صفحات الثقافةمازن عزي

وأبحرت سفينة الحمقى../مازن عزي

 

 

يُحذّر الرجل المقنع، الملقب بـ”جون الجهادي”، زعماء أقوى دول العالم، من شنّ الحرب على “الدولة الإسلامية”. في صوته بقايا “القات” الممضوغ، وعالياً يشهر سكينه، يهزه في هواء الصحراء الجاف، ويحز به أعناق ضحاياه الغربيين، الجثاة على ركابهم، مرتدين حلات “غوانتانمو” البرتقالية. جون يدعو واشنطن والعالم من خلفها إلى المبارزة، بعد أن اختار الأرض التي ستجري عليها: في كل مكان.

ثلاثة رؤوس مقطوعة لأجانب، كانت كفيلة برفع نسب التأييد الشعبي في الغرب للتدخل عسكرياً في سوريا، ومواجهة تنظيم الدولة الإسلامية. وهو ما لم تحققه أربع سنوات من المجزرة المستمرة في سوريا، مئات آلاف القتلى، وملايين النازحين والمشردين. الرأي العام الغربي لم يكترث سوى حين لامسه تهديد الخطر، فالتقارير عن مناصري الدولة الإسلامية من الغربيين، ملفتة ومثيرة للتوجس والقلق. ماذا إذا عادوا إلى بلدانهم؟

يورد ميشيل فوكو، في كتابه “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي”، أنّ المدن الأوربية دفعت في القرون الوسطى مجاذيبها ومجانينها ومختليها ومجذوميها، لركوب سفن تجول في الأنهار الكبرى بينها، وتوصد أبوابها دونهم. يومها لم تكن أسباب الأمراض النفسية والعقلية معروفة، وكانت تُردُّ غالباً إلى مسّ شيطاني، أو لعنة حلت بصاحبها. سفن الحمقى حملت لاشعور الأوروبيين المنفلت من ضوابطه؛ من أناهم الأعلى. وتهادت طريدة بين المدن، على ايقاع اللاوعي المأزوم، المقاوم لسلطات الكنيسة والملوك والمجتمعات. لاوعي يهجس بموضوعه الأثير؛ انهمام بالذات.

واليوم، يتدفق أنصار “الدولة الإسلامية” من كل أنحاء العالم، إلى دولة خلافتهم، إلى حلمهم المشتهى، في أرض الشام والعراق. حلم بإعلاء “شرع الله”، وإقامة دولة العدل للمسلمين. يَهربُ أنصار داعش الغربيون من دول “الرعاية الإجتماعية”، يتركون فيها ازدواج انتمائهم، اغترابهم، ويرحلون حيث الهوية نقية، صافية كأيام الفتح الإسلامي الأولى. ينهمّون بذاتهم، عبر إفنائها لصالح حياة أخرى مشتهاة، غير أرضية. يقيمون في المتخيل، بعد أن رفضوا الإندماج في مجتمعاتهم الغربية، وهم أبناء الجيل الثالث والرابع من المهاجرين.

الغرب يغض النظر عن رحيلهم، ويتعامى عن مصادر أزمات هوياتهم، في تركيبة الأنظمة الرأسمالية، ويحيلها إلى تحريض إسلامي، أو رغبات دفينة بـ”الإرهاب”. وكأنهم أصيبوا بمسٍّ شيطاني، يُتركون كي يركبوا “سفن الحمقى” لتمخر بهم عباب المتوسط، إلى صحراء الإسلام المبتعث. يهز جون الجهادي سكينه في قيظ ظهيرة “الرقة”، ويلفحه هواؤها الساخن المشبع بـ”الدعوة”، ويحز أعناق ضحاياه، قرابين، تشعل الحماسة في صفوف الأنصار والمهاجرين.

لكن سفينة الحمقى في الشرق الأوسط، حملت معها صنوفاً أخرى من المجانين غير “السنّة”، المصابين بمسّ الألوهة؛ “شيعة” عراقيون ولبنانيون وباكستانيون، يقاتلون “كي لا تسبى زينب مرتين”، وأقليات مشرقيّة رفعت السلاح لحماية كانتوناتها المغلقة، وأحزاب شوفينية تحلم بسوريا الكبرى، أو الهلال الخصيب، أو أمة عربية واحدة، أو وطن لجميع الأكراد.

قبل أيام، قاد الأمير عمر الشيشاني جماعته المقاتلة من الشيشان، تحت راية الدولة الإسلامية، حفاةً، في الهجوم على محيط كوباني “عين العرب” بريف حلب الشرقي. وقبلها، عَصَبَ مقاتلو “حزب الله” رؤوسهم بشرائط صفراء، وأطلقوا المدافع وهم يستنجدون بالإمام علي، كي يسدد تصويبهم. وقوات النظام السوري، مازالت ترتكب المجازر، بمختلف أنواع الأسلحة، باسم “شرعية” السيادة الوطنية. كما أصبحت بـ”الذبح جيناكم”، شعاراً يسبق عمليات الإقتحام لمختلف المتطرفين. لا فرق هنا بين سنة وشيعة، ولا بين الذبح بالسكين أو الموت اختناقاً بالكيماوي. وحين تزداد وتيرة القتل، يهرب اللاجئون إلى تركيا أو لبنان، أو يغرقون في قوارب تحاول عبثاً الوصول إلى شواطئ أوروبا، أو يصعدون جبل سنجار كما فعل الأيزيديون!

ليل الإثنين 22 أيلول/سبتمبر بدأت حملة دولية لقتال بعض الجماعات الجهادية السنّية، وخاصة من المهاجرين؛ فلا مجال لعودتهم إلى ديارهم بعد أن أشبعوا بـ”الروح الجهادية”. حملة قد تطول سنين كما يؤكد مطلقوها، وحرب ستلاحق أشباحاً من الحفاة والعائدين من التاريخ. لكن هذا لن يفني “الإرهاب”، بل سيزيد المظلومية، ويدفع برغبة الثأر بعيداً. وكما فرّخت طالبان القاعدة، والقاعدة فرّخت تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، عقب كل تدخل عسكري دولي؛ سيتيح الهجوم الحالي إمكانية ظهور تنظيمات أكثر سلفية وعدائية، وسيقابلها تطرف شيعي موازٍ. ليستعيد كلاهما، ذلك الإحساس المخزي بالعجز والهزيمة، مستمداً دوافعه من “لاشعور” مجتمعاتنا المغرقة في ضياعها، بين صدر الإسلام، وظهور الفتنة الأولى. ذلك قد يطلق طوفاناً، سيغمر هذا الشرق المتهالك بحروبه الإثنية والطائفية، لتتهادى على سطحه، سفن الحمقى.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى