سوسن جميل حسنصفحات الناس

واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد/ سوسن جميل حسن

 

 

في القاموس اللغوي، تُعرّف كلمة “واحد” بأنها صفة مشبَّهة من فعل وَحُدَ، تدلّ على الثبوت. وهي تعني أيضًا: فرد من أفراد الشَّيء أو القوم وغير ذلك، أي عنصر من عناصر مجموعة. وعندما نقول: شعب واحد، فهذا يعني أن أفراده مجتمعون ومتَّفقون ومتعاونون. فهل كان هتاف “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد” الذي اجتمع السوريون على ترديده يوم انطلقوا في مظاهراتٍ أخذت تتسع، حتى عمّت المناطق السورية مجتمعة، عندما كانت سورية كيانًا واحدًا قبل سنوات الزلزال السوري، هل كان بالفعل يعني الصدى الذي هزّ أركان النظام القمعي وأذهل العالم، أم إنه كان الطعم اللذيذ المعسول المخلوط بسمومٍ صارت سافرةً بفعلها الإجرامي الذي قُتل به الشعب السوري، والذي استدرج النفوس الجائعة إلى الحرية والكرامة والفضاء الإنساني الرحب، كي تندفع بصدورها العارية أمام الرصاص الذي كان حلم بعض الفصائل التي استوت على عرش المعارضة، وسيّدت نفسها بديلاً مقترحًا لنظامٍ ضاق الشعب به وبجبروته، فصادرت رأي الشارع واحتكرت رغبته في التغيير لتطرح رغباتٍ أخرى، تحت عنوان عريض راسخ، رُفع لافتةً من دون أن يكون هناك برنامج مستقبلي: إسقاط النظام.

بلى، لا تحتاج سورية فقط إلى إسقاط نظام سياسي، بل إلى إسقاط أنظمة جبارة أخرى، شكلت على مرّ العقود والسنوات أساسًا متينًا للنظام السياسي، فجاء الحراك الشعبي بسلّة من الرغائب التي تعبر عن معاناته، وهذا يتفق مع تعريف الواحد بأنه جزءٌ من الشيء. الفردية أمرٌ في غاية الأهمية، هو المحرّض على التعدّد ومولّد الابتكارات، وهو الدافع نحو التطور وإثراء الحياة. لم يكن الشعب السوري واحدًا إلاّ بالبسطار والسطوة الدينية والاجتماعية والتراث والتقييد بالماضي، وخفض سقف الطموح والتفكير في المستقبل. تنصيب “البعث” نفسه قائدًا للدولة والمجتمع أراد أن يجعله واحدًا بإيديولوجيته ووفق برنامجه. والإسلام السياسي، وخصوصاً “الإخوان المسلمون”، طرحوا شعارهم وبرنامجهم في أن يجعلوه واحدًا أيضًا، وفق

“النيات لم تكن حسنة، عندما ارتضى النظام والمعارضة أن يكونا تابعين لإرادات القوى، كلّ بحسب ولائه”

عقيدتهم وشرائعهم. رُوِّض الشعب السوري، على مدى القرون والعقود الأخيرة تحديدًا، ليكون قالبًا واحدًا مسخرًا لخدمة الأنظمة، لكنه قالبٌ من مواد مختلفة، تجمع بينها لحمةٌ منها المفيد الذي تشكله تجربة العيش المشترك والتاريخ الذي ساهمت جميع المكونات في صنعه، وكان الشعب يتلمسها فطريًا في بداية ثورته، واللحمة الأكبر هي تلك القوة الضاغطة الجبارة التي تحاول دائمًا صناعة الكوادر البشرية، ورص صفوفها بالقوة، لأجل خدمتها وخدمة سلطانها.

ليست عفرين المثال الوحيد، ولا الأخير ربما، فما كشفت عنه السنوات السبع المنصرمة من هشاشة التركيب المجتمعي، وتراجع الوعي الجمعي، بل وتراجع نمط الحياة، بكل أبعادها وأشكال إدارتها، إلى ما كان قبل الدولة، إلى البدائية في كل شيء، والعصبوية في التفكير والسلوك والموقف من الحراك، وبعده من الحرب، يشير إلى أن إعادة إنتاج لحمة جامعة للشعب السوري صارت مهمةً غايةً في الصعوبة، فالمواقف المتناقضة من عفرين، وقبلها من الرقة، مؤشر على أن الشعب السوري لم يحرّر إرادته ولا تفكيره. لقد زادت الحرب من تفتيته، وجعلته جماعاتٍ تابعة لعقائد أو إيديولوجيا أو أنظمة تلعب في مصيره، والنزيف المستمر يزيد من تعتيم الأفق أمامه.

لم يكن الشعب السوري متحدًا، والاتحاد فعل ذاتي، بمعنى لم يكن يتوفر على أسباب عيشه ضمن كيانٍ سياسيٍ ونظام يقوم على مبادئ العدل والمساواة، ويوفر الحقوق، ويصون الكرامة لكل مواطنيه، بل كان موحّدًا بالإكراه، ووحّد القوم يعني جمع بينهم، صيَّرهم صفًّا واحدًا. وهذا ما كان حال الشعب السوري قبل الأزمة التي طالت، ولم يعد بالإمكان التنبؤ بمآلاتها، أو الأمل في أن تكون نهاياتها تضمر بعض الخير لمن بقي من السوريين، تبين أن الشعب السوري “الواحد” كان مجموعاتٍ تتمايز هوياتها وتتباين، لكنها تتشابه في أمر واحد، هو العصبية تجاه الآخر. لقد جعل الاستعار القومي من الشرائح السورية مجموعاتٍ متنافرةً متصارعةً، قسم منها انفصالي والآخر احتكاري. هذا كان نتيجة تغلغل الفكر القومي الذي زرعه حزب البعث في نفوس السوريين العرب، وممارسة بعض أشكال التمييز بحقّ من هم من قوميات أخرى، أكثر من عانى من هذا التمييز هم الكرد في سورية، كما كان هناك التعصب الطائفي والمذهبي، بل والعشائري، مستترًا تحت غطاء العلمانية المدّعية، بينما الدين متروكٌ ليكون مرجع القيم والمنظومة الأخلاقية، ونظم التفكير ورجال الدين يحظون برعاية النظام السياسي واهتمامه، أكثر من المفكرين والمثقفين والمبدعين، رجال ليسوا أكثر من أبواق للنظام، إحدى مهماتهم الرئيسة الدعوة إلى طاعة الحاكم، ومهمات مبطنة أخرى زرع بذور التفرقة بين فئات الشعب من أجل إلهائه وإضعافه. فكان من الطبيعي أن يختلف الناس في موقفهم من الثورة. ومن الطبيعي أن يناصر بعضهم بعض الفصائل، ويختلف مع أخرى، وأن يمجّدوا بعض الأنظمة والدول الراعية والداعمة، ويكيلوا الشتائم والكره ضد أخرى. هذا كله من دون أن يتمكن المرء من معرفة المعايير التي يعتمد عليها الناس في مواقفهم، المعايير المتغيرة أو المثيرة للعجب، كيف لمن هللوا للكرد في قتالهم “داعش” في الرّقة، يهللون للجيش التركي بمحاربة الكرد، حتى لو باحتلاله السافر أرضًا سورية؟

لم تعد سورية ذلك الكيان السياسي المستقل، حتى لو كنا، فيما مضى، نتحسّر على ما قبل

“لا تحتاج سورية فقط إلى إسقاط نظام سياسي، بل إلى إسقاط أنظمة جبارة أخرى”

“سايكس بيكو” وبعدها على ما قبل النكبة ثم النكسة، إنما كانت دولة لها وجودها واعتراف الأمم والأنظمة بها، لكنها اليوم مشرعةٌ لكل أشكال الاستعمار من قديم وحديث، صارت “ملطشة” النوايا الطامعة. احتلال إيراني وروسي وأميركي، وأخيرًا تركي. بلى، هو احتلال طالما هناك قواعد ومقاتلون رسميون، يقومون بمهامهم على أرضها. وهناك إسرائيل التي ألهت الحرب السورية الشعب عنها، لكنها تذكّر بوجودها كل حين بضربةٍ هنا وضربة هناك، والنظام يندّد ويحتفظ بحق الرد. وها هي الآن تركيا تخترق الحدود، وتطمح بوجود عسكري، بعمق ثلاثين كيلومترًا في أراض سورية، تركيا التي لم يكن دورها نزيهًا، مثل غيرها ممن ادّعوا مناصرة الشعب السوري وصداقته، بينما النظام يندّد، والشعب ينقسم بين مهلل ومستنكر.

بعد كل هذا الخراب، ما زال المعنيون بالشأن السياسي السوري المصادرون قرار الشعب، من نظام ومعارضة، لا يريدون التعامل مع المبادئ الأولية في فن التفاوض، فالتفاوض يعني، بالدرجة الأولى، أن هناك نزاعًا على قضية، ألا تستحق سورية وشعبها المستباح أن يعرف المتفاوضون مرونة التفاوض، كي يرحموه من مذلة العيش هذه، ومن كل هذا الموت المأجور؟ في التفاوض، لا بدّ من مراجعة التجارب وتقويم الأداء، إذا كانت هناك نياتٌ حريصةٌ على الشعب والوطن. قال المراقب الأسبق لجماعة الإخوان السوريين، عصام العطار، قبل أكثر من أربعة أعوام في خطاب موجه إلى الشعب: “قضِيَّةُ الحريَّةِ والكرامَةِ والعدالةِ والمستقبَلِ في بلادِنا لا تنتهي وتنتصر بسقوطِ النِّظامِ الديكتاتوريِّ الأسَدِيّ إن سَقَطَ هذا النِّظام، لقد دخلنا أو بدأنا ندخُلُ في قبضَةِ دكتاتوريّاتٍ أميركيَّةٍ وروسِيَّةٍ وأجنَبيَّةٍ أخرَى تتحَكَّمُ بحاضِرِنا ومستقبَلِنا ومختلفِ جوانبِ حياتِنا كما تُريدُ هي لا كما نُريدُ ونختار”. ثم أنهى بقوله: “بعضُ رجالِ معارضتِنا أو معارضاتِنا يجتمعونَ -إن دُعوا أو قَدَروا -مع الأمريكان والروس والفرنسيين والإنكليز ومندوبي الخليج والجنّ والإنس.. ولا يجتمعُ بعضهم إلى بعضٍ لتدارُسِ قضايا أمّتِنا وبلادِنا المصيريّةِ المشتركة، والتشاورِ فيها، وتنسيقِ الجهودِ الضروريَّةِ في خدمَتِها”.

فماذا سيُقال اليوم بعد أكثر من أربع سنوات زيادة في الجحيم السوري؟ إن النيات لم تكن حسنة، عندما ارتضى النظام والمعارضة أن يكونا تابعين لإرادات القوى، كلّ بحسب ولائه، بينما الحرب تستعر، وقودها الشعب ونتائجها دمار الدولة واستباحة الأرض وتعدّد الرايات فوقها في صراعٍ جبار، جعل الثورة تغور في أعماق الأرض، ويحل محلها صراع على العرش، ليس أكثر. بينما الشعب السوري الذي كان يحلم بأن يكون واحدًا، تُقطع أوصاله وأحلامه وآماله، وتكرّس الحرب حقيقة عليه أن يتجرّعها مع دمائه بأنه ليس واحدًا.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى