صبحي حديديصفحات سورية

واشنطن والرياض: البقال والمغفل/ صبحي حديدي

 

 

ذات يوم غير بعيد، قبيل زيارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إلى السعودية؛ أعرب البيت الأبيض عن «خيبة أمل كبيرة» لأنّ سفارة المملكة رفضت منح تأشيرة دخول للصحافي الأمريكي مايكل ولنر، مراسل صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية، ليكون ضمن الوفد الصحفي الذي سيرافق أوباما. الاحتجاج صدر أوّلاً عن مساعديْ سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي؛ قبل أن تعقبه احتجاجات أشدّ من رابطة مراسلي البيت الأبيض، التي أصدرت بياناً أدان الإجراء السعودي بوصفه اعتداءً على المراسلين أجمعين، ثمّ على حرّية الصحافة كقيمة كونية مقدّسة. ولنر، نفسه، كتب افتتاحية في صحيفته لم تترك «مجالاً للشكّ» في أنّ حجب التأشيرة استند على موقع عمله، ثمّ ديانته اليهودية؛ فأغفل، عامداً، حقيقة أنّ المملكة موئل عشرات الصحافيين اليهود، وبينهم دافيد ماكوفسكي زميله في الصحيفة إياها، والذي كان يراسل من جدّة!

اليوم لا يقول البيت الأبيض الكثير، وتقتدي به رابطة مراسلي البيت الأبيض، حول مطلب الدول المحاصِرة لقطر بإغلاق قناة «الجزيرة»، وعدد من وسائل الإعلام الأخرى؛ ليس تحت بند عامّ هو رفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول المستقلة ذات السيادة، ولا أيضاً تحت البند الخاصّ، الذي يُفترض أنه الأهمّ والأقدس: صيانة حرية التعبير وحقّ الرأي الآخر. لكلّ مقام مقال، في عرف هؤلاء الصامتين، وما ينطبق على «جيروزاليم بوست» لا يجوز أن يشمل «الجزيرة» وسواها!

بيد أنّ زيارة أوباما يومذاك، مثل زيارة خَلَفه دونالد ترامب مؤخراً، انطوت على خيبات أمل من جهات أخرى: ناشطات سعوديات راودهنّ الأمل في أنّ أوباما سوف يثير، خلال لقائه مع العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، مسائل حقوق الإنسان في المملكة، عموماً؛ والحرّيات العامة، وتلك التي تُحجب عن المرأة بصفة خاصة. أو، في أضعف الإيمان، أن يبدي تضامنه مع السعوديات القلائل اللواتي غامرن، في مناسبة قمّة خريم، بانتهاك العرف السائد، وتحدّي المطوّعين، وقيادة السيارة جهاراً. هنا، أيضاً، توفّرت «خيبة أمل كبيرة» لأنّ أوباما اكتفى بتنظيم حفل خاصّ سريع، سلّم خلاله جائزة الشجاعة، التي تمنحها وزارة الخارجية الأمريكية، إلى الدكتورة مها المنيف، المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني، وذلك نيابة عن زوجته ميشيل أوباما؛ وسوى ذلك، لم ينبس ببنت شفة، حول أيّ حقّ! لم تكن السيدة الأولى الأمريكية الحالية، ميلانيا ترامب، أفضل من سابقتها، غنيّ عن القول؛ وظلّ «الحال من بعضه» اليوم، كما يومذاك.

في عبارة أخرى، لم يتغيّر الكثير ـ بل من الإنصاف القول: هيهات أن يتغيّر حتى القليل! ــ في تاريخ العلاقات الأمريكية ـ السعودية. والذي يظلّ جاثماً مثل حجر ثقيل، أبد الدهر، هو مقدار ما تملك واشنطن من وسائل ضغط وإغراء لتوقيع المزيد من عقود الاستثمار والتسليح واستنزاف خزائن الرياض المالية. ولهذا تتابع «ركائز» العلاقة القديمة مفاعيلها على الحاضر، وكأنها جديدة ومستجدة؛ بل يجري إعادة تدويرها تحت باب الإلحاح والضرورات العاجلة؛ ولا يعدم أي رئيس أمريكي، حين يمتهن سلوك البقال، بيع بضائع الجملة مثل سلع المفرّق، سواء بسواء…

ومن البديهي ألا تغيب لعبة الاستغفال عن علاقة التبادل هذه، كأنْ تُعرض بضاعة محاربة الإرهاب تحت بند تسويق عقود التسليح بالمليارات، أو تُعرض سلعة توريث صغار الأمراء على رفوف أقلّ شأناً (ولكن ليس أبخس ثمناً!). وإذا صحّت التقارير التي تحدثت عن انقلاب القصر الأخير في المملكة، الذي مسخ محمد بن نايف، بين ليلة وضحاها، من ولي عهد إلى أمير تحت الإقامة الجبرية؛ فإنّ لعبة التعاقد بين البائع والشاري صارت على المكشوف أكثر من ذي قبل، بل يدور الافتراض أنه لا يدركها أولاً، وعلى النحو الأوضح، إلا المتعاقدان: البقال والمغفل!

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى