل الناقدة الهندية كياتري جاكرافورتي سبيفاك G.C.Spivak – انكروا وجود هكذا لقاء عام , و بالنسبة لهم, ان نظرية تتناول الموقف الاستعماري, دون ان تعير انتباها جادا للاختلاف, بين الرجال و النساء و بين الطبقات الاجتماعية, انما هي نظرية لا تعطي التنوع (الذي يفهم به اللقاء الاستعماري) حقه.

ان سبيفاك ركّزت على شريحة كبيرة, من البشر, يشكلون الغالبية العظمى , في المجتمعات المستعمرة(بالفتح)- شريحة لم تترك اثرا في التاريخ, لانها لم تستطع, ولم يسمح لها, ان تُسمع صوتها, فالملايين من الرجال والنساء, الذين عاشوا و ماتوا تحت الحكم الاستعماري, دون ان يتركوا اثرا, بل ان النساء مغيباتthe Female Subaltern مرتين, عن التاريخ , لانهن اضافة لاشتراكهن مع الرجال, في الخضوع للحكم الاستعماري ، يخضعن لثقافة ابوية, في مجتمعاتهن, و وجّهت سبيفاك النقد, لهومي بابا, الذي تراه , انه لم يضع حدودا فاصلة, بين الرجال و النساء, لدى معالجته التفاعل بين المستعمر(بالكسر) و المستعمر(بالفتح) اي تم اغفال قضية (الجندر – الجنس) وظلت سبيفاك واعية للاختلاف و التباين, حتى ضمن النظرية الانثوية , اذ هاجمت الانثوية الغربية, لاشتغالها من داخل افق, تحدده انشغالات , متنافرة جنسيا لبيض من الطبقة الوسطى, و بالرغم من موقف سبيفاك هذا , من بابا, فلا احد ينكر جهوده في شحذ الاذهان و الوعي لماحدث – او قد يحدث – فعلا في المشهد الاستعماري, و بالتالي في كل لقاء بين مجموعة مهيمنة و اخرى مقهورة, كما ان بابا اضاف مفهوم (الغيرية) , و هو مفهوم ظل محيرا- اذ كيف التعامل مع (الغيرية الحقيقية) مع فقدان القابلية المطلقة لقياس القيم الثقافية و اولوياتها و التي غالبا ما تسم اللقاءات الاستعمارية؟ و في ذات الوقت , يؤكد الجميع , على القمع الاستعماري و على المقاومة و على هويات المستعمر و المستعمر, و على نماذج التفاعل بين هذه الهويات , و على هجرات مابعد الاستعمارية , الى الحاضرة, و على مجموع التبادلات الثقافية بينهما ,بل ان اهم القضايا , هي المتعلقة بالعرق و الابوريا Aporia والاختلاف و الاثنية و باللغة و بالجنس و بالهوية و بالطبقة و بالقوة و تجد منظري المابعد الكولنيالية , يتفقون على صلة مؤسستهم بعالم القرن الحادي و العشرين – عالم اختفت منه المستعمرات بالمفهوم القديم – و لكنه عالم يستشف منه “علاقات استعمارية جديدة”, باتجاهين متعاكسين ولعل ما افرزته العولمة من تداعيات يمثل البعد الاول اما البعد الثاني فيتمثل في انتشار جاليات او “مستوطنات”, قادمة من “الافلاك”, ذات اغلبية سكانية اثنية, متواجدة “هناك” – ضمن الشعوب الغربية نفسها, استوطنت ابان الحرب , وفترة ما بعد الحرب, على حد سواء, و ادّت ادوارا , في غاية الاهمية و الخطورة, سلبا و ايجابا, في الحراك الثقافي و الاجتماعي و السياسي في “حواضر” اعتبرت يوما ما , بؤر الهيمنة الاستعمارية , بمعنى ان للمكان و الانزياح Displacement عنه , سمة بارزة, في ادبيات مابعد الكولونيالية , تكشف ازمة الهوية, و معاناة التهجير, و الاستلاب والاستعباد و التشويه الثقافي والقمع الفكري الواعي و اللاواعي …الخ و لكن الخوض في هذا يستلزم مقال آخر!

*اكاديمي عراقي

** انظر:

Homi Bhabam, “Postcolonial Criticism”, in Stephen Greenblatt and Giles Gunn (eds) Redrawing Boundries: The Transformation of English and American Studies, N.Y.:MLA.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى