صفحات سورية

وثيقة «المجلس الوطني» أشدّ استبداداً من النظام


قاسم عزالدين

بعد جهد جهيد وبحوث متواترة اشترك فيها «مفكرون» عرب وأجانب، أصدر المجلس الوطني السوري وثيقة «عهد وطني» تعبّر عما أسماه «دولة مدنية ديموقراطية تعددية». بعد ذلك جرى توضيب بنود الوثيقة في صياغة سياسية أذاعها رئيس المجلس برهان غليون في مؤتمر «أصدقاء سوريا» واعتبرها «مفكرو» المجلس وأصدقاؤه أرقى مشروع ديموقراطي في المنطقة.

استند «مفكرو» المجلس إلى تعداد نيات التمسك بحقوق الانسان والمساواة والقانون والاحترام، ووضعوا هذه النيات في عربة قطار يسير نحو جهة معاكسة لجهة القطار الذي يركب فيه المجلس وأصدقاؤه. فجهة قطار المجلس ليست محطته الأخيرة في قطر وتركيا على ما قال ميشال كيلو، الذي لم يرَ ما يضير توقيعه على الوثيقة، غير أنها ليست سورية صافية، بل جهة القطار هي في الوثيقة نفسها. وهي أكثر دقة في البندين الأخيرين حول استعادة الجولان «بكل الوسائل المشروعة»، وحول انفتاح «الاقتصاد الحر» على كل البلدان. فهذان البندان يلغيان طلاقة اللسان في حقوق الانسان والمساواة والحقوق وغيرها، بل يهددان الدولة في سوريا ويؤديان بطبيعة الأمور إلى استبداد السلطة، حتى إذا كانت نيات مفكري السلطة بريئة براءة الأطفال، فكيف إذا كانت النيات بحجم الجموح إلى السلطة تحت راية قطرية ــ سعودية.

تتشابه وثيقة المجلس كنقطتي ماء مع ديموقراطية أنور السادات في الحديث عن احترام خيارات الشعب والمصلحة الوطنية. وتتشابه أيضاً مع ديموقراطية السادات في الحديث عن القانون وحرية الاحزاب والمؤسسات والمساواة، لكن أساس الجامع المشترَك بين الديموقراطيتين التوأمين لخّصته وثيقة المجلس بقولها إنها «تقف في صف القانون الدولي والاستقرار والسلام في المنطقة». ففي زمن السادات أواسط السبعينيات، كانت عجلة إلغاء الدولة في المستعمرات السابقة لصالح تعزيز السلطة بوعود الحريات الديموقراطية، في بداياتها. وكانت مرحلة التحرر الوطني في المستعمرات السابقة شارفت على نهايتها، من دون أن تستطيع معظم حركات التحرر تفكيك طوق التبعية الذي فرضه تقسيم الجغرافيا ــ السياسية مقابل إزالة الاستعمار المباشر. وفي المنطقة العربية تكفلت اسرائيل بهزيمة حركات التحرر وتكفلت بجرّ البلدان العربية تباعاً نحو تشديد أواصر التبعية للمراكز الغربية. من هنا ينبع التزام المراكز الغربية بـ«أمن إسرائيل» وفرض هذا الالتزام محوراً لمعايير الديموقراطية في البلدان العربية. لكن هذا المحور هو منظومة تكمّل بعضها البعض في إلغاء الدولة، منها «الوقوف في صف القانون الدولي والاستقرار والسلام في المنطقة»، ومنها الانفتاح على» كل البلدان» (على قول الوثيقة) وعلى الديون و«الاصلاحات الهيكلية» وتسهيل حرية المال والأعمال، وأيضاً انكفاء كل بلد على نفسه للاهتمام في «شؤونه الداخلية أولاً»، وفي ترويج ثقافة نموذج التبعية سبيلاً «للتنمية» والديموقراطية، وسبيلاً إلى قيَم الترقي الاجتماعي والحضاري في ثقافة الاستهلاك البذيء. وكان لا بدّ أن تشمل منظومة التحوّل، «إصلاح» السلطة بحريات ديموقراطية شكلية تكفل للسلطة امتصاص تداعيات إلغاء الدولة في تشديد أواصر التبعية لاستراتيجيات اسرائيل ودول المراكز الغربية. والهدف من ذلك شرعنة السلطة كي تتمكن من إلغاء الدولة اعتباراً إلى «أن التحوّل يولّد مآسي على المدى الأقرب، لكنه يفضي إلى حلول فضلى على المدى الأبعد»، وبين المديين الأقرب والأبعد، لا بدّ للسلطة أن تمتص المآسي، بنقل الصراع من الدفاع عن الدولة إلى الصراع على السلطة.

لم ينتج حكم السادات حريات ديموقراطية بطبيعة الحال، ولم يكن متوقعاً منه أن ينتج غير حرية المال والأعمال وفساد السلطة في تبعية مصالح الطبقة السياسية إلى مصالح واستراتيجيات مراكز الدول الغربية. فإلغاء دور الدولة في استعدادها للحرب دفاعاً عن أمنها القومي في محيطها الإقليمي الحيوي، وفي الحد من تبعيتها إلى مراكز الدول الغربية، وفي دورها الناظم للسياسات الاقتصادية ــ الاجتماعية بالحد من حرية المال والاعمال والسوق، لا ينتج حريات ديموقراطية في أي بلد. في أوروبا نتجت الديموقراطية عن تضحيات عمالية عظيمة ومريرة دفاعاً عن دور الدولة الناظم للحقوق الاجتماعية والسياسية في مواجهة الرأسمالية. وما الحديث عن «رقي دولة المواطَنَة» (وبالتالي رقي الرأسمالية) التي تقيم علاقة فردية حرّة مع المواطنين المتحررين من الانتماء الجمعي الاجتماعي، غير خرافة من دون أي سند في التاريخ الاجتماعي. وهذه الخرافة لا يوازيها غير خرافة المراهنة على الحريات الديموقراطية سبيلاً «للتنمية» الاقتصادية وسبيلاً للدولة التي تعبر عن مصالح شعبها، فبناء الدولة يمكن أن يؤدي إلى الحريات الديموقراطية لا العكس. في اليابان ودول النمور الآسيوية ما زالت الحريات الديموقراطية إلى اليوم تحت قبضة العسكر في دول اقتصادها قوي وعسكرها لا يشكو من شيء وكذلك أجهزتها الأمنية. وفي البرازيل وبعض دول أميركا اللاتينية نشأت الحريات الديموقراطية وليدة صراع اجتماعي بارز وصراع وطني مرير ضد النفوذ الاميركي في الحديقة الخلفية وضد مصالح الشركات والاستثمار الاجنبي المباشر والمصالح المحلية التابعة لها. ولم يكن للديموقراطية الوليدة أن تنشأ في أميركا اللاتينية من دون صراع اجتماعي قاسٍ وصراع وطني حافل. لكن المعارضات السياسية العربية ونخبها الثقافية التي تحلم بالديموقراطية تأنف صداع الرأس في تقليب أوجه الاشكال الديموقراطية المرتبطة ببناء الدولة، فتعوّل على فكرة تبسيطية آحادية هي فكرة انتخاب السلطة. وفي واقع الأمر تمتد جذور هذه الفكرة عميقاً في التراث الاصولي الذي يرهن حل كل مشاكل البلاد والعباد بالحاكم الصالح الذي ينقل العمران وأسباب المعاش بصلاحه، من حال إلى غير حال.

الرواية المحدَثة بدأت مع ديموقراطية السادات في انقلابه على «الدكتاتورية الشمولية». إنما بدل تفكيك تسلّط السلطة وأجهزتها الامنية، نقلها من نموذج «الدكتاتورية الشمولية» إلى نموذج بلدان النفط ودول الموز تحت رعاية «اليانكي» الاميركي الذي «يملك 99% من أوراق الشرق الاوسط». لكنه لم ينجح في هذه «النقلة النوعية» على مستوى السلطة وحسب، بل لم ينجح على مستوى السلطة دون تفكيك الدولة بسياسات تتشابه كنقطتي ماء مع وثيقة المجلس الوطني السوري حول «الدولة المدنية الديموقراطية التعددية».

في مقدمة ذلك لازمة «الوقوف في صف القانون الدولي والاستقرار والسلام في المنطقة». وهذه اللازمة تسير من تلقاء ذاتها في صف القانون الدولي على عجلات سريعة نحو إلغاء الأمن القومي للدولة السورية. ولا تعود عندها المسألة أن تحارب هذه الدولة دفاعاً عن أمنها القومي أو لا تحارب، إنما تصبح مكشوفة تستجلب العدوان العسكري وغير العسكري لاحتلال الفراغ.

في مصر فكك السادات، ومن بعده مبارك، الأمن القومي المصري في فلسطين والعالم العربي وخاصة في أفريقيا، فاستجلب تفكيك الامن القومي إسرائيل وتركيا وإيران لاحتلال الفراغ في العالم العربي. استجلب بذلك اختناق مصر في عقر دارها التي باتت مهددة بنقطة المياه في أعالي النيل ومهددة أيضاً بالصراعات القبلية في ليبيا وحوض النيل ومهددة بتوسع «الأمن القومي الإسرائيلي» في دول الخليج وأفريقيا.

وفي سوريا يؤدي تفكيك الأمن القومي في لازمة القانون الدولي لا محالة إلى تهديد سوريا بنقطة المياه في منابع دجلة والفرات، وإلى تهديدها بتوسع النفوذ التركي والإسرائيلي في المحيط الإقليمي. والحالة هذه لا يبقى من «كل المسائل المشروعة» التي تتطلّع إليها الوثيقة لاستعادة الجولان غير الشكوى إلى مجلس الامن، أو تأجير هضبته ومنابع المياه إلى اسرائيل لمدة 99 سنة مقابل حل النزاع بين الديموقراطيات بالمفاوضات الحضارية والطرق السلمية. لكن أيضاً مقابل أن تصطف سوريا بالحرب «في صف القانون الدولي والسلام والاستقرار» الذي تهدده إيران بقنابلها النووية الأكثر من أن تحصى وتُعد. إنما يبدأ تفكيك الدولة بتفكيك الأمن القومي ولا ينتهي عنده بل يجر معه سلسلة طويلة عريضة من عوامل استبداد الدولة في التعليم والصحة والغذاء، نحو حرية المستثمرين في هذه القطاعات. الاصلاح الزراعي مثلاًَ هو أول رموز الاستبداد الذي فككه السادات «لمحاربة الفساد»، فأعاد ملكية الاراضي الزراعية إلى أصحابها من الأعيان الذين باعوها على وجه السرعة إلى زبائنة السلطة المتمولين من الخزانة العامة والمصارف الحكومية. وفكك المصانع الحكومية والأمن الغذائي والصحي والتعليمي وهيئات التخطيط والادارة العامة…. ولم يكتفِ مبارك بذلك بل زاد تمسكه في القوانين الدولية لتشجيع الاستثمار، فمنح المستثمرين ولايات ومنشآت اقتصادية وأراضيَ على مد النظر بالطائرة في توشكى والبحيرات الغربية والصحراء. ولمَ لا طالما أن القطاع العام رمز الشمولية وأن الثروة العامة مرتع الفساد والاستبداد. لكن يبقى أن نهتدي إلى انتخاب سلطة صالحة «في صف القانون الدولي والسلام والاستقرار في المنطقة»، ثم هات يا معجزات في السلام والاستقرار والازدهار وفي حرية السوق والانفتاح على كل البلدان المتحضرة لا شك في ذلك.

لا يا أخوان، وثيقتكم أشدّ استبداداً من النظام. فكل الوعود التي تطلقونها حول حقوق الانسان والمساواة والحريات الديموقراطية هي مجرد وعود انتخابية عرقوبية لا تستطيع أي سلطة أن تحقق منها شيئاً طالما وقفت في «صف القانون الدولي والاستقرار والسلام في المنطقة». وطالما التزمت السلطة (حتى المنتخبَة بحرية تامة) بكل الوسائل «المشروعة» لتحرير أراضيها وحماية أمنها القومي. أو في حرية الاقتصاد والسوق وانفتاحها «على كل البلدان». فانفتاح سوريا على بلد واحد هو تركيا خلال سنوات قليلة، أفضى إلى تشريد مئات الآلاف من الحرفيين ومن المزارعين إلى العشوائيات في حمص وغيرها. وهم في غالبيتهم حطب الوقود الذي تحرقه كل الأطراف وتستمتع برماده. وأفضى الانفتاح على بلد واحد بحجم تركيا إلى سيطرة المتنفذين من زبائنية السلطة على التجارة في المناطق الحرة وعلى الاراضي الزراعية والعقارية التي تحوّلت بين عشية وضحاها إلى منتجعات سياحية وفنادق فاخرة بالشراكة مع أمراء الخليج.

الانفتاح على بلد واحد هو تركيا أثار ثورة الشباب العاطل من العمل، وصناعيي حلب وتجار دمشق ومزارعي الارياف الذين تضرروا من حرية سوق الغذاء وحرية الاقتصاد والاستثمار والعقار. وكل هؤلاء لا يتعاطفون مع المجلس الوطني الذي يعدهم بالانفتاح «على كل البلدان». كما يعدهم بحرب أهلية «تعددية» الكيانات والطوائف، من أجل تغيير سلطة بسلطة جديدة غبية تظن أن تغيير النظام يعني أن تقلب جيْده قفاه. فكل الشعب السوري يريد إنهاء استبداد السلطة ونفوذ الأجهزة الأمنية. وكله يريد وقف القتل والخطف والاعتقال والاعتداء على كرامات الناس. وأغلبه يريد تغيير النظام في حل سياسي لا تغيير السلطة نحو سلطة مشابهة للسلطات الجديدة في ليبيا واليمن. معظمه يأمل بحل سياسي يفضي إلى نظام يضمن الحقوق الوطنية والاجتماعية ــ الاقتصادية إلى جانب الحريات المدنية والسياسية. فالنظام الذي يكفل لغالبية الشعب السوري حقوقه وتحرره من الاستبداد والاضطهاد الاجتماعي سواء بسواء هو على يسار النظام الحالي لا على يمينه.

كاتب وأكاديمي ـ لبنان

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى