رشا عمرانصفحات الثقافة

وجدت خلاصي في التفاصيل/ رشا عمران

 

 

 

أنا من المعنيين جداً بالتفاصيل، التفاصيل الصغيرة التي نادراً ما تلفت انتباه أحد. أشعر، أحياناً، أن ذاكرتي تراكم التفاصيل اليومية، لكي تبني منها جداراً عالياً، يمكنني الاتكاء عليه، كلما اقتربت من فقدان التوازن، ولكي يحدث هذا، فهي تواري ما اختزنته ماضياً، وتخبئه في جواريرها السرية، وتفتح خزائنها المكشوفة للتفاصيل الجديدة، هكذا أستمر في حياتي، من دون أن أصاب كثيراً بعواصف الحنين.

ثمة في التفاصيل ما يشكل عالمي الخاص، عالمي الذي يشبهني، أو الذي يقيني من الانهيار، أو هو عالمي الذي يساعدني على الكتابة شبه اليومية. هذا العالم هو ما يشكل الوطن بالنسبة لي. لم أعرف الوطن، يوماً، بوصفه مجرد أمكنة ومنازل ومدن وقرى، ولم أعرفه بوصفه فقط البشر والعائلة والأصدقاء، وليس هو فكرتي المجردة أو الثقافية عنه. هو ذلك كله مجتمعاً، هذا الاجتماع هو ما يصنع التفاصيل، وهو ما يشكل الهوية الشخصية، في ظرف اللجوء أو الهجرة أو الخروج من الوطن الأصلي، تجهد الذاكرة وهي تبحث عمّا يعوّض الأمكنة المألوفة، ودفء العائلة، وحميمية الصداقات القديمة، وتحاول التعويض، عبر استخدامها حساسية جديدة في تعاملها مع اليوميات وتفاصيلها، حساسية تريد الوصول إلى ما يشكله الوطن من حالة أمان وسلام داخلي. أقصد هنا، طبعاً، الوطن النفسي، لا الوطن السياسي. لهذا، يصبح لكل شيء معنى مختلف ومحفّز على الحميمية، القائمة على بناء علاقة مع الأشياء والأماكن والشخوص غير المألوفة، بل والمجهولة ربما.

عقد المقارنات مع القديم يسبّب موجات الحنين التي يصعب الفكاك منها، فالقديم مستوطن في الذاكرة، ومستقر فيها، والمقارنة لصالحه دائماً بفعل الاعتياد الطويل. الامتناع عن هذه المقارنات هو ما يبني العلاقة مع الجديد. أمرّن نفسي يومياً على التآلف مع جديد حياتي، وأترك مساحة واسعة للدهشة التي تساعدني على التعامل مع الحياة. ذلك يحدث عبر الانتباه إلى التفاصيل: كأن، في حالتي، يصبح الازدحام والضجيج سبباً لاكتشاف أنماط مغايرة من الحياة، وتصبح الحشرية الاجتماعية طاردة للوحشة. هذا في العموم، فيما هو خاص وشخصي، يصبح لكل شيء معنى آخر. تتخذ هنا العلاقة مع البشر شكلاً آخر، الجيران، بائعو الخضار والسجائر والسمانة، حارس البناية، عاملو المقاهي والمطاعم القريبة، ثمة ألفة سريعة، يولّدها هاجس كسر الغربة، والرغبة في استمرار الحياة.

حتى الصداقات الحقيقية تأخذ لها مساحة مغايرة، لم يعد الأصدقاء هم أبناء المهنة أو أصدقاء الطفولة فقط، هم الآن أكثر تنوعاً، ثمة هذا البحث معهم عن المشترك الإنساني العميق، مهما كانت الاختلافات. ثمة هذه الرغبة في الغوص للبحث عن المشترك واكتشافه، في حالة تحدٍ مذهلة، تحدٍ مع الذات في قدرتها على الانسجام والتجاوز والمرونة، وتحدٍ مع الحياة، وكسر الصعب المتكرر فيها. تفاصيل هذه العلاقات الجديدة هي المهمة، وهي ما يبني جدار الاستناد الذي تتكئ عليه الروح في وحشتها المباغتة، وهي ما يمنح تلك المساحة من الأمان والسلام الداخلي، الأمان بوصفه الوطن الشخصي، بوصفه الهوية الذاتية، بوصفه الانتماء العميق، بعيداً عن التجريد والشعارات والأفكار الكبيرة، بعيداً عن أوهام القوة والبطولة والشجاعة والانتماءات المؤدلجة.

يمكنني، هنا، توصيف الحالة كما التالي: أنا الآن هشّة ومكسورة، وبلا قادم يمكنني التفكير به، والماضي ذهب بكل ما فيه، حوّله الحاضر العنيف الدموي إلى غبار، وتحوّل في الذاكرة إلى غبار، وعليّ أن أستمر، كي لا أفقد ذاتي من ضمن المفقودات المتلاحقة. انتباهي للتفاصيل الهامشية والمهملة، والتي لا تعني أحداً، وبناء علاقة عميقة معها، بحيث تصبح واحدة من الأساسيات، هي ما يجعلني أتمسك بذاتي، وهي ما يجعلني أستمر. نحن جميعاً اليوم نعيش في عالم عمومي التشوّهات، الخلاص الجماعي يبدو بعيد المنال، والمآلات تبدو أكثر رعباً، الخلاص الفردي، الآن، هو الطريقة الوحيدة للفكاك من هذا التشوّه. شخصياً وجدت خلاصي في التفاصيل.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى