صفحات العالم

هيرودُسات سوريا/ الاب جورج مسوح

ارتبط حدث ميلاد المسيح بحدث مأسوي هو مقتل “أربعة عشر ألف طفل” بأمر من هيرودس ملك اليهودية. لم يطق هيرودس أن يولد مَن يهدّد سلطانه وينطق بالحق في حضرته. ارتكب مجزرة بالآلاف من الأطفال كي يضمن استمرار مُلكه وسطوته على البشر.

هيرودس قاتل الأطفال ما زال حياً يرزق. لم يمت. من فجر التاريخ إلى اليوم كم هيرودس حكم وتجبّر وطار وارتفع ثم حطّ ونام تحت التراب.

مع ذلك هو لم يمت. لبس لبوساً مختلفاً، وتزيّا بأزياء مختلفة، ونطق بلغات العالم أجمع. تلوّن بكل ألوان الأعراق والأجناس، فهو أبيض وأسود وأصفر وأحمر. قد يكون رجلاً في زمن، وامرأة في زمن آخر.

هو يأخذ صوراً مختلفة من جيل إلى جيل، ولا تنقصه الهندمة في هذا العصر. وفي كل الأحوال هناك مَن يصفق ويهلّل له، ويمنحه الطاعة والولاء، ويبايعه أميراً على نفسه وعلى عشيرته.

هيرودس قد يكون ملتحفاً لبوس العلمانية أو الاشتراكية أو القومية أو أي إيديولوجية أخرى… وقد يكون مرتدياً زيّ رجال الدين أو يتلطّى خلف الشعارات الدينية أو الطائفية أو المذهبية. لكنّه يبقى هيرودس الذي لا يرى مجده يستمرّ ويتنامى بسوى ازدياد عدد ضحاياه المتراكمة في المقابر الجماعية.

“لقد مات طالبو نفس الصبيّ”. بهذه الألفاظ بشّر ملاك الرب يوسف، خطيب مريم والدة يسوع المسيح. الملاك يبشّر بموت هيرودس الملك الذي أمر بإهلاك كل صبيان بيت لحم من ابن سنتين فما دون، لعلّ المسيح يهلك في مَن سيهلك من هؤلاء الصبيان. الملاك يظهر في الحلم ليوسف ويطلب منه العودة بالصبي يسوع من أرض مصر إلى أرض فلسطين بعدما مات مَن كان يريد قتله. الموت بشرى جميلة يحملها الملاك، ملاك البشارة، إلى يوسف.

نعم، كان خبر موت هيرودس خبراً مفرحاً حمل البشرى للكثيرين ومنهم يوسف ومريم. ولسنا نخطئ إن فرحنا معهما واغتبطنا كل الغبطة. فالموت حقّ، كما تقول العامة. ولا بدّ من أن يأتي يوم يموت فيه المرء، فينتقل من هذه الفانية إلى الباقية. ولكن موت هيرودس لم يمنع صلب المسيح وقتله. هيرودس ليس حالاً فرديّة أقفلت عليه وحده من دون غيره. هيرودس ينبت ويزهر هيرودس آخر تلو هيرودس إلى أن ينقضي الزمان ويرث الله الأرض ومَا عليها.

في سوريا، اليوم، لا يوجد هيرودس واحد، بل هيرودسات عدّة يستبيحون المجازر والقتل وقطع الرؤوس والتهجير. هيرودسات العالم كلّهم اجتمعوا على السوريين كما تحوم النسور الجائعة إلى الجثث. هيرودسات سورية وعربية وأجنبيّة، أو قل دراكولات هذا العصر، لا يرويها إلاّ المزيد من دماء السوريّين.

متى سيموت طالبو نفس الصبي؟ ليس مجرد سؤال بل هو صلاة حارّة نرفعها في عيد ميلاد المسيح، ملك السلام. متى سيموتون؟ سؤال بمثابة دعاء يخرج من القلب يحمل رجاءً، ونحن أبناء الرجاء، بأن كفى سفكاً لدماء الأبرياء. ميلادك أيها المسيح سرّنا وأفرحنا وأبهجنا، لكن حقنا أيضاً أن نسرّ ونفرح ونبتهج حين نسمع أنّ هيرودس واحداً قد مات، فكم بالأحرى كلّهم.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى