صفحات سورية

وجوه من زمن الثورة: أحمد البياسي الذي مات ولم يمت… أيقونة الناس البسطاء!

 


محمد منصور

من بين صفوف الناس البسطاء والفقراء… الناس الذين لا تعني لهم نظريات السياسة شيئاً، ولا أيديولوجيات الأحزاب أي قضية، خرج ابن مدينة بانياس السورية الساحلية الشاب أحمد البياسي… ليتصدر المشهد التلفزيوني والافتراضي على صفحات موقع التواصل الاجتماعي الأسبوع الماضي.

لم يعرف الكثير من السوريين اسم هذا الشاب، رغم أنهم رأووا صورته على الشاشات في مناسبتين: الأولى عندما تسرب فيديو البيضا الشهير الذي يظهر فيه شبيحة الأمن والنظام وهم يدوسون أجساد شباب القرية ويركلونهم على وجوههم وينكلون به وهم معتقلون ومقيدو الأيدي… يومها استنفر الإعلام السوري آلة الكذب الفاجرة لديه ليقول أن هذا الفيديو صور في العراق وأن الشبيحة هم بيشمركة… وظهرت المذيعة رائدة وقاف في استوديو الفضائية السورية لتستقبل اتصالات لأشخاص حلفوا لها يمين بالطلاق أن هذا المشهد في العراق… فيما تكفل كل من خالد العبود وعصام التكروري وطالب إبراهيم ليظهروا على الفضائيات المعادية ويرددوا هذه الأكاذيب التي لن يسامحهم عليها الكثير من السوريين ما قيض لهم أن يعيشوا ويروا نهاية هؤلاء. أما المناسبة الثانية فهي التي ظهر فيها أحمد البياسي عبر فيديو آخر، مرتدياً نفس اللباس الفقير والبسيط الذي كان يرتديه عندما ظهر في الفيديو الأول، وحاملا بطاقة الهوية الشخصية ليؤكد أنه هو نفسه من ظهر في ذلك الفيديو الذي هز صورة النظام أمام الرأي العام العالمي، وأن هذه ساحة قرية البيضا في بانياس… وأن ما جرى لم يكن من صنع عناصر المارينز الأمريكان كما قالت قناة (الدنيا) عنوان الزور والبهتان التلفزيوني، بل من صنع شبيحة الأمن السوري.

غاب اسم أحمد البياسي وانطوت صورته في زحمة الأحداث، إلا من فيديوهات اليوتيوب التي سجلت للتاريخ واحدة من أشنع الأكاذيب التي سعى الإعلام السوري لتسويقها… ثم فجأة عاد اسمه للظهور عندما نشرت على موقع الفيسبوك الأسبوع الماضي رسالة لسيدة اعتقل زوجها في فرع أمن الدولة الشهير في منطقة كفرسوسة بدمشق، وقالت فيها: إن زوجها شاهد من خلال قطعة القماش التي انزاحت عن عينيه هذا الشاب وهو معتقل في هذا الفرع، وأن الضابط كان يركله، ويأمره أن ينظف له الحذاء بوجهه وأن يلعقه بلسانه مراراً إمعاناً في إذلاله.

في اليوم التالي نشر المرصد السوري لحقوق الإنسان في لندن خبراً غير موثوق يفيد بان أحمد البياسي قد توفي تحت التعذيب، ونقلت البي بي سي هذا الخبر عن المرصد المذكور… وكانت مأساة أحمد البياسي في ذلك اليوم الطويل، واحدة من مآس سورية كثيرة تصدرت الشاشات مرة أخرى.

انضمت بعد ذلك قناة (الجزيرة) و(العربية) إلى متابعة قضية هذا الشاب ونقل هذا الخبر غير الموثوق عن وفاته تحت التعذيب… وانتشر الخبر على مواقع الانترنت وصفحات الفيسبوك… وسرعان ما تعاطف آلاف السوريين مع من أطلقوا عليه (شهيد الحقيقة) واستبدلوا صورهم الشخصية بصورة له من الفيديو الذي ظهر فيه بشجاعة نادرة ليكذب الإعلام السوري. ورغم أن الخبر ظل غير مؤكد إلا أن هذه الرغبة في التعبير عن التضامن والاحتفاء بمشروع شهيد… طغت على إحساس الكثير من السوريين، الذين رأوا فيه صورة من صور بطولة رمزية تستحق أن يحتفي بها… بل أن ذلك دفع بعضهم إلى إطلاق اسم البياسي على الجمعة القادمة، في تقليد هو الأول من نوعه منذ انطلاق هذه الاحتجاجات الشعبية التي لم يسبق لها أن أطلقت أسماء أشخاص على تحركاتها.

أخيراً خرج التلفزيون السوري عن صمته، وظن أنه ورط أعداء الوطن والمحطات الفضائية المغرضة في خبر كاذب يمكن أن يسحب كل رصيد الثقة لديها… وكانت المفاجأة أنه أظهر لقاء مع أحمد البياسي وهو بثياب أنيقة ويجلس على كرسي جلدي دوار وأمامه المايكروفون، ليكذب رواية موته تحت التعذيب… وليكذب هذه الفضائيات التي تريد تشويه سمعة الوطن.. لكن هذا التكذيب ارتد على الإعلام اللاوطني الكاذب… فقد أكد التلفزيون السوري بطريقة لا لبس فيها أن فيديو البيضا كان صحيحاً وليس مزوراً، وأن هذا الشاب الذي كان يركل ويهان مواطن عربي سوري وليس مستورداً من دولة مجاورة… فكان هذا الاعتراف أبلغ صفعة يصفعها هذا الإعلام لنفسه من حيث يدري أو لا يدري.

قناة (الجزيرة) التي كذبها التلفزيون السوري الغارق في الكذب وحديث المؤامرة وتوزيع تهم الخيانة والعمالة، لم يفتها في التقرير الذي تابعت فيه هذه القضية أن تلتقط هذا المعنى الفاضح… بل أشارت إلى أن هذا الاعتراف الرسمي المصور بفيديو البيضا، لم يدفع السلطات السورية لفتح تحقيق في تلك الارتكابات المهينة التي ارتكبها عناصر الأمن وهزت صورة النظام في العمق.

في الصور التي بثها التلفزيون السوري، ظهر أحمد البياسي منهكاً، ناحل الوجه… لم تستطع تسريحة الشعر المنتظمة، أو البيجامة الرياضية الأنيقة التي ألبسوه إياها أن تخفي ذلك النحول والتعب، ولا تلك النبرة المستسلمة في صوت يقول ما يريدون له أن يقول. ولم يكن ظهور أحمد حياً نهاية المطاف في درب الآلام الذي عبر به بعد أن تجرأ على فضح أكاذيب الإعلام السوري دفاعاً عن كرامته التي أهينت، وعن حقه الذي أهدر، وعن قهره الذي استفحل صراخاً في وجه محاولات إنكار الحقيقة.. ظلت صورة أحمد ماثلة في وجداني وفي وجدان كثير من السوريين الذين هللوا فرحاً على صفحاتهم على الفيسبوك بعد أن (كتبت له حياة جديدة) لكن في تلك الحياة ثمة فصل ناقص يجب أن يكتمل… فقد أفرج لأول مرة عن هذا الشاب وابناء قريته بعد أن خرجت نساء البيضا في تظاهرة قطعت الطريق السريع بين بانياس وطرطوس لتطالب بإعادة الأزواج والأخوة والأبناء إلى البيوت التي خلت منهم بعد مداهمة شبيحة الأمن للقرية… وحين تسرب فيديو البيضا بعد ذلك، سجل أحمد الفيديو الذي يقدم الدليل الأكيد على حدوثه… واستمرت التظاهرات في البيضا وبانياس فقررت السلطات السورية تلفيق رواية الإمارة السلفية، كي تبرر حصار الجيش للمدينة واقتحامها مرة ثانية. وفي هذه الأثناء عثروا على أحمد البياسي وما إن رأوه حتى تذكروا أنه كان الرجل الذي فضح أكاذيب مليشياتهم الإعلامية… فانهالوا عليه ضربا وشتماً قبل أن يعيدوا اعتقاله، وينقل إلى فرع أمن الدولة في دمشق ليأخذ نصيبه من التعذيب الوحشي والإهانة مرة أخرى… وعندما تسربت الأنباء عن وجوده قيد الاعتقال، وعن احتمال أن يكون قد مات تحت التعذيب… قرروا الإفراج عنه شريطة أن يظهر على التلفزيون السوري ويكذب الإعلام المشبوه!

عاد أحمد إلى بيته أخيراً… عاد دون أن يدري ما الذي دفعهم إلى الإفراج عنه، ودون أن يقرأ ما كتب عنه على صفحات الفيسبوك التي ليس له فيه موطئ قدم، ولا لماذا انتشرت صوره على بروفايلات كثير من أبناء وطنه… عاد وحيداً ومنهكاً يحمل في عينيه براءة الشاب الريفي البسيط، الذي أدرك ربما أن تكذيب الإعلام السوري جريمة يعاقب عليها القانون، وقد تودي بصاحبها إلى أقبية المخابرات وسياط الجلادين… لكن المعركة حوله لم تنته. وعلى صفحات الفيسبوك قام أنصار النظام بتصميم ملصق يسخر من رغبة بعض الناشطين بتسمية الجمعة باسمه، جعلوا له عنواناً مهيناً (جمعة الجربوع) وقد أرسل لي أحد هؤلاء رابطاً لصفحة مناوئة أخرى أسموها (حملة المليون حذاء لكل من وضع صورة على بروفايله متضامنا مع هذا الـ….) وعذرا لحذف الكلمة التي يعاقب قانون المطبوعات على نشرها.

لا أدري لماذا يهين أنصار النظام (المتحضرين) هذا الشاب بهذه الطريقة الممتلئة غيظاً وكراهية، والتي تنم عن عدم احترام مواطنيته كإنسان… فهو لم يطلب من أحد أن يتضامن معه، ولم تكن له يد في كل ما كتب عنه… وربما لم يقرأه، لكن بالنسبة لي فأنا أفخر بأن  أحمد هو ابن بلدي… وأتشرف بمعرفته لو قيض لي أن أراه يوماً… وحملة المليون حذاء تعبر عن ثقافة أنصار النظام، وتسيء لهم وللقضية التي يدافعون عنها إن كان ثمة قضية… وهي لن تمس هذا الشاب الشريف الشجاع ولا من تضامن معه… لأن روح التضامن الأخوي النبيل تاج يكلل رؤوسنا هذه الأيام… وهي شيء لا نخجل منه بالتأكيد… فقد علمنا هذا الشاب القروي الفقير أن كرامة الإنسان تبقى محفوظة متى تحلى بالشجاعة كي يكسر غلالة الصمت والسكوت. علمنا أحمد البياسي أن الوطن عدالة، وأن المواطنة محبة، وأن الشرف إخاء ونسب ورابطة دم… فشكرا لك يا أحمد وأنت غافل عما يكتب عنك من مديح او هجاء… شكراً لك لأن سورية تكبر بأمثالك وبشهامتك… ولأن الأحذية تلبس من ينتعلونها لغة وثقافة وأخلاقاً… الأحذية تلبس الجلادين في عقولهم وألسنتهم، بينما تبقى تحت موطئ قدم الشرفاء والبسطاء يدوسونها ولا تدوسهم!

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى