بكر صدقيصفحات سورية

.. والآن “جيش الدفاع الوطني”

بكر صدقي

إذن، ما زال في جعبة نظام دمشق المزيد من الأرانب يخرجها من قبعة الحاوي، لتدمير ما تبقى من سوريا ونسيجها الاجتماعي الوطني. يذكرنا اسم “جيش الدفاع الوطني” هذا بجيش آخر في إحدى دول الجوار، عنيتُ “جيش الدفاع الإسرائيلي”. حقاً نحن أمام تشابه في الأسماء يُبطن تشابهاً في الوظيفة. فوظيفة جيش الدفاع الوطني المقترح تشكيله من عشرة آلاف مقاتل من المدنيين المدربين على الحروب الأهلية الميليشياوية، تشبه وظيفة جيش الدفاع الإسرائيلي في قمعهما المتناظر للشعبين السوري والفلسطيني وتطلعاتهما إلى الحرية والكرامة.

وكلمة الدفاع المدسوسة في إسمي “الجيشين” تخفي طبيعتهما الإحتلالية العدوانية المتشابهة. وإذا كان الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين صريحاً ومعترفاً به في “المجتمع الدولي”، فالاحتلال الأسدي لسوريا ما زال يفتقد لهذا الاعتراف، وإن كان ما يقوم به من جرائم فظيعة بحق السكان، يفوق ما قام به المحتل الإسرائيلي بحق الفلسطينيين طوال عقود.

نحن نتحدث، إذن، عن كيان موجود سابقاً، لا عن كيان قيد التأسيس. ففي خطابه الأول، في الثلاثين من شهر آذار 2011، دعا رأس النظام إلى تشكيل ما أسماه بـ”اللجان الشعبية” المؤلفة من مدنيين، سلحهم النظام لمواجهة التظاهرات الشعبية السلمية في سوريا، أو ما نسميهم في اللغة الدارجة بـ”الشبيحة”. وهؤلاء كائنات غريبة لا تشبه البشر في شيء، ولاؤها للنظام أعمى، تقتل الأطفال والنساء العزل المكبلي الأيدي بدم بارد، وتغتصب النساء أمام ذويهن، وتذبح الأطفال أمام أمهاتهم، وتقوم بأعمال السلب والنهب والخطف بهدف الحصول على فدية، وتعبد رباً هو رأس النظام، تنتشي بدماء ضحاياها، ولا يردعها أي رادع أخلاقي أو وطني.

ولكن هل أبقى النظام أي حدود بين هؤلاء الشبيحة وما يسمى في وسائل الإعلام “الجيش النظامي”؟ فهذا الأخير المفترض به حماية الوطن من أي اعتداء خارجي، وتتكون عقيدته القتالية المفترضة من اعتبار إسرائيل هي العدو، لم يفعل شيئاً ضد كل الاختراقات العسكرية الإسرائيلية للأراضي والأجواء السورية منذ نهاية حرب العام 1973، بما في ذلك تحليق الطيران الإسرائيلي فوق قصر الرئاسة في القرداحة، ناهيكم طبعاً عن فعل أي شيء لاستعادة هضبة الجولان المحتلة منذ 45 عاماً.

بدلاً من ذلك قام هذا الجيش باحتلال لبنان، وأشرف على مجزرة تل الزعتر بحق الفلسطينيين، ثم قام بتدمير مدينة حماة وقتل عشرات الآلاف من سكانها في العام 1982، في ختام قمعه للتمرد الذي قادته الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين بين العامين 1980 – 1982. وانقسم هذا الجيش، في العام 1984، بين الشقيقين حافظ ورفعت الأسد حين أراد هذا الأخير الاستيلاء على السلطة مستغلاً مرض أخيه. وفي العام 1991 قاتل هذا الجيش في حفر الباطن تحت قيادة الضباط الأميركيين لتحرير الكويت من قوات صدام حسين، ليكافأ على ذلك بتسليمه رأس حليفه الحالي ميشيل عون في لبنان، وبوصاية مديدة على “البلد الشقيق” الذي حرض فيه الطوائف بعضها على بعض، وقام بنهب خيراته وتحويل بقاعه إلى أرض لزراعة المخدرات. وصاية لم تنتهِ إلا باغتيال رفيق الحريري وعدد من قادته ومفكريه ممن عارضوا احتلاله لبلدهم. وأخيراً ها هو “جيش النظام” هذا يقصف المدن والقرى والبلدات السورية بالدبابة والمدفعية والطائرة وصواريخ السكود والسلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة، ويقوم بإعدام السكان ميدانياً في كل مكان ويقترف المجازر الجماعية ذات الصبغة الطائفية فيما يشبه حرب الصرب على مسلمي البوسنة – الهرسك.

نحن إذن أمام مسلحين يدافعون عن بقاء النظام بلا أي معايير أو ضوابط، تحت تسميات متنوعة: الجيش العربي السوري، أجهزة المخابرات، اللجان الشعبية، الشبيحة، الكتائب البعثية المسلحة، وأخيراً: جيش الدفاع الوطني. لكن الإعلان عن هذا الأخير مخيف لأنه يتحدث عن مدنيين مسلحين من أهالي الحي أو القرية أو المدينة لـ”الدفاع عنها” ضد ما يسميه بالعصابات الإرهابية المسلحة، ويعني بها كل معارضيه المسلحين أو السلميين بلا تمييز.

ولأن سوريا بلد متعدد الاثنيات والأديان والمذاهب والثقافات، ولأن النظام تمكن من ربط مصير الطائفة العلوية بمصيره إلى حد بعيد، وتمكن من تحييد مكونات أخرى عرقية ودينية ومذهبية، ليحصر الثورة تقريباً في البيئة المسلمة السنية، يشكل الإعلان عن القوات الميليشيوية هذه، الذهابَ إلى النهاية في هتك النسيج الاجتماعي السوري وإطلاق حروب أهلية مديدة بين المكونات. ومن غير المستبعد أن تكون الأحداث الأخيرة في بلدة رأس العين في أقصى الشمال الشرقي على الحدود التركية، جزءاً من هذا الدفع نحو الحروب الأهلية متعددة الجبهات. وفي حلب يقوم العبء الأكبر من جهود النظام لقمع الثورة على أكتاف “الكتائب البعثية المسلحة” التي تشكلت من سكان المدينة من البعثيين. وبصورة عامة نلمس توجهاً لدى النظام نحو تجنيد الشبيحة من السكان المحليين في كل مدينة أو بلدة أو قرية، فلا يقتصر الأمر على طائفة بعينها، بل يمتد النزاع الأهلي إلى داخل كل جماعة وكل تجمع سكني، في حروب أهلية مايكروسكوبية.

يستفيد النظام في تصعيده الأخير على جميع الجبهات، بما في ذلك قصف جامعة حلب بالطيران الحربي، من تواطؤ دولي مشين ودعم روسي – صيني – إيراني بلا حدود. كل يوم في سوريا هو أكثر خطراً عليها وعلى جوارها من اليوم الذي سبقه. لن يرتدع السفَّاح ما لم تتوحد الإرادة الدولية للإطاحة به. وإلا فإن سوريا سائرة نحو مزيد من الخراب لأن كلاً من النظام ومعارضيه غير قادرين على حسم المعركة عسكرياً.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى