حسان عباسصفحات سوريةمازن كم المازوائل السواح

وجهات نظر مختلفة تناولت اغتيال البوطي

مقتل البوطي… مأساة تورط الشيخ في السياسة!

خالد الدخيل *

مقتل الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، ومعه جميع ضحايا التفجير الذي حصل في جامع الإيمان في دمشق هو من دون أدنى شك جريمة بشعة. المحزن أن مقتل الشيخ لم يكن مفاجئاً. لماذا؟ لأن الشيخ البوطي رحمه الله اختار في شكل واضح ومباشر الوقوف إلى جانب النظام في الصراع الدموي المحتدم في سورية منذ عامين. وهنا تكمن المأساة. اصطفاف الشيخ بحجمه ووزنه الاجتماعي والسياسي إلى جانب النظام يعني أنه استعدى الطرف الآخر في صراع وجودي بين أطرافه. ترتب على موقف الشيخ تديين للسياسة، وترتب على استخدام النظام للشيخ تسييس للدين من خلال استخدامه مواقف الشيخ وقناعاته الدينية، وتجييرها لمصلحة النظام في وجه خصومه، وبذلك أصبحت اللعبة مكشوفة ولا تستثني أحداً.

لم يتوقف الشيخ عن ترديد الحديث «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». وهو حديث يعبر عن صورة الحق في التصور الإسلامي. لكن السؤال: ما هو التعريف الإجرائي لهذه المعصية؟ وما الذي يدخل فيها، ويخرج عن حدود معناها؟ هل تعتبر الاعتقالات التعسفية وعمليات التعذيب في السجون، والتصفيات الجسدية، والانتهاكات من المعاصي، وبالتالي تدخل في باب طاعة المخلوق (الحاكم أو من يمثله) في معصية الخالق الذي يؤكد حق المخلوق (المحكوم) في العدل والحرية والكرامة والمساواة؟ الغريب أن هذا السؤال لا يدخل ضمن اهتمام جمهور علماء الدين الذي ينصب في شكل يكاد يكون حصرياً على الفصل بين حق الله وحقوق عباده. ولذلك يأتي التركيز المبالغ فيه حول هذا الموضوع على الكفر البواح لولي الأمر كشرط ضرورة لإجازة الخروج عليه. أي أن الخروج على ولي الأمر لا يجوز إلا في حال واحدة، وهي التعدي والتجاوز على حق الله. أما حقوق العباد فيمكن التغاضي عنها أو التساهل مع تجاوزها. والسؤال هنا: أليست هناك علاقة تكامل بين حقوق الله وحقوق عباده؟ وأن الاعتداء على حقوق أي منهما هو اعتداء على حقوق الآخر؟ أوليس منطوق الآية التي تقول: «من قتل نفساً بغير نفس أو فساداً في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً» هو تعبير عن هذه العلاقة التكاملية؟

مثل غيره من أغلب علماء الدين، لم يعتنِ الشيخ البوطي أبداً بهذا الجانب من المسألة. ولذلك يلاحظ أنه منذ كتابه «الجهاد في الإسلام» الصادر عام 1993 دأب في شكل لافت على تحريم الخروج على الحاكم إلا في حال واحدة، وهي أن يعلن جهاراً ونهاراً الكفر، وخروجه عن الإسلام. يقول في الكتاب المذكور: «إن الحاكم… إذا أعلن خروجه عن الإسلام بكفر بوّاح صريح لا يحتمل التأويل، يجب الخروج عليه ونزع البيعة عن يده». (ص 147) وهذا شرط تعجيز، وليس شرط منطق. لأنه ليس من المنطق توقع أن يقدم حاكم مسلم في بلد مسلم على إعلان كفره وخروجه عن الإسلام في شكل لا يحتمل التأويل. إن مثل هذا الشرط يطلق نظرياً يد الحاكم ويجيز له ضمناً أن يرتكب كل المعاصي، وكل الجرائم، وأن ينتهك حقوق المواطنين، ومع ذلك من حقه أن يحتفظ بشرعية حكمه تحت الغطاء الديني لمثل هذه الفتوى. وهنا تتصادم هذه القراءة الدينية للنص الديني مع الحقوق الإنسانية والسياسية للمواطن، أو قل تتصادم حقوق السماء مع حقوق الأرض. وهو ما تترتب عليه مصادرة حقوق المواطن، وحقوق المجتمع لمصلحة الحاكم السياسية. ومن الواضح بناء على ذلك أن مصلحة الحاكم مقدمة – وفقاً لهذه القراءة – على مصلحة المواطن، وعلى المصلحة العامة، تحت غطاء درء الفتنة على اعتبار أن هذا الدرء مصلحة عامة.

بل يذهب البوطي أبعد من ذلك في توضيح موقفه من هذه المسألة، إذ إنه يحصر مفهوم الحاكم في من «لم يتلبس بكفر بواح». بعبارة أخرى: كل حاكم لم يعلن كفراً صريحاً غير قابل للتأويل هو حاكم شرعي لا يجوز الخروج عليه تحت أي مبرر كان. أما من أعلن كفره وخروجه عن الإسلام، فهو ليس بحاكم أصلاً. وهذا هو معنى قوله بالنص: «والمراد بالحاكم هنا من لم يتلبس بكفر بوّاح لنا عليه من الله سلطان…» (ص147). وقد شكل رأي الشيخ هذا الأساس الديني أو النظري لموقفه السياسي بعد ذلك. ومن الواضح أن الشيخ كان على هذا الرأي حتى قبل أن يصدر كتابه المذكور، إذ ظل منذ أحداث مدينة حماة في 1982 ينافح عن شرعية حكم عائلة الأسد، وعدم جواز الخروج عليها لأن الحاكم فيها لم ينزلق إلى الكفر البواح. وقد جاء الكتاب ليشكل الأساس النظري بعد ذلك لموقف الشيخ المتصاعد من الصراع الذي انفجر في سورية منذ عامين بين الثوار من ناحية، وحكم بشار الأسد من ناحية أخرى. لم يكن الشيخ البوطي كما أشرت استثناء في رأيه هذا. وربما أنه كان من الممكن أن يكون الأمر عادياً في ظروف عادية ومستقرة، لكن الأمر لم يعد كذلك بعد الثورة. تغير الواقع في سورية ومعه تغير المزاج الشعبي، وتغيرت الرؤية، وتغيرت الحسابات، وبالتالي تغير الإطار الاجتماعي والسياسي للقضية برمتها، لكن الشيخ لم يراع في موقفه المساند للرئيس والمناوئ للثورة أياً من تلك المتغيرات.

بثت قناة «الإخبارية» السورية شريطاً وهو موجود على «يوتيوب» يروي فيه الشيخ محمد البوطي صورة لما يعتبره تعبيراً عما يجب أن تكون عليه مناصحة ولي الأمر عند حدوث تجاوز لحدود الإسلام وحدود الشرع. يقول بالنص: «رأينا ولعلكم رأيتم صورة للسيد الرئيس (لاحظ كلمة السيد) بسطت على الأرض. صورة كبيرة… جداً… جداً. ودعي شباب من الأطراف، فنجد أنهم سجدوا فوق هذه الصورة… هذا منكر… ولا شك في أن الذين فعلوا هذا تلبسوا بالكفر البواح المؤكد. غدوت (عندها) بمعية السيد الوزير رأساً إلى السيد الرئيس… وأنا أحمل هذه الصورة…». يكمل الشيخ أنه خاطب الرئيس بقوله: «إن الهدف من وراء هذا أن يشيع هذا الأمر، وأن تزداد مشاعر الثورة الهائجة ضد… ومن ثم يوجد من يقول لأن السيد الرئيس هو الذي أوحى بهذا، أو هو راضٍ، إذاً أنتم تقولون الكفر البواح، ها هو ذا الكفر البواح وجد… لم أشهد أن السيد الرئيس غضب كالغضبة التي تجلت في شكله وكلامه بالأمس». ويضيف الشيخ أن الرئيس قال له: «أنا أسجد لله وأعبد الله… كيف لي أن أرضى أن يسجد لي الناس؟». فقال له الشيخ: «هذا لا يكفي… لا بد من كلمة». فأجابه أنه سيفعل، لكنه يطلب من الشيخ أن يحدث الناس بما يعرفه عن عقيدته. ثم أكمل الشيخ بقوله: «وهآنذا أحدثكم…».

هنا تحول الشيخ – من دون أن يدرك ذلك – إلى أداة سياسية في حكاية ملتبسة بالفعل، وداخل نظام سياسي لا يمثل الشيخ، وداخل صراع دموي وضع مستقبل النظام خلفه تماماً. لم يحدث من قبل أن سجد أحد من المسلمين لرئيس مسلم، وما رواه الشيخ عن صورة الرئيس وما كان يحصل عليها لا يعني بالضرورة أن الرئيس يدعو إلى عبادة نفسه كإله بديل، لكن ما حصل لهذه الصورة وما حصل عليها لم يأتِ بالتأكيد من فراغ، وإنما أتى من إصرار الديكتاتور على الخضوع الكامل لسلطته، وعلى عبادة استفراده بهذه السلطة على الجميع. والحكاية كما رواها الشيخ تشير إلى أنه لم يخرج عن هذا الإطار كثيراً، وهنا تبدو مأساة تورط الشيخ بالصيغة التي كانت عليها، وبالتالي تداخل الدين بالسياسة على النحو الذي عبرت عنه حكايته. الدين في أصله مصدر للحق والأخلاق، والسياسة في أصلها إطار لصراعات وتوازنات القوة والمصلحة، وأيهما يخضع لمنطق الآخر في الأخير؟

* كاتب وأكاديمي سعودي

الحياة

اغتيال البوطي وخلط الأوراق

    أكرم شلغين

    بعد قراءتي، أمس واليوم، لتحليلات البعض حول مقتل الشيخ البوطي بت أعتقد أننا وصلنا لدرجة أصبحنا معها نجزم أن نظام الأسد مسؤول ليس فقط عما يحصل في سوريا بل إن مسؤوليته تتعدى ذلك كثيراً وقد أصبح يلام عن وافدة الكوليرا في هذا الجزء من العالم أو ذاك وعن الزلازل وعن كل ما فيه قتل وخراب ودمار في أماكن نائية من العالم وذلك لما نعرفه عنه من سوء ولأنه قل نظيره في العالم إن لم يكن قد انعدم (وكما يقولون جسمه لبّيس في السوء ويلبق به كل شي فيه الرذالة والنذالة والعهر والفحش وانعدام القيم والمعايير الأخلاقية والسلوكية التي تعرفها البشرية….). ولهذا يسهل أن نقول إن نظام الأسد اغتال الشيخ البوطي…ومثلما لا أستطيع الجزم بالمطلق بأنه لم يفعلها لا أسمح لنفسي في القول بأنه فعلها هذه المرة أيضاً وذلك لأن المعطيات والواقع يقولان غير ذلك…لقد قتل هذا النظام في الماضي الكثير من خدمه وحشمه (أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر أبو القعقاع الذي كان يُعد ويشحن ويرسل المتطوعين من أماكن مختلفة للذهاب إلى العراق بعد الغزو الأمريكي…وفي نفس الوقت قال بشار الأسد لصحفيين أمريكيين ما فيه نقيض هذا الفعل تماماً حين صرح بأنه يحمي أرواح الجنود الأمريكيين في العراق….لقد قتل ـ بضم القاف ـ أبو القعقاع كي تموت معه أسراره…وبقي الأمر رسمياً طي الكتمان وبقيت هوية القاتل مجهولة…). وأيضاً نتذكر أن حوادث قتل عديدة حصلت في المنطقة وبقيت حتى اللحظة أحجية وتحتمل التأويلات والتفسيرات المتعددة أكتفي منها، وعلى سبيل المثال أيضاً، بذكر قتل إيلي حبيقة الذي تنقل في خدماته بين إسرائيل ومن ثم النظام السوري وتم تعيينه وزيراً بأوامر من نظام الأسد في لبنان…وعندما استدعي حبيقة للادلاء بشهادته في محكمة دولية الطابع حول جرائم الحرب في لبنان تم اغتياله عام 2002 ومات وماتت معه أسرار كثيرة وخطيرة عما عرفه في انتقال موالاته من إسرائيل إلى ولائه المطلق وخدمته للنظام السوري… وبالرغم من أن أصابع الاتهام تم توجيهها وقتها لإسرائيل إلا أن من قتله بقي “معلماً بارعاً” مجهول الهوية إذ أن حبيقه كان ينام على جبل من أسرار الحرب التي تدين أطراف عديدة تتمثل بمن والاهم وعمل لديهم في هذه الفترة أو تلك….

    نعود للشيخ البوطي لنقول إن الفرق بينه وبين من قتلوا (بضم القاف) في السابق وبقي قتلهم أحجية ويحتمل التأويل كبير….فالبوطي كان مجرد رجل دين لا أكثر ولا أقل ولم يحمل السلاح ويذهب ولم يعبئ الناس أيديولوجيا في السر ليقوموا بتفجيرات ولم ولم…بالمختصر كان هذا الشيخ يقول ما يقوله في العلن وكان موقفه من النظام السوري وجرائمه واضحاً فهو لم يكن معادياً في يوم من الأيام لنظام الأسد بل كان دائم الدفاع عن النظام ودائم الانتقاد للطريقة التي تتم بها مقاومة نظام الأسد، كان البوطي يجتهد في إيجاد الشرعنة والتبرير الديني لما يقوم به نظام الأسد وبنفس الوقت رأى الأخير بما يقوم به البوطي الكثير مما يخدمه فهو المثال لرجل الدين ذو الشأن والصيت ويقف مبرراً للنظام ونهجه…وقد وصلت علاقة البوطي بالنظام أن الرأس السابق للنظام ميزه حتى بقضايا عائلية لدى آل الأسد حين طلب الشيخ البوطي بالتحديد ليقوم بمهام دينية خاصة في قضايا موت الأسد وابنه….إذن، وبتلخيص وتكثيف لم يكن لدى البوطي في علاقته بنظام الأسد ما يخفيه إذ انحصرت علاقته بالجانب الديني البحت حتى عندما كان يؤدلج لنظام الأسد…إلا أن الحراك في سوريا وموقف البوطي منه وضعاه بالمقابل (سواء أراد ذلك أم لم يرده!) في طرف العداء للحراك وهذا كان واضحاً وبدون لبس فقد عجت مواقع المعارضة بتشعباتها المعتدلة والمتطرفة بالعداء للبوطي ـ وللمفتي حسون ـ لأن مواقفهما بقيت ثابتة من النظام…(لقد رأينا الكثير من الرسوم التي تمثل جسد حمار برأس البوطي أو الحسون وعلى الحمار يمتطي بشار الأسد أو حسن نصر الله…على سبيل المثال؛ ولقد قرأنا كذلك في مرات لاتحصى الوعيد والتهديد للبوطي وللحسون…). لقد كانا هدفاً ومنذ البداية وقد قُتل ـ كما نتذكر جميعنا ـ ابن المفتي حسون إلا أن والده لم يوارب في كلامه حين قال ما قاله عند توجيهه إصبع الاتهام… الآن، بمقتل البوطي والطريقة التي تمت بها في داخل الجامع والعدد الكبير للذين قتلوا وجرحوا معه، نالت تلك الجريمة الإدانات الكثيرة ومن أطراف عديدة تعدت السوريين (إلى المنطقة العربية والعالم الإسلامي ـ على الصعيد الشعبي…) يريد البعض أن يخلط الأوراق حقاً فيجزم بالقول هذا النظام قد فعلها وله في السوابق…ولذلك لا بد من نظرة موضوعية للمسألة، ليس لنظام الأسد مصلحة بقتل البوطي على الإطلاق وكيفما قسناها، فقد كان وجود البوطي يخدم النظام كثيراً وحتى من الناحية الطائفية فنظام الأسد من مصلحته استمرار حياة البوطي والدفاع عنه والإفتاء والشرعنة له…!) وبالمقابل ـ وكما ذكرت أعلاه ـ هناك تحريض مستمر منذ بداية الحراك على التخلص من البوطي لأنه لا يغير موقفه من النظام (وهناك فيديو كليب يعود إلى بداية الحراك حين أحاط الكثيرون بالبوطي ورافقوه عند الخروج من الجامع بشكل أقرب إلى الهريبة من الجموع المتواجدة هناك وقتها…)، لقد أفتى أكثر من شيخ عربي معادين لنظام الأسد بقتل البوطي وهكذا فتاوي تعمل الكثير لدى من عانى من نظام الأسد ويعتقد بجواز التخلص من كل ما ومن شأنه خدمة نظام الإجرام في دمشق…في كل الأحوال، ليست المسألة بأن النظام ـ وكما يقول البعض الآن ـ يقتل القتيل ويمشي في جنازته (وهو في الواقع يفعل ذلك بكل مكر وخداع وتضليل..) بل إنها مسألة مصالح في هذه الحرب الدائرة فليس لنظام الأسد مصلحة بقتل البوطي ولم يكن البوطي يواقع تغيير رأيه فقد بدا ثابتاً في قناعاته (ربما كانت تلك بضرورات براغماتية وربما كانت راسخة!) حول آليات عمل المؤسسة الدينية في سوريا ولهذا ـ وكرأي شخصي ـ أستبعد أن يكون نظام الأسد قد قتل البوطي لأنه بحاجة إليه (بعكس أبو القعقاع وغيره بل إن مقتل أو تنحير غازي كنعان ـ الذي يستحضره البعض الآن كمثال على انعدام المحرمات والمعايير واللاحدود في القتل لدى الأسد ـ لايشبه بأي حال من الأحوال قتل البوطي…). بقي هناك نقطة جديرة بالتذكير، ليست معايير ثورية أن يتنصل أحد مما فعله ويلصقه بالغير…الثورات في العالم كانت تفعل ما تفعله وتعلن عنه…ولكننا في سوريا نواجه الأصعب والأقسة مما مرت به الشعوب الأخرى على مدى التاريخ…بل ويذهب بعضنا إلى القول بدون تحفظ إننا كشعب سوري الآن أمام وجهين لعملة واحدة نظام الأسد وتنويعات مقاومته، وهناك من يناقش ويسأل ـ وبحق ـ إذا كان الاختلاف في الرأي يعني القتل فإلى أين نسير وإلى أين تسير بنا سوريا؟

مقتل «البوطي»… الوقائع والدلالات

د. رضوان السيد

نشرت وسائلُ إعلام النظام السوري عشية الخميس 21/3/2013 أخباراً وصُوَراً عن مقتل الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي وآخرين بتفجير أمام مسجد الإيمان بدمشق. وقد أثار الخبر لدي شؤوناً وشجوناً ولجهتين: لجهة معرفتي بالشيخ البوطي ومتابعتي لأعماله العلمية منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، ولجهة عمل ومصائر المؤسسة الدينية السنية في نصف القرن الأخير، وبعد قيام حركات التغيير العربية.

والشيخ البوطي، إلى جانب الشيوخ كريم راجح ووهبة الزحيلي ومحمد راتب النابلسي ونور الدين العتر، هم أكبر علماء الشام الأحياء. وبينما صمت معظم علماء الشام أو تركوا سوريا بعدما تعرض له الشيخ الصياصنة إمام الجامع العُمَري بدرعا في بداية الثورة؛ فإنّ الشيخ البوطي والمفتي أحمد حسّون، ظلاَّ أكثر مشايخ سوريا حماساً للأسد ونظامه. وللبوطي مشاهد كثيرةٌ في دعم الأسد بعد قيام الثورة عليه، وقد قال قبل أسابيع في آخِر مواقفه إنّ الأسد وجنوده وضباطه هم في جهادهم ضد الإرهاب والتآمر لا يقلُّون منزلةً وأجراً عن صحابة رسول الله الذين تصدَّوا للردة! وما أزال أذكر له قبل عدة أشهر احتفالاً أقامه بالجامع الأُموي بدمشق للسياسي اللبناني وئام وهّاب إشادةً بمواقفه «التاريخية» من الأسد ونظامه!

وبرز البوطي في مطلع السبعينيات بأُطروحته عن «المصلحة في الفقه الإسلامي». ومن المعروف أن المصلحة باعتبارها دليلاً فرعياً من أدلة التشريع وأُصوله، كانت أساس ومنطلق الدعوة لفتح باب الاجتهاد. والمصالح الضرورية الخمس (حق النفس، وحق الدين، وحق العقل، وحق النسل، وحقّ المِلْك) هي التي اشترع لها الفقهاء منذ القرن الخامس الهجري، وتقدَّمهم فقهاء الشافعية، (الجويني، والغزالي، وابن عبد السلام)، (والبوطي شافعي كما هو معروف)، ثم تسلّمها فقهاء الحنابلة والمالكية، خاصة الشاطبي الذي كتب فيها كتابه المشهور «الموافقات في أُُصول الشريعة». وقد بدأت العودةُ إليها باعتبارها باباً لتجديد الفقه بعد طبع كتاب الموافقات بتونس عام 1884، وقد أشاد به الإمام محمد عبده، واستخدمه في فتاويه وتفسيره، وشجّع تلاميذه على إصدار نشرة محقّقة منه. ثم وبعد صمت طويل، قام الطاهر بن عاشور التونسي بتأليف كتابه «مقاصد الشريعة»، وبعد عشرين عاماً قام المفكر السياسي المغربي علاّل الفاسي بالشيء نفسه مع توجيه الفكرة توجيهاً سياسياً باتجاه مسألة حقوق الإنسان والديمقراطية.

ولنعُد إلى البوطي الذي صدرت أُطروحته عندما صدر كتاب الفاسي. بيد أنّ أكثر الذين ألَّفوا بعد البوطي في الموضوع وضعوه تحت عنوان المقاصد، وبذلك نُسي كتاب البوطي إلى حد بعيد. لكن البوطي لم يُنس، لأنه ألّف عام 1993 كتاباً في الجهاد يعتبر فيه أنّ الجهاد الأكبر كان دائماً جهاد النفس، ولا قتال مشروعاً اليوم!

والبوطي من أصل كردي، من قرية على الحدود مع تركيا، وقد ارتبط لديه الفقه بالتصوف، فهو صوفي نقشبندي، وقد اشتهر بين السبعينيات والتسعينيات بأمرين اثنين: عمله أُستاذاً في كلية الشريعة بجامعة دمشق، بعد تخرجه بجامعة الأزهر، وإصداره الكثير من الكتب في الفقه والتفسير والحياة الروحية في الإسلام، ومشكلات الشباب والعصر، ومكافحة التغريب والإلحاد. والأمر الثاني قربُهُ من النظام السوري، ومن حافظ الأسد شخصياً. والمعروف أنّ الشيخ الآخَر الذي كان قريباً من حافظ الأسد أيضاً هو الكردي أحمد كفتارو، الذي عيَّنه الأسد مفتياً لسوريا، وظلّ في هذا المنصب حتى وفاته رغم كبر سنه. واشتهر كفتارو بتزعُّم الطريقة الصوفية النقشبندية، وخَلفَهُ من بعده أولادُهُ في رعاية المؤسسات التي تركها، لكنّ بشار سُرعان ما انقلب عليهم، لأن مخابراته اعتبرت أنهم صاروا مظلّةً لخصوم الإيرانيين الذين أقاموا عدة معاهد وجامعات لنشر التشيُّع في البلاد.

ولا أظنُّ أن قُرب البوطي من آل الأسد يعود إلى مناصب تسنّمها أيامهم، بل وبالدرجة الأولى إلى مأزق المؤسسة الدينية السنية التقليدية بين الأنظمة والحركات السياسية الدينية. فقد صارعت أنظمة الضباط في مشرق العالم العربي ومغربه في البداية المؤسسات الإسلامية التقليدية للفتوى والتعليم والإرشاد العام (المساجد والأوقاف)؛ وذلك لاعتبارها أن تلك المؤسسات تعارض التحديث والطابع الاندماجي والشمولي للسلطة القومية التقدمية، التي تريد «تجنيد» المجتمع كلّه في عمليتي التغيير الاجتماعي والتحرير! ثم تنبهت تلك الأنظمة في مطالع السبعينيات، إلى أنّ الإسلاميين الحزبيين هم الخطر وليس رجالات المؤسسة التقليدية. ولذا فقد عادت لاحتواء أجزاء من المؤسسة رأتها ضروريةً للتصدي للإسلاميين، إضافة للتصدي الأمني. وكان الأسد- شأنه في ذلك شأن صدّام والقذافي والنميري وبن علي- شديد الاحتقار لشيوخ الدين من طائفته الأصلية، ومن طائفته الجديدة (فقد كان يزعُمُ بعد وصوله للسلطة أنه سني شافعي!)، لكنه أدرك أهمية الاستظلال بشيء من المؤسسة التقليدية في طائفتيه، القديمة والجديدة، بعد صدامه الدموي مع «الإخوان المسلمين»،(1980-1982). وفي تلك الفترة اهتم باجتذاب بعض رجال الدين «الذين لم يتلوثوا بالحزبية»، كما كان يقول عن البوطي وكفتارو وأمثالهما. وقد عرفتُ في الثمانينيات عدداً من وزراء الأوقاف السوريين، وكانوا جميعاً يظهرون بعثيتهم وإيمانهم في الوقت نفسه، وقد أقاموا نظاماً صارماً للولاء الديني للرئيس القائد والمؤمن، مثلما فعل السادات، وإن بيُسْر أكبر بكثير لدى الأخير، لاختلاف المجتمعين السوري والمصري. ففي مصر ما كان هناك خلافٌ على الإسلام. وما كان أحد يتعرض لكَ بوصفك عالماً إلا إذا هاجمتَ الرئيس بشكل مباشر. أما في سوريا والعراق والجزائر وليبيا وتونس؛ فكان المشايخ مضطرين لاتّباع عقائديات النظام وليس سلوكياته فقط. ومن تلك العقائديات تقديس الرئيس!

والطريف أن البوطي بالذات، منذ الثمانينيات وإلى يوم أمس، ما أزعجه شيء من سلوك النظام وسياساته، وكنا عندما نلتقي به يحرص في بداية الجلسة على الثناء على شخص الأسد وسياساته، ثم ينصرف بعد هُنيهة للنعي على الإسلام الحزبي وبدعياته، وإلغائه للمذاهب الأربعة بحجة الاجتهاد. فقد كان يعتبر أن الحزبيين الإسلاميين إنما يصارعون المؤسسة الدينية على أرضها، لذلك لابد من مكافحتهم لأنهم يسيسون الدين، ويفرقون الكلمة، وينشرون العنف في المجتمع باسم الدين. وكان يجادلنا نحن طلاب الدراسات الإسلامية في مسائل الطاعة والجماعة لدى أهل السنة، أما الآخرون فكان يجادلهم باسم الاستقرار، ومنع سفك الدم، وحفظ الأهداف العربية والإسلامية لسوريا. وما أزال أذكُرُ نقاشاً دار بيني وبينه بحضور محمد مهدي شمس الدين بعد ندوة في معرض الكتاب العربي ببيروت أواخر السبعينيات. قال البوطي: أنا محتار فيك، أنت لا تقبل الإسلام الحزبي، وتُعلن ولاءك لإسلام المذاهب، وللفصل العملي بين الدين والسياسة، ثم أجدك شديد السخط أيضاً على الأنظمة القائمة: فإما أن تكون مع الإسلام الحزبي الهاجم، أو تكونَ مع النظام القائم! والنظام القائم خير ورحمة لنا نحن علماء الدين، لأنه لا يصارعنا على مهامنا بخلاف الإسلام الحزبي الذي يكفرنا ويقتلني أنا وأنت إن اختلفنا معه وباسم الدين! وقاطعه الشيخ شمس الدين قائلاً: بل هناك طريق ثالث ورابع وخامس بين الإسلام السياسي، والأنظمة القائمة بدون دين ولا دنيا، ودعْنا من هذا الحديث يا رضوان، ولننصرف إلى عشائنا!

ما تبنّى أحد قتل الشيخ البوطي والذين معه. لكن البوطي ما توقف عن دعم نظام الأسد باسم الدين حتى بعد أن قتل من السوريين ستين ألفاً وأكثر، وهجر الملايين. وقد روى لي أحد وجهاء سوريا بلبنان قبل شهرين عن «حلاق» البوطي، أنه تذمّر من الأوضاع عندما كان يحلق له، فانتفض البوطي ساخطاً وقال وهو لا يزال تحت الموس: لا تتكلم يا ولد على أسيادك! فرحم الله البوطي الذي ما كان رغم كل شيء يستحقُّ هذه القتلة، ورحم الله المؤسسة الدينية السنية العريقة، التي قضت نحبها بين الأنظمة الإبادية، والإسلاميات الجهادية. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.

الاتحاد

الأكثر إزعاجا في مقتل البوطي

مازن كم الماز

أكثر ما يزعج في الجدال الذي تلا مقتل البوطي هو أنه تركز على القضايا الأقل إثارة للجدل، وتجاهل إلى حد كبير النقطة الأهم في الحدث برمته ..

هناك اتفاق على أن الرجل كان عضوا في حاشية طاغية مستبد، وفي الواقع لا يوجد أقسى من هذا الحكم على البوطي ..

ولا شك أيضا في أن النظام السوري قد يكون هو القاتل، فهذا النظام مستعد لفعل أي شيء ليبقى في السلطة .. المشكلة الحقيقية لم تكن في كل هذا، بل في بقية الضحايا الذين قتلوا مع البوطي، الذين كان موتهم هو دور الكومبارس الأخير في حياتهم، أولئك الذين لا تسبق أسماءهم المجهولة تماما بالنسبة لنا وصف رجل دين، وسطي، معتدل، مستنير، أو شبيح أو موالي، الذين لم يسأل أحد عن موقفهم من النظام أو الثورة، ولم يستشر أحد أيا من ‘العلماء الأفاضل’ ليعرف الحكم الشرعي في الترحم عليهم ..

المزعج فعلا، أن يمر موت هؤلاء بنفس البساطة التي سقط فيها سبعون ألف شهيد سوري حتى الساعة، بنفس الصمت والتجاهل .. الواقع أنه من أجل هؤلاء بالذات قام السوريون قبل سنتين بثورتهم، قاموا لكي يقولوا أن حياة البشر أكثر بديهية من إرادة الحاكم، وأن حريتهم هي الأصل، لا إرادة الحاكم المطلقة..

هنا بالذات هناك شيء مهم لافت للانتباه: هو أن المقتول وكثير من الشيوخ الذين برروا قتله يجمعهم موقف واحد، موقف ينتمي للماضي، ماضي الاستبداد بكل تلاوينه، ماضي ما قبل الثورات العربية: هو تحريم الخروج على الحاكم الجائر .. يبدو أن بعض المفاهيم لا تتغير بسهولة، حتى مع كل هذا الدم والموت، إنهم لم يدركون بعد أن هناك ثورة في سوريا، من اجل الحياة والحرية .. إن مسألة حياة الناس وحريتهم ليست في الأساس جزءا من خيارات الحاكم، أو أي شخص آخر، هذا ليس فقط حقا بديهيا مفترضا إنه حق أصبح السوريون البسطاء يستحقونه، بعد سنتين من الألم والتضحيات، وليس منة من أحد.

‘ كاتب سوري

القدس العربي

عن اغتيال البوطي

حسان عباس

 للشيخ البوطي مكانة في عالم الفكر الديني الإسلامي لا يمكن لأحد المجادلة فيها. وهي مكانة، سواء وافق المرء على آراء البوطي أم أنكرها، تنال حظها من التقدير، ليس في سورية فحسب، بل على امتداد العالم الإسلامي. وللشيخ أيضاً موقع في آليات السيطرة التي ركّبها ثم مأسسها النظام السوري لا يمكن لأحد تجاهل قوّته وحساسيته في الوقت ذاته. لكن لعل إحدى أخطر المفارقات التي نواجهها عند محاولة فهم آليات السيطرة تلك تكمن، تماماً، في معرفة كيف قٌيّض للبوطي أن يتبوّأ ذاك الموقع لدى نظام ذي لبوس حداثي، يعتبر العلمانية واليسارية والقومية والتحرّر الاجتماعي من أسس تكوينه الفكري والإيديولوجي والثقافي، بينما هو (البوطي) لم يمتنع البتة عن التصريح جهاراً نهاراً بعدائه للعلمانية واليسارية والقومية والتحرر الاجتماعي.

تضطرنا محاولة فهم المفارقة إلى قراءة علاقة البوطي مع النظام في سياق التحولات التاريخية التي واجهها هذا الأخير في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الفائت. فمن المعروف أن نظام البعث كان قبل ذاك الوقت قد حجّم دار الإفتاء، الواجهة الدينية الرسمية للدولة، وحوّلها إلى واجهة شكلية مكتفية بوظيفة بروتوكولية، وبالتالي خفتت مصداقيتها لدى جموع المسلمين وفقدت قدرتها التدخلية في ضبط الشارع المتدّين الناقم. من جهة ثانية، لم تكن الجماعات الفاعلة في القضايا التربوية والدعوية، وأهمها جماعة زيد في دمشق، تحظى بالرضا التام من المؤسسة الأمنية التي كانت تنظر إليها بعين الريبة وترى فيها الحاضنة المولّدة للشباب المنخرطين في النزاع المسلح مع الطليعة المقاتلة ثم مع الإخوان بشكل عام. من جهة ثالثة لم تكن الأخويات الصوفية النازعة بطبيعتها وبإيمانها نحو إرضاء وليّ الأمر لتلقى قبولاً لدى الشارع الناقم الذي يغمز من قناة تبعيتها للنظام. وبطبيعة الحال لم يكن لدى مشايخ الإخوان المنهكين في الصراع والذين فرّ معظمهم خارج البلاد، إن لم يكونوا قد اعتقلوا أو قتلوا، من يرضى النظام بتحميله مسؤولية ضبط العلاقة بين السلطة والشارع المتدين. هذه المعطيات أوجدت فراغا أراد النظام ملأه بشخصية قادرة على جمع شروط يمثل اجتماعها في شخص واحد معادلة بالغة التعقيد. كان على تلك الشخصية أن تكون: 1- محترمة في حقل العمل الديني على مستوى العالم الإسلامي 2- ذات شعبية ولها مريدوها في سورية وخارجها 3- مستقلة عن النظام (ممثلا بدار الإفتاء) 4- قريبة من جماعات العلماء دون أن تكون فيها 5- واضحة الخصومة مع الإخوان المسلمين 6- غير معادية للأخويات الصوفية دون أن تكون في واحدة منها 7- ومقتنعة بقدسية الولاء لأولي الأمر أيا كانت الظروف. ولم يكن هناك غير الشيخ البوطي من يجمع بشخصه كل هذه الشروط.

من هنا بدأت إذن علاقة البوطي مع النظام. لم يكن موظفا (رسميا) لديه، لكنه كان صاحب وظيفة خطيرة في آليات سيطرته، ونجاحه فيها هو ما أوجد له موقعه الاستثنائي. كان البوطي حلقة الوصل بين النظام وجمهور واسع من الرعية المتدينة. فمن طرف، كان يتدخل لدى النظام لتصحيح أمر يرى فيه إساءة لما يبدو له أنه من قيم الإسلام (ومن مواقفه المعروفة في هذا المجال  اعتراضه في رسالة وقعها عشرات العلماء، ويقال إن البوطي كاتبها، على قرار إلغاء الحلقة الإعدادية من المدارس الشرعية، وانتقاده اللاذع في خطبة له لاتفاقية “سيداو”، وانتقاده للمسلسل  التلفزيوني: “ما ملكت ايمانكم”، وانتقاده لقرار فصل المعلمات المنقبات من سلك التعليم…..). ومن طرف آخر، كان يجهد في الدفاع عن النظام وفي وعظ مريديه وطلابه ليبقوا على ولائهم له. ومواقفه في هذا المجال أكثر من أن تحصى. ومنها انتقاده للمحتجّين الذين كانوا يجتمعون في المساجد قبل خروجهم في المظاهرات، واتهامهم بالخيانة والكفر، ووصفه للقسم الأكبر منهم بأنه “لا يعرف جبينه السجود أبدًا”، وهجومه المستمر على الثورة واستظهاره للخطاب الرسمي في انتقادها وفي توجيه الاتهامات إليها وإلى المشاركين فيها.

لم تكن وظيفة البوطي، ولا شخصيته، بسيطتين أبدا. ويزيد الوضع الذي تمرّ به سوريا اليوم من تعقيدهما، حتى ليبدو من الصعب على أي تحليل عقلاني أن يفهم الخيوط والتداخلات في تركيبهما. وفي وضع كهذا تغدو أي محاولة لفهم عملية اغتيال البوطي شكلا من أشكال الضرب في المندل. لكن ثمة حقيقة واحدة في تلك العملية، وهي أن من قام بها خبير معتّق بشؤون سورية ويعمل بحنكة وشيطانية على تخريبها، ويعرف تماما أن عملية من هذا النمط قد تكون الشرارة لحريق مجتمعي يرغب كثيرون بإشعاله لكنهم لم يتمكنوا حتى الآن، ورغم كل شيء، من ذلك. إن عملية اغتيال البوطي، أيا كان موقفنا الفكري والعاطفي من الشخص، هي دفع إلى درك أدنى في الجهنم التي تسقط فيها سورية.

المدن

مقتل البوطي يكشف عمق الانقسام في سورية

وائل السواح *

ما إن أعلن عن مقتل الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، أهم رجل دين سنّي مؤيد للرئيس بشار الأسد، حتى ضجّت الساحات الواقعية والافتراضية بالخبر وكُتبت عشرات آلاف التعليقات وجَرت آلاف الاتصالات الهاتفية والإلكترونية لنقل الخبر والتعبير عن عواطف السوريين تجاهه.

الصادم هو هذا الانقسام الكبير بين معسكرين من السوريين، رأى الأول في الرجل دمية بيد النظام وذكّر بدعمه المستمر له وبإدانته للثورة واعتبارها عملاً تخريبياً ومتآمراً مع الغرب على سورية وعلى الإسلام، ورفع المعسكر الثاني البوطي إلى مستوى القديسين، وذكّر بعلمه الرفيع ومنزلته العالية في الفقه الإسلامي.

والحق أن أحداً لا ينكر على الرجل عمق معرفته بالفقه الإسلامي ورسوخ قدمه في الدراسات القرآنية، ولكنه كان بالتأكيد مؤيداً للنظام السوري من دون مواربة أو تحسّب. وتحسب عليه كثرة من السوريين وصْفه الرئيسَ الراحلَ حافظ الأسد بـ «صاحب المواقف التي انبعثت عن إلهام رباني»، وابنه البكر باسل الأسد بـ «الشهيد الذي بكت عليه السماء»، والرئيس الحالي بشار الأسد بـ «المعين الذي لا ينضب».

وعندما خرج السوريون إلى الشوارع في آذار (مارس) 2011 طلباً للحرية والكرامة والمساواة، خرج البوطي يقول بحق من ضُربوا وعذِّبوا واعتُقلوا إن «جباههم لا تعرف الصلاة». وكان أول من أعطى ثورة السوريين بعداً طائفياً لم يكن وارداً في حساب المنتفضين، عندما خرج على شاشة التلفزيون ليقول إن الرئيس الأسد وافق على مطالب المحتجين، فأمر بإعادة المنقبات إلى وظائفهن وبإنشاء محطة تلفزيونية دينية ومعهد ديني، على رغم أن أياً من ذلك لم يكن وارداً في مطالب السوريين. وفي خطبته التي عنونها بـ «الإسلام والسياسة»، وألقاها يوم الجمعة 2 كانون الثاني (يناير) 2011، قال البوطي: «لم يشهد التاريخ مؤامرة على الأمة بحجم ما تتعرض له سورية اليوم، بما فيها الحروب الصليبية واحتلال المغول والتتار بلادَ المسلمين». وبعد ذلك بعامين، بقي الرجل على موقفه، فقال في خطبة يوم 4 كانون الثاني 2013 إن كل الذي يجري في سورية «من إرهاب وتخريب للممتلكات العامة والخاصة وقتل للأبرياء على يد المجرمين الحاقدين القادمين من كل أصقاع الأرض يتم تحت غطاء قانون الحقد الذي شرعن كل الوسائل لتدمير الدولة السورية التي وزعت الأمن والسلام على كل جيرانها».

لا يمكن أحداً أن يجزم بهوية من قتل البوطي. النظام اتهم مباشرة المعارضة المسلحة بقتله، بينما اتهمت المعارضة النظام بتصفية الرجل. وبينما قال وزير الأوقاف السوري إن القتلة أرادوا قتل «صوت سورية وحق سورية وصورة سورية وليكسروا به ثبات سورية وصمودها». ودان الشيخ معاذ الخطيب رئيس الائتلاف الوطني المعارض التفجير ورجح أن يكون النظام هو من قام بذلك.

يصعب تصديق أن النظام قتل داعيته ورجله وأهم مؤيديه من السنّة في سورية، ليس لأن لديه رادعاً أخلاقياً يمنعه، ولكن لأن ذلك يضعف هيبته المنهارة أساساً ويحرمه من سند قوي له في أوساط المتدينين السوريين الذين يكنون للبوطي تقديراً كبيراً.

ليست هذه أول مرة ينقسم فيها السوريون حيال أمر بعينه، فهم منذ اندلاع الثورة متخندقون حول موقفين متناقضين لا مجال للتلاقي بينهما. ولكن الشخصية الرمزية للشيخ البوطي أعطت هذا الانقسام بعداً آخر. فالرجل بتاريخه ومكانته بين المسلمين السنّة في سورية والعالم وبالأربعين مؤلفاً التي تركها خلفه، من جانب، وتأييده غير المحدود أو المشروط لنظامٍ قتل ما يزيد عن السبعين ألفاً من مواطنيه، جعل انقسام السوريين جرحاً غير قابل للاندمال.

وعلى ضوء اغتيال البوطي، ثمة حقائق من الخطأ الكبير تجاهلها. من هذه الحقائق أن النظام السوري واحد من أسوأ الأنظمة القمعية في العالم، فإضافة إلى السوريين الذين قضوا خلال العامين الفائتين، ثمة مليون مهجر في الدول المجاورة وضعفهم من المهجرين في الداخل، ومئات آلاف المعتقلين والجرحى. ومنها أن الثورة السورية بدأت انتفاضة سلمية مدنية ديموقراطية للمطالبة بالحرية والكرامة والمساواة، ولكن جزءاً كبيراً منها انجرف إلى مستوى قد يهدد في المستقبل القصير بدخول البلاد في حرب أهلية كارثية. وبلغ تهديم البنية التحتية مستوى صارت قضية إعادة الإعمار مسألة في غاية الصعوبة إن لم تغد أمراً مستحيلاً على المدى المنظور. ولكن الأدهى هو الخراب في البنية المجتمعية والأخلاقية التي قسمت السوريين عمودياً، وفي شكل يزداد عمقاً ومأسوية في شكل يومي، خراب صار يبرر القتل ويسمح للسوريين بالشماتة بعضهم من بعض حتى في مسائل كالموت والمصائب الكبيرة.

وباتت مصطلحات من مثل «العفس» و«الفطس» هي اللغة السائدة لدى شريحة واسعة من السوريين على صفحات التواصل الاجتماعي، التي أخرجت النميمة من مجالها الضيق المعهود في البيوت والمقاهي إلى مجال علني أوسع وأرحب.

إلى ذلك، فإن غالبية السوريين هي ضد النظام الحاكم في دمشق، ولكن نسبة السوريين التي تؤيد النظام ليست صغيرة لكي لا يحسب حسابها. فالنظام سواء، أحب المعارضون ذلك أم كرهوه، يتمتع بنسبة لا تقل عن 30 في المئة من السوريين. ويزيد الأمور تعقيداً أن هذا الانقسام يتخذ يوماً بعد يوم وجهاً طائفياً ومذهبياً يزيد في الانقسام المجتمعي ويجعل إعادة اللحمة أمراً شبه مستحيل.

من هنا، فإن الأطراف التي تستهتر بالسوريين وبمواقفهم السياسية ينبغي لها أن تعيد حساباتها لأن ما يقف في الميزان الآن ليس النظام السوري ولا عائلة الأسد وإنما الوطن بمجمله. لذلك، فإن استسهال رفض الحوار والمفاوضات حول مستقبل سورية لن يؤدي إلى مخرج من المأزق الدموي الذي يجد السوريون أنفسهم فيه. لقد جاء اغتيال البوطي، إذاً، ليبيِّن حجم الانقسام المخيف في المجتمع السوري، فهل يكون مقدمة لقناعة بأن الأوان قد آن لكي تتم مفاوضات جادة تؤدي إلى رحيل رموز النظام الأساسية، مع حل يضمن وجود وسلامة مكونات المجتمع السوري كافة؟ حل يقوم على العدالة والمساءلة بمقدار ما يقوم على المسامحة والمصالحة، وإدراك أن الحل ليس للثأر من الماضي وإنما لبناء المستقبل.

* كاتب سوري

الحياة

البوطي والإسلام القديم والثورة

ياسر عبد الهادي الزيات

تلاطم الكثير من الرثاء والجدل حول نعش الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، الذي لقي حتفه إثر انفجار مشبوه في جامع الإيمان الدمشقي الخميس الماضي ودُفن بالقرب من ضريح صلاح الدين. العالِم الذي حظي بشهرة طيبة فقدها خلال عامين من الثورة، نال قبراً قرب الملك الأطيب شهرةً في تاريخنا، نحن المعروفين بحبنا للعلماء وكرهنا للملوك. أسئلة كثيرة يمكن طرحها عن الدين والسلطة ودين السلطة وسلطة الدين، انطلاقاً من تلك المفارقة، في بلاد كانت عاصمة الثقافة الإسلامية طوال عصور الانحطاط.

قضى الأشعريّ الراحل حياته مكرّساً لتقاليد تلك العصور، معبّراً في مواقفه وكتاباته عن اتجاه اجتماعي وفكري محافظ جداً يرفض التجديد والانشقاق. كان خصماً عنيداً لكل أطروحات النهضة، ليس فقط في سجالاته ضد الماركسية والوجودية والديمقراطية والقومية العربية…، بل حتى التجاديد النابعة من عمق التدين الإسلامي ارتاب بها، فالوهابية عنده مؤامرة بريطانية، والإسلام السياسي طيش ومروق وفتنة، وشيوخ عصر اليقظة (الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي…) ماسونيون تآمروا على الخلافة.

لكن الأشهر عنه كان موقفه الكارثي من ثورة بلاده. كان البوطي الممثل الأبرز للإسلام البرجوازي السوري، الإسلام المغرور والخائف في آنٍ معاً، والممسوخ أقليةً تعيش كغيرها تحت جناح النظام. لكنها أقلية مدلّلة! لأغنيائها ولرجال دينها كلمة عند السلطة لا تكاد تُردّ، ونمت لها حركات دعوية ومعاهد شرعية وجمعيات خيرية وتقاليد لم يكن يرى النظام في أي منها ما يهدّده، ما دامت مجفّفة سياسياً ومراقَبة مخابراتياً وتعود عليه بالرضا العامّ. «الإسلام» هو هذه الطائفة بالنسبة للبوطي، وهي عرضة أبداً للمؤامرات والمخاطر، وكغيرها يهدّدها الإسلاميون: يهدّدون تاريخها ورموزها وأبناءها وعلاقات المعرفة والسلطة القارّة فيها منذ قرون. عرف الطاغية الأب كيف يقدّم نفسه للدمشقيين كبعثيّ مؤمن ومعتدل، وصار عند البعض أميراً يحمي الدين وتدعو له المنابر، وكالعادة عادت السلطة السياسية ركناً ركيناً من المؤسسة الدينية. هذا الإسلام، الذي رأى في كل خصوم النظام خصومه، والذي لم يرَ الاستبداد إثماً، ولا الظلم كبيرةً، ولا الفقر كفراً، والذي كان واعظاً مسترحماً في أشدّ خلافاته مع الحاكم، كان طبيعياً أن يكون الدينَ الرسميّ لدولة الأسد. هو أكثر من مخاوف طائفية أقلوية، وأخطر من رجال دين مقرّبين: هو جزء حقيقي من النظام، جزء من فكره وأفيونه واقتصاده ونخبته المرفّهة، وبالتالي عدوّ طبيعي لأي ثورة.

هذا يقول الكثير في نقد التأويل الإسلامي أو السنّي للثورة السورية.

لكن الإسلام الرسمي لم يكن وحده، فإسلام «الحاكم الصالح» كانت تنافسه في التزلّف علمانية «المستبدّ المستنير»، وكلاهما فكر شعبوي، كلٌ على طريقته، يوبّخ المجتمع على فساده ويدعو للرئيس بالخير والبقاء. وبينما ورثت هذه العلمانية خطاب «حماية الأقليات» الاستعماري، ورث ذلك الإسلام خطاب «حماية الهوية» العثماني، ولم يزل الطرفان يتخانقان في ظل النظام ويُزايدان في الولاء له حتى ثار الناس على الثلاثة!

عبّر ناشطون وناشطات منذ البداية عن الخطر الذي يمثّله البوطي على الدين والوطن، وعن ضرورة نقد خطابه الديني وإسقاطه كرمز. غضّوا النظر عن الفقيه الجليل والكاتب البارع والصوفي الرقيق، وركّزوا في رصيد الشيخ على فكره الرجعيّ ونبرته التحريضية ووعظه السلطاني القديم، وبسرعة تحوّل ما كان نفوذاً شعبياً واسعاً إلى مزيج من الخيبة والغضب والسخرية، والتنوّر.

الخروج الجماعي من عباءة إسلام سلطاني خطوة فارقة، وإن ليست كافية، نحو تحرير الإسلام من التسلّط والاستغلال، ومن التراث الذي طال عليه الأمد وتحجّرت فيه أرواح المسلمين. لكن يبقى سؤال البديل. فالشرعية الدينية الجديدة، التي نُسفت على أساسها شرعية البوطي، لم تكن بِنت الثورة والمجتمع الثائر وحدهما، بل كانت إسلاماً قديماً صحا وأعيد إنتاج خطابه وتدويره في ظروف السوريين الجديدة، وهو «إسلام رسمي» آخر لـ«سلطان» منافس، وجد في الثورة حليفاً له ضد العلمانية أو ضد الشيعة أو ضد التصوّف. ليس الخطاب الإسلامي الصاعد مستقلاً وحراً إذن، وهو يُبدي، ولا سيما في ظروف العنف اليوم، ألقاً أقلّ بكثير من الإسلام السوري العريق، ويخلق في نفوس كثيرة غصّة وحنقاً على الخريطة الدينية الجديدة، أن كيف ينقرض الإسلام الصوفي الوادع لصالح إسلام عُصابي ممتلئ طيشاً وعنفاً ورغبةً في تحطيم العالم؟

لكن لا شيء أكثر سلبيةً واستلاباً من التحمّس الأعمى للإسلاميين الجدد، إلا النحيب والردح الذي يكتفي بشتم النفط والغرب والفقراء، ولا يرى في الإسلام الجديد غير ذئب همجيّ. على «الإسلام الشامي» أن يتحرّر قليلاً من الخوف، وكثيراً من حضنه السياسي الفاجر، وأن يسأل خطاياه المتراكمة وسذاجته السياسية وفكره البابوي وكفره بالتغيير وبالثقافة، وسُكناه الطويلة بين القصور وتكايا الدراويش. إن صحوة الإسلام السياسي في سوريا، بالتزامن مع ربيع إخواني وسلفي على طول العالم العربي، هي انتقام لنصف قرن من السحق والحرمان، وصعود لشرائح كثيراً ما عجز الإسلام السائد عن مدّها بالسند الاجتماعي والروحي، وتلبية لحاجة الكثير من الثائرين لتبرير ديني وحليف نفسيّ وأيديولوجيا حرب.

لكن ماذا عن المستقبل؟ ما احتمالات إنتاج خطاب إسلامي أعدل وأعقل، أقلّ كِبراً وأشدّ انحيازاً للضعفاء، وفي نفس الوقت أكثر قوةً واستقلالاً عن القوى؟ الحرب تعلو على أصوات التحليل، ولا يبدو بعد ما إذا كان الذين خرجوا من إسلام النظام سيأسِرُهم إسلام «التنظيم» أم لا. لكن الأفق واسع. ثمة جيل من الشباب المتديّن خارج من الجماعات والأحزاب ناقد لها، وثمة قراءات مدنية وديمقراطية وأناركية للإسلام تحوز مع الأيام قدراً أكبر من الاتّساع والاتّساق. ولقد نكون والإسلامَ في حال أفضل لو قابل صعودَ الإسلام السلفي صوفيةٌ ناهضة، أقل كسلاً وأكثر شباباً وأشد اندفاعاً في الدفاع عن الحق والعدل والجمال. ما زال لدى الإسلام الكثير ليقوله عن الجهاد والشريعة والمرأة والحكّام والطوائف… إن إسلاماً دحر الفرنجة وقاتل الفرنسيين وفتن الشرق والغرب، جديرٌ أن يكفّر عما فعله بنا وبنفسه.

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى