صفحات سوريةعمر قدور

هي تسوية المتحاربين فقط/ عمر قدور

 

 

تستعجل موسكو، من خلال حراكها بالتعاون مع أنقرة وطهران، إسباغ صفة المشروع السياسي على الهدنة الحالية لتقديمها بعد أيام في جنيف، على رغم معرفتها بمعارضة طهران ونظام بشار تلك الهدنة، وما قد يُبنى عليها مهما تضاءلت التنازلات المقدّمة من قبلهما. وإذ تبدو القيادة الروسية في موقع من يمتلك القليل من الحكمة، بالمقارنة مع حليفيها، فهذا لا يجعل رهانها سهلاً، حتى إذا تجاوزت ممانعة الحلفاء، لأنها في الأساس تطرح نفسها عارفة بمصلحة النظام وطهران أكثر مما يقدّران مصلحتهما، وهنا قد يكمن مقتل التسوية إذا تمت.

لا تملك طهران مشروعاً سوى السيطرة المطلقة وسحق المعارضة تماماً، ولا يملك نظام بشار خياراً آخر أيضاً. المسألة هنا لا تتعلق بشهوة عارمة إلى السيطرة؛ ذلك نابع من سياق تعبوي وسلوكي متكامل لا يؤدي إلى أية نتيجة أخرى، ففي السياق التعبوي استخدمت طهران وحليفها أقذر الأسلحة الطائفية، وأي عودة عنها أمام الرأي العام الداخلي لن تكون سهلة، ومن المرجح أن تدفع إلى التساؤل حول كلفة حرب لم تُنجز الثأر الطائفي الموعود. أما سلوكياً، وحتى إذا استثنينا مؤقتاً الكلفة البشرية في صف الموالاة والحشود الشيعية، فإن نهج الإبادة والتدمير الذي اتُبع إزاء المدنيين لا يفضي بطبيعة الحال إلى مساكنة بين القاتل والضحية، لأن سحق الأخيرة على النحو البربري المعروف لم يترك لها فرصة أن تكون ضحية مهزومة بالمعنى التقليدي للكلمة.

قبل أربعة أيام مرت الذكرى الخامسة والثلاثين لمجزرة حماة، ومعلوم أن تلك المجزرة “مع الاستعانة بنموذج غروزني” شكلت القدوة التي سار عليها النظام منذ اندلاع الثورة، فقد نجح الأسد الأب في تمرير مجزرته الكبرى بلا عواقب، وهذا ما راهن عليه الابن، ويدفع التسرع والإحساس بالمرارة إلى القول بإمكانية نجاحه أيضاً. لكن ما يجعل الوضع مختلفاً كلياً هذه المرة فقدان الابن سيطرته على البلاد، ليس لصالح قوتَي الاحتلال فحسب، وإنما أيضاً لصالح ميليشياته المحلية التي يتوزع هواها بين قوتي الاحتلال وبين المصالح الخاصة لكل ميليشيا.

في حماة بلغ عدد الضحايا حوالي أربعين ألفاً، ومن المحتمل ألا يشكل هذا الرقم سوى 5% من مجمل الضحايا في حرب اليوم. حينها كانت الخسائر في صف قوات النظام محدودة جداً، ولا تُقارن بالنزيف البشري الحالي الذي دفعه إلى الاستعانة بالميليشيات الشيعية. حينها أيضاً، كان القتلى في مجزرة سجن تدمر أو أثناء التعذيب من فئة واحدة، بخلاف اليوم حيث نتحدث عن ما يقارب 20ألف قتيل تحت التعذيب وُثّقت أسماؤهم، سيضاف إليهم اليوم حوالي 13 آلفاً تم إعدامهم شنقاً في سجن صيدنايا وحده بموجب تقرير يصدر لمنظمة أمنيستي الدولية، ذلك فيما عدا أكثر من مئتي ألف معتقل مجهولي المصير. بلغ عدد المهجّرين في مجزرة حماة حوالي مئة ألف، بينما تحتضن دول الجوار السوري الآن قرابة خمسة ملايين مهجّر، ويصل إجمالي المهجّرين في الخارج إلى حولي سبعة ملايين، لترتفع النسبة مع نازحي الداخل إلى ما يقارب 60% من عدد السكان. وإذا كانت كلفة إعادة إعمار حماة، مع تغييرٍ في طابعها الديموغرافي والمعماري، قليلة فكلفة إعادة إعمار سوريا الآن تتطلب في أدنى تقدير لها 350 مليار دولار.

هذه التكاليف الباهظة بشرياً ومادياً هي ما يوضح سعي طهران ورجلها في دمشق إلى مواصلة الحرب، فبدون استعادة نموذج حماة كاملاً، أي سحق الخصم نهائياً، لن تكون استعادة السيطرة مضمونة، ولن يتحقق النصر الموعود. موسكو تستند إلى تجربة غروزني، وترى أن في وسعها الالتفاف على قضايا أساسية لا تقدّر حجمها الحقيقي، فقضية مثل قضية المعتقلين وضحايا قصف النظام من المدنيين تمسّ ملايين السورين من عائلاتهم، وهؤلاء يشكلون نسبة معتبرة من عموم السوريين. لنا في تجربة المواجهة القديمة مع الإخوان دليل على سلوك النظام، فهناك اليوم آلاف من النساء والرجال في العقد الرابع من أعمارهم لا يعرفون أية معلومة عن مصير آبائهم المعتقلين أو المفقودين، وليس بلا دلالة أن النظام في أوج قوته لم يتجرأ على إعلان تبييض السجون، مثلما لم يتجرأ على إعلام الأهالي بمصير أولئك المعتقلين أو المفقودين، ولو من خلال شهادات “وفاة طبيعية” مزورة. لقد طُرحت مثل هذه التسوية مع مجيء بشار إلى الحكم، من أجل طي صفحة الماضي، لكنه لم يكن مستعداً للكشف عن جرائم أبيه وعمه حتى عندما تقادمت وأبدى الخصوم استعداداً لفتح صفحة جديدة.

الحال ليس بأفضل في ما يخص قضية المهجّرين، فرئيس النظام الذي أبدى فرحته بما سماه النسيج الاجتماعي الجديد “بعد تهجيرهم” كان يقول بلا مواربة ألا عودة لهؤلاء. على العكس، ما تزال مشاريع التهجير مستمرة من خلال ما يعرضه على أهالي المناطق المحاصرة، وآخرها مشروع تهجير أهالي وادي بردى، فيما العين على تهجير المحاصرين من الغوطة الشرقية لإحكام السيطرة على دمشق. بالتأكيد يتنافى مشروع التغيير الديموغرافي هذا مع أي ميل للتسوية الآن أو مستقبلاً، وإذا أُضيفت إليه الأزمات المعيشية المصطنعة من قبل النظام نفسه، أزمة المياه في دمشق مثلاً، سنكون أمام نهج طارد لمزيد من السكان بمختلف الأساليب.

أن تنجح موسكو في وقف القتال، وهذا غير مؤكد، أمر مختلف عن إيجاد تسوية لها فرص نجاح حقيقي، طالما أنها لن تتطرق إلى تلك القضايا التي تخص ما يزيد عن ثلث السوريين على أدنى تقدير. وأية تسوية تتجاهل المستحقات الضرورية من حد أدنى للعدالة لن تكون سوى تسوية بين متحاربين، تمليها ضرورات الحرب نفسها لا متطلبات المجتمع بعمومه. قد يُقال إن السوريين وصلوا إلى حد مدقع من العيش يجبرهم على القبول بأية صيغة تنهي الحرب؛ هذا رهان العديد من القوى الدولية الفاعلة في الملف السوري، وهو ربما لا يجافي الواقع. لكن، إذا تغاضينا عما في هذا القول من عنصرية وامتهان لكرامة السوريين، فإن دوام التسوية المفترضة سيحتم وفق هذا التصور إبقاءهم دائماً تحت عتبة العيش الطبيعي تحسباً من استيقاظ كرامتهم؛ هذا ما يجافي أي منطق سياسي.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى