صفحات الثقافةعارف حمزة

هويّة “ألف ليلة وليلة” :نقاش فيسبوكي!/ عارف حمزة

 

 

قد يُخرج نشر الأفكار والمقالات مواقع التواصل الاجتماعي من الصورة التواصلية التي وُجدت من أجلها، وفي عالمنا العربي قد تكون حلاً جيّداً لتبادل الأفكار وطرح نقاشات وآراء بوسعها أن تُزيل طبقة الكسل التي تُغطّي الكثير من مناطق الإبداع والنقد. وبذلك تقدّم، تلك المواقع، خدمة جيّدة ومتبادلة بين أهل الاختصاص ومَن يفتقدون ذلك أيضاً؛ فقد يؤدي نشر مقال في تلك المواقع إلى نقاش وتفاعل من جهة، وجمع أشخاص، من أماكن مختلفة قد لا يجتمعون بسهولة. ومن جهة أخرى تكسر حالة “الحجب” التي يُعاني منها الكثير من المواقع والصحف في عالمنا العربي المتقاعس عن الخوض في كل ما هو جديد، ممّا يعني أيضاً رفع سقف حرّية التفاعل بين المتحاورين وفي خصوص الموضوع المطروح.

لماذا “ألف ليلة وليلة” ليست رواية؟

من تلك المقالات التي أحدثت تفاعلاً كبيراً، المقالة التي كتبها الشاعر والروائي أمجد ناصر في صحيفة “العربي الجديد” تحت عنوان “لماذا ألف ليلة وليلة ليست رواية”، ونشرها على صفحته الشخصية في فيسبوك، وتفاعل مع طرحه كتاب ونقاد وقراء كثير، أدلوا، بدورهم، بتساؤلات وتصورات أخرى فتحت أبواباً جديدة طاولت مسائل عديدة. طرح ناصر ذلك السؤال الذي قد يُلقي الضوء على ما بقي غامضاً في كتب التراث التي خضع العديد منها للتحقيق الجامد، والقراءات المدرسية من دون الإفادة من مدارس النقد الحديثة التي تفكك البنى المستقرة وتنبش ما ظن الجميع أنه لم يعد هناك ما ينبش، أو يقلَّب على وجوهه، في أمهات الكتب والمدونات السردية العربية التراثية.

“ما الذي يمنع “الليالي العربية” من أن تعتبر روايةً، وليست حكايات، ما دامت “شروط” الرواية تتوفر فيها، ومنها مثلاً: الحكاية الإطارية، والشخصيات الأساسية، والتطوّر الذي يطرأ على هذه الشخصيات، فلا ينتهي بها الحال كما بدأت… فضلاً عن معجزة “الليالي” التي لا نظير لها في القص العالمي: التناسل الحكائي المنظوم في إطار جامع، بل قل هذه المتاهة من الحكايات التي تقودنا في أرجائها شهرزاد مبهوري الأنفاس، من دون أن نبرح عالم “الرواية” إلى غيرها، كما يفعل العمل الشفاهي الذي لا تقوده، غالباً، غاية واحدة، وينتظمه تسلسل عارف بمادته”. وفي الوقت الذي لا يُطلق ناصر على “ألف ليلة وليلة” اسم الرواية؛ ولكن ما المانع في ذلك؟. المسألة ليست في نسبة تلك الليالي؛ على أنّها مؤلَّف عربيّ أم فارسيّ أم هنديّ، ولا الخلط الحاصل بينها وبين كتاب “هزار أفسانه”، أي ألف خرافة بالفارسيّة، وكذلك بينها وبين الأسلوب الهندي، في توليد الحكايات، الذي وصل إلى اللغتين العربيّة والفارسيّة بسبب الترجمات. ولكن لماذا يتم تعريفها على أنّها “كتاب يتضمّن مجموعة من القصص التي وردت في غرب وجنوب آسيا، بالإضافة إلى الحكايات الشعبية التي جُمِعت وتُرجمت إلى العربية خلال العصر الذهبي للإسلام. يعرف الكتاب أيضاً باسم الليالي العربية في اللغة الإنكليزية، منذ أن صدرت النسخة الإنكليزية الأولى منه سنة 1706” وفق ما جاء في موسوعة ويكيبيديا.

غياب الاسم لا يعني غياب المُسمّى

الكاتب المغربي ميشرافي عبد الودود كتب في تعليق له على النقاش الذي أثاره ناصر “أعتقد أن الجدال الذي انزلق إليه النقد العربي بخصوص الرواية غير صحيح؛ العرب لم يعرفوا الرواية كما هو متعارف عليها لدى الغرب، لكن السرد العربي حافل بأشكال سرديّة (وروائية معقدة) من أبرزها ألف ليلة وليلة، التي كان يعتبرها جمال الدين بن الشيخ، في كتابه “شهرزاد أو الكلمة الحبيسة”، من الروايات حسب قوله وتحليله لها. لو وُجّه النقد العربي إلى طرح أسئلته عن الرواية من داخل المتون السردية العربية لخرجنا بطائل بدل الخبط والتيه. كما لا يجب أن ننسى فضل ألف ليلة على الرواية العالمية؛ بحيث يصنف النقاد الرواية الغربية بمرحلة ما قبل وما بعد ترجمة انطوان غالان لألف ليلة، كما أن الواقعية السحرية ما هي الا استلهام واستنساخ جيني رائع لليالي العربية، ولنتذكر خورخي بورخيس الذي كان يصنف الليالي كأعظم كتاب أنتجته البشرية، وعكف في أواخر حياته على تعلم اللغة العربية خصيصاً لقراءتها في أصلها العربي، فيما نحن ربما لا نزال نصنفها خارج الأدب الكلاسيكي”.

الكاتب والمترجم المصري أحمد عبد اللطيف ردّ على عبد الودود بأنّه لا يعتقد “أن فكرة التسمية لاحقة على المسمى، ماذا لو كان الغرب سموا الرواية قصة؟ أو سموها حكاية طويلة؟ هل كان العرب حينها هم الأسبق لأن لديهم حكايات ومقامات؟ مسمى الرواية غربي، ونقدهم كان موضوعيّاً في البداية بنسبتها إليهم، لكن النقد الحديث يجب أن يطرح سؤال البنية والاكتمال الفني في العمل ثم يصنفه. هذا ما يطرحه المقال، غياب الاسم لا يعني غياب المسمى. وأتفق معك بأنه من الليالي خرجت تيارات الفانتازيا والواقعية السحرية، ولي كتاب ترجمته بعنوان “صورة العربي في سرديات أميركا اللاتينية” لكاتب كوبي يؤكد مدى التأثير العربي في السردية اللاتينية. وأضم صوتي لصوتك في اقتراح توجيه النقد العربي لدراسة المتون السردية العربية، وهو عمل يقوم به باقتدار (الناقد عبد الفتاح) كيليطو من بين أسماء أخرى قليلة”.

أين تبدأ الليالي وأين تنتهي؟

من جهته رأى الكاتب العراقي الكبير محمد خضيّر أنه يوجد “في ألف ليلة وليلة بناء ترابطي/ تنضيدي ينبغي تأمله والاستفادة منه. وهكذا الأمر مع كتب أخرى من التراث السردي العربي مثل كليلة ودمنة والمقامات. والغريب أن كتاباً عالميين ابتداء من بوكاشيو، صاحب الديكاميرون، حتى كالفينو، صاحب الكتب السردية التنضيدية، استفادوا من أنظمة السرد العربية تلك لما توفر من حرية في التنوع الحكائي والبناء الإطاري والتشويق الغرائبي. وليس خافياً أن (دون كيشوت) والرواية الأوروبية التشردية (البيكارسك) تدين للمقامات العربية في الأسلوب وبناء الشخصيات بالشيء الكثير”. هذه الإطلالة على الشكل السرديّ في ألف ليلة، وغيرها من كتب التراث، وتأثيراتها اللاحقة، أضاف إليها ناصر بقوله “على ما أظن. يخطر لي أن ألف ليلة وليلة أكثر تعقيداً وضخامة في المعمار من أن تكون رواية، حتى وإن كانت ملحمية. دعنا نقرأ رواية ملحمية مثل الحرب والسلام، هناك بداية لها وهناك نهاية. لكن أين تبدأ الليالي وأين تنتهي؟. وبهذا ينتفي العنصر الزمني الذي لا بد من وجوده، ولو خيطياً، لتكون هناك رواية. لا رواية من دون “تنضيد” زمني. كيف نقرأ الزمن في الليالي؟ مجرد تساؤل”. ردّ محمد خضيّر على هذا التساؤل بقوله “الزمن لا نهائي كما تقول. بدليل الليلة بعد الألف. فهي دلالة على ابتداء ألف أخرى. أضف إلى ذلك أن البناء الترابطي لقصص الليالي يفتح المجال لإضافات تالية. ويقال إن الكتاب الأصلي يقتصر على مائة حكاية لكن النظام المفتوح سمح بتفرّعات وروابط أخرى. إن الاسم المجهول وحده جعل الكتاب يجتاز الأمكنة والهويات كذلك. فعلاً إنه كتاب عظيم. يستحق احتفالاً خاصاً به”. هذه نقطة أيضاً تستحق الدراسة؛ لماذا لم تكن ألف ليلة فقط؟ وهل يعني إضافة ليلة أخرى بعد الألف رجاء من آخر “المؤلفين” لمؤلف قادم من المستقبل كي يُضيفَ من طرفه ليالي أخرى؟ وهكذا مثل “سباق التتابع” يُتابع العدّاؤون تسليم لياليهم في رزمات متراكمة تفتح بوابة الزمن اللانهائيّ إلى لا نهائيّة أوسع. “كم هي ذات دليلة كبيرة هذه الليلة بعد الألف. هنا الزمن ينفتح ويسمح بحضور اللانهائي. من المستحيل أن يمهر سفر ضخم ومتعدد كهذا باسم مؤلف واحد، هذا لا يستطيعه، حتى الآن، كاتب واحد. حتى كتاب صراع العروش، المتحول مسلسلاً تلفزيونياً لا نهائياً، سيجد نفسه أمام نهاية حتمية” مثلما علّق أمجد ناصر من جهته.

النقد والدراسة والأفكار النقديّة

اشتغل محققون ونقاد عرب قلائل على ألف ليلة وليلة، وبعضهم سار وراء نسبة العمل الضخم إلى العرب وإثبات عدم نسبته إلى الآخرين، مثلما كان الحال مع الناقد والشاعر سامي مهدي الذي ألّف كتاباً سنة 1984 بعنوان “ألف ليلة وليلة.. كتاب عراقي أصيل”، محاولاً نسف فرضيات المسعودي وابن النديم والتوحيدي، الذين انحازوا إلى الأصل الفارسيّ له. وهناك مَن يعمل بهدوء، طوال سنوات، من أجل تفكيك وفكّ هذا العمل وفق رؤى نقديّة جادّة، مثل كتاب “العين والإبرة” لكيليطو، وكتابات جمال الدين بن الشيخ وسعيد الغانمي وغيرهم. الكاتب المغربي لطيف عدنان عمّق منحى آخر من النقاش في تفاعله مع المقالة والآراء عندما كتب يقول: “أظن أن كتاب “العين والإبرة” لكيليطو أوفى في هذه المادة. هناك بعد آخر استحضره من محاضرة لجمال الدين بن الشيخ وهو البعد الشفهي، ودوره في العامل التنقيحي لكتاب الليالي. هناك إضافات وحشو يخضعان لسياق وظرفية الحكي. وهو شيء أشار له بورخيس كذلك بخصوص الكتابة: قصة علي بابا إضافة من (المترجم) غالان. ومن ترجمته انتقلت إلى النص العربي. هذا البعد التنقيحي المهم جداً قد يتجاوز عالم الكتابة إلى تعابير فنية أخرى. لا ننسى بازوليني ماضياً، والمخرج البرتغالي غوميث حالياً الذي عنون ثلاثيته السينمائية بألف ليلة.

“لـ (خوان) غويتسولو دراسة مهمة عن أثر الليالي في رواية دون كيخوطي. أما كتابات بورخيس في المادة فقد فاقت ما تتطلبه القراءة من استقراء وأحياناً من التعسف التدليلي، الذي وقع فيه العديد من الباحثين والدارسين للأدب الإسباني. لي عنق كلام ماركيث، أو عصر التأويلات من محاضرة بورخيس صار منحصراً للأسف في خطاب “العربي الضعيف”.

قال في ذات مناسبة الكاتب الغوياني ويلسون هاريس: نعرف الرواية كجنس أدبي بسبب الإمبراطورية البريطانية. عنصر السلطة والقوة يدخل في التمثيل للأجناس الأدبية. ويلسون هاريس يكتب الرواية بهيكل الملحمة. ونفس الشيء فعله ثيربانتيس ونموذج ألف ليلة أمامه.

أما عن الواقعية السحرية فأتحفظ؛ لأن مرجعيتها الألمانية أكثر انسجاماً مع نماذجها عند ماركيث وكاربنتيه.

كما أن تشريح بناء الحكايات حسب هيكل فلاديمير بروب (عناصر البناء السردي) هو عودة للمركزية الأوروبية في تقييم الظواهر والأشياء.

أظن أن كيليطو وجمال الدين بن الشيخ يفرضان نفسيهما كقراءة نظرية ونقدية، تفتح تواليف هذه المادة السردية الغنية المسماة غيابياً، على أمل أن تتحقق أكاديمياً، وهي الدراسات الخاصة بألف ليلة وليلة”.

الإمبراطوريّة والرواية

نقاط عديدة أثارها هنا عدنان بشكل هادئ وعميق، وهو ما عبّر عنه ناصر بقوله “كلام هاريس يضيء نقطة مهمة وهي: الإمبراطورية والرواية. لقد ناقش إدوارد سعيد هذا الجانب بألمعية لكن في سياق قراءة الرواية كمرآة للإمبراطورية، أو باعتبارها تمثيلاً للإمبريالية التي رآها لينين (على ما أظن) أعلى مراحل الرأسمالية. إذن ليس خافياً ارتباط الرواية بتطور اقتصادي وسياسي معين طاول أوروبا الغربية، وانتقال مدونتها من الشعر (باعتباره فن الأرستقراطية) إلى الرواية باعتبارها فن الطبقة البرجوازية الصاعدة. هذا يعني: مدينة تعرف شكلاً متطوراً من التطور الاقتصادي والاجتماعي. الرواية بهذا المعنى هي الفن الكتابي للبرجوازية. هل تولد الرواية، عموماً، في الأرياف والبوادي؟ هل تحتاج إلى علاقات اجتماعية معينة تعين على ولادتها تمثلها المدينة؟ سؤال طرح من قبل وها نحن نعود إليه”.

وفي خصوص الإطار الزماني والمكاني الذي تدور فيه أحداث “الليالي” يقول الشاعر السوري/ الفلسطيني رائد وحش:

“محسن مهدي، محقّق “ألف ليلة وليلة من أصولها العربية”، يرى أن شهرزاد امرأة وثنية، تعيش في بلد وثني، في زمن وثني، خارج إطار الأديان السماوية، ولهذا حين تزعم أنها تتحدّث عن أحداث الماضي هي في الحقيقة تتنبأ بأحداث قادمة”.

كتاب ساحر ولكنّه ليس رواية

كما ألف ليلة وليلة، توالدت الأسئلة مع كل طرح جديد، وهذا ربّما يشرح حال الكسل النقدي العربي حيال هذا العمل الضخم، ومثلها بدا النقاش “شفويّاً” بحاجة لتدوين قد يقف ضد ذلك الكسل. ولكن هناك أسئلة أخرى أيضاً لا بدّ أن تظهر، ومنها: مَن من الروائيين العرب تأثروا، من خلال منجزهم الكتابيّ، بألف ليلة وليلة؟. ربّما سنجدهم قليلين، مثل نجيب محفوظ وجمال الغيطاني وإميل حبيبي، وهذا ما قد يطرح سؤالاً مشابهاً، لماذا تأثّر الكتّاب الغربيّون بهذا العمل، ومجّدوه وتحدثوا عن يده الطولى في كتاباتهم وحيوات شخصيّاتهم، بينما الكتاب العرب لم يتأثروا به؟ لماذا لم يتأثروا به وهم يتحدثون عنه طويلاً في كلّ مناسبة؟ مَن من كتّابنا أكمل قراءة كتاب ألف ليلة وليلة بشكل كامل، ولاحق طبعات أخرى منها؟ كما أنّ هناك العديد من الأسئلة الفرعيّة حول تأثير ألف ليلة وليلة على موجات المدارس الكتابيّة اللاحقة، إذا ما كانت سابقة لغيرها في أوروبا وبقيّة القارات، كأدب الجريمة والرعب والفانتازيا والجنس والخيال العلمي.

السؤال الذي علينا أيضاً الإجابة عنه بشكل جدّي، هل اللغة التي كتبت بها ألف ليلة وليلة هي لغة روائيّة؟ إذ إن اللغة هي الوسيط الذي لا مناص منه للكتابة الأدبية وتحمل مثلها سمات زمانها. لغة الليالي تبدو بسيطة في كثير من المواضع، كأنّ كاتبها قد نقلها في شفوّيتها وشعبيّتها من دون أن يمتلك ناصية اللغة الأدبية. ومن هذا الجانب قد يقول أحدنا، ألف ليلة وليلة كتاب ساحر بالفعل، ولكنّه ليس رواية!

يبدو أنّ الأمر، كما قال أمجد ناصر ومناقشوه، بحاجة إلى ندوة أو ندوات، تجمع روائيّين وشعراء ونقاداً، وحتى قرّاء، تناقش جوانب عديدة: اللغة/ الخيال/ التضمينات الشعرية/ البنى السردية/ الزمن الحكائي/ إلى غير ذلك من جوانب يضمها بين دفتيه هذا الكتاب الذي لا يموت.

ضفة ثالثة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى