صفحات الحوار

وجيه كوثراني:انتقلنا من الطائفية المنفتحة إلى الطائفية المنغلقة

 

 

يوسف بزي

عشر سنوات من التحولات الصعبة. عقد مليء بالوعود الكبيرة والمفاجآت التاريخية، كما بالصدمات والخيبات الشديدة. انعطافات حادة، وانقلاب أحوال، وكوارث هائلة متتالية، هي بحجم التطلعات والأحلام التي حركت شعوب المنطقة ومواطنيها.

هي أولاً سنوات الأفكار والعناوين والشعارات التي طالبت بالتغيير، فتحولت ثورات سلمية أو انتفاضات عنيفة وحروباً أهلية – إقليمية، وفوضى متمادية ومدمرة. لكنها بالإضافة إلى ذلك، هي زمن التحولات العمرانية والاقتصادية و”السوسيولوجية”، والدخول في عوالم شبكات “التواصل الاجتماعي”، ومظاهر لا حصر لها لمستجدات العولمة…

بمزيج من اليأس والعناد، نحاول أن “نفهم”، أن نقرأ ونقيم “مراجعة” شخصية، مع مثقفين لهم صلة حميمة ومؤثرة بالشأن العام، ولهم إسهامهم الواضح في صياغة “الرأي العام” ولغته.

انطلاقاً من حيواتهم الخاصة وسِيَرهم، ومن المكان اللبناني وخصوصيته، إلى مشهد منطقتنا عموماً، وسجالاً مع أسئلة الثقافة والأيديولوجيات والسياسة والأحداث “التاريخية”، التي شهدناها في السنوات الأخيرة، نحاور عدداً من الباحثين والمفكرين والكتّاب اللبنانيين.

هنا نص الحوار مع الباحث والمؤرخ وجيه كوثراني:

* منذ عشر سنوات تقاعدت من التعليم في الجامعة اللبنانية. وبطبيعة الحال، تزامن ذلك مع تقاعد الكثير من رعيلك، وهم أبرز المفكرين والباحثين والمؤرخين اللبنانيين وألمعهم. كأن الجامعة فجأة خسرت جيلاً استثنائياً. هل من جيل جديد جدير بالوراثة؟ ما الذي خسرته أنت في هذا التقاعد؟ التواصل مع الشباب مثلاً؟

ـ نعم، تقاعدت منذ عشر سنوات، في العام 2005، بعدما درّست في الجامعة اللبنانية ثلاثين سنة متواصلة. نصفها كان أزمنة حرب، ونصفها الثاني أزمات ما بعد الحرب. ولكن على الرغم من ذلك كله، لم تكن سنوات عجاف، بل بالعكس كانت سنوات بحث وإنتاج. ولعلها كانت أفضل سنوات العمر من حيث الدينامية والاكتساب والخبرة والتجدد والتجديد في الأفكار. تتحدث عن جيل من المتميزين. قيمة هذا الجيل أنه تفاعل مع واقعين أثريا خبرته وثقافته: من جهة، الواقع العربي القلق، لكن المتفائل بايديولوجياته التغييرية المتعددة، ومن جهة ثانية، حال هذا الجيل (ذاتياً) في علاقته بمصادر المعرفة الإنسانية والعالمية، ولا سيما في حقول علوم الإنسان والمجتمع والأدب والفن. أعتقد أن هذا الجيل جمع بين دورين: الباحث والمثقف، وبالنسبة لبعضهم (المثقف العضوي). أما حول علاقته بالجامعة، وبالجامعة اللبنانية تحديداً، فكانت الجامعة إطاراً مهنياً مساعداً على البحث الحر ولكن لم يتوفّر فيها ما يُسمى “الوسط العلمي” أو أجواء “التراكم العلمي” أو أدوات التواصل والتبادل أو مصادر التشجيع والتمويل. هذا كان حالي مع الجامعة اللبنانية، وأحسبه كان حال العديد من الزملاء (الأساتذة – الباحثين). باختصار كان إنتاجي العلمي يتم خارج أطر الجامعة اللبنانية، ويتم تداوله في جامعات أخرى عالمية وعربية وعبر مؤتمرات وندوات غالبها خارج لبنان. لذا يمكن أن أقول لم أخسر شيئاً بتقاعدي من هذه الزاوية (العلمية)، ربما صحيح أني خسرت بعض التواصل مع الشباب، لكن هذا كان يُعوّض ويُعوض الآن عبر الندوات والمؤتمرات التي أشارك فيها، وكذلك عبر كُتُبي ومنشوراتي حيث أصادف دائماً شباباً عرباً أصبحوا باحثين ومدرسين في جامعات عربية، ألتقيهم في ندوات، يُخبرونني أنهم “تتلمذوا” على كُتُبي أو استخدموها كمراجع في أطروحاتهم..

غير أني ما زلت أحب الجامعة اللبنانية وأحن إليها، رغم سيطرة الميليشيات عليها، بدءاً من العام 1984، ثم سيطرة سيستام الزبائنية السياسية على هياكلها الإدارية والأكاديمية. تصوّر أنه يجري تكريم أساتذة الجامعة اللبنانية، من قبل جامعات أخرى. كما حصل معي ومع الزميلين الصديقين ناصيف نصّار وأحمد بيضون، حيث كرّمتنا الجامعة الأنطونية في برنامجها السنوي: اسم علم.

* أنت اليوم أستاذ باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والمدير العلمي لإصدارات المركز. بما يتميز هذا المركز، المدعوم من قطر كما هو معروف، عن المؤسسات السابقة التي عملت فيها، المدعومة من دول عربية أخرى؟ ما الذي تغير في أدوار مراكز الأبحاث العربية؟ إلى أي حد هي قادرة على التأثير في “صناعة القرار” السياسي أو الحكومي هنا أو هناك؟ إلى أي مدى قادرة على التأثير في وجهة الثقافة ولغتها ومزاجها و”استراتيجيتها”؟

– أما لناحية عملي الآن في “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، وبما يتميز عن غيره من المؤسسات البحثية السابقة التي تعاطيت معها أو عملت فيها، فإنه لا بد من التذكير بأمريْن لا بد من أخذهما بعين الاعتبار للمساعدة على الجواب:

الأمر الأول: متى كان ذلك أي تاريخ المؤسسة وزمنها؟

والأمر الثاني: من يدير المؤسسة ويوجهها علمياً ويضمن استقلاليتها من جميع النواحي: الإدارية والفكرية والأكاديمية.

سأكون صريحاً في الجواب وفقاً لتجربتي الشخصية: بالنسبة لمعهد الانماء العربي، تعاطيت مع المعهد في صيغة إعداد ونشر كتابين: كتاب الاتجاهات الاجتماعية – السياسية (وهو أطروحة)… وكتاب بلاد الشام، وهو كتاب وثائقي يعتمد على الأرشيف الفرنسي غير المنشور. كان ذلك خلال سنوات 1976 و1980. وكان مطاع الصفدي مديراً له آنذاك. وأشهد أن هذا الرجل كان يحرص على استقلالية القرار وحماية المعهد من التدخل حتى من قبل المموّل. فلما حصلت محاولات التدخل، ترك الرجل – كما هو معروف – وتركت مع زملاء معروفين من الجيل الذي نشير له في سؤالك الأول.

بالنسبة لمركز دراسات الوحدة العربية، كان ولا يزال مديره الدائم خير الدين حسيب، عملت في المركز “كمدير دراسات” وتركّز عملي في الإشراف على تحكيم مخطوطات الكتب قبل نشرها، لاختيار الكتاب الصالح علمياً للنشر، وهنا أيضاً أشهد أن التحكيم العلمي كان مستقلاً، وكان يجري وفقاً لآلية أكاديمية بحتة بيني وبين المحكّمين، ولم يكن أحد يتدخل في هذه الآلية، بل كان المدير العام يحمي هذه الآلية ويضمن إجراءاتها. لقد عملت في هذا المركز حوالى سنتين ونيف 2008 – 2010، وحاولت خلالها أن أعطي الأولوية في الإصدارات لكتب العلوم الاجتماعية والإنسانية وذات الطابع الأكاديمي، وكان قد غلب على إصدارات المركز الطابع الايديولوجي، والايديولوجي القومي العربي على وجه الخصوص.

أما “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، حيث أشغل الآن وظيفة “مدير علمي للإصدارات”، فإن تجربتي في هذا المركز رافقت عملية التأسيس، ولا سيما تأسيس فرع لبنان الذي يتخصص بشكل أساسي في الإصدارات. وعملية الإصدار تشمل المراحل التالية: استقبال المخطوطات من المؤلفين والباحثين العرب، تحكيمها وفقاً لآلية أكاديمية، تحريرها وفقاً لأحدث عمليات التحرير ثم طباعتها ونشرها. هذا جزء من مهمات المركز ونشاطاته. ثم ان مهمات المقر الرئيسي (في الدوحة) تتسع لتشمل: إصدار خمس مجلات متخصصة، تنظيم أكثر من عشر ملتقيات فكرية في العام (ندوات ومؤتمرات)، تنظيم مسابقة جائزة عربية في موضوعات متعددة كل عام، يعقد حولها مؤتمر عالمي، إعداد المؤشر العربي، تأسيس معهد عالٍ للدراسات العليا (جامعة) وقد بدأ التدريس فيه هذا العام.

لا يتسع المجال في هذه المحاورة لتعداد النشاطات العلمية والتربوية والثقافية الواسعة النطاق. فهذه ميزة أولى تميز المركز العربي عن المراكز العربية الأخرى والعالمية: اتساع أفق النشاطات والفعاليات ونطاقها إلى حدٍ كبير، لا أحسبه موجوداً أو متوفراً في أي مركز عربي، أو عالمي.

وسبب هذه الميزة أيضاً ميزة مديره العام، عزمي بشارة، الذي أطلق هذه المشاريع الكبرى وعرف كيف يستقطب الكفاءات العربية المتعددة الاختصاصات والخبرات للقيام بها وتشغيلها بكفاءة عالية، ولا تنسى أن عزمي بشارة هو أكاديمي وباحث ولا يزال يبحث وينتج، وقبل أن يكون مديراً.

يشهد على هذه الميزة (دينامية العمل البحثي) النتائج والثمرات البيّنة التي نشهدها اليوم، بعد سنوات قليلة من التأسيس (4 سنوات). أكتفي هنا بالحديث عن الإصدارات: لقد استقبلت دائرة الإصدارات خلال هذه الأعوام حوالي 500 مخطوطة كتاب، أصدرنا منها حتى الآن وبعد التحكيم 150 كتاباً. موضوعاتها ومضامينها والمفاهيم والمناهج المتداخلة والمعايير والاختصاصات التي تقدمها في مجالات الفلسفة والعلوم الاجتماعية والإنسانية وحقولها النظرية والتطبيقية، تعبّر عن ميزة أخرى للمركز: نشر أهم وأرقى ما ينتجه الباحث العربي والأكاديمي العربي في العلوم الإنسانية والاجتماعية (فلسفة، تاريخ، علم اجتماع على اختلاف فروعه، اقتصاد، سياسة..)، ثم ان ترشيد هذا الإنتاج وتحسينه وتطويره يتم من خلال التحكيم العلمي وإبداء الملاحظات والإضافات على المؤلف الأصلي بمشاركة المؤلف نفسه.

لا تستهدف هذه الإصدارات ذات الطابع الأكاديمي الغالب التأثير بصناعة القرار السياسي أو الحكومي مباشرة. فالمركز ليس “Think Tank” على النموذج الأميركي، وان كان من جملة أقسامه وحدات للتحليل السياسي وموقع الكتروني لتحليل الأحداث والمواقف ومتابعة السياسات الإقليمية والدولية. إن التأثير هنا نسبي ويعود الأمر في ذلك إلى الحكّام العرب وطريقتهم في أخذ القرار، ومن المعروف – عربياً، أن حجم التأثير محدود جداً في ظل الضغوط والتأثيرات الدولية الغالبة.

أما بالنسبة لتأثير الإصدارات الأكاديمية، فأعتقد أن تأثيرها يتم في الأوساط الثقافية والفكرية وفي الأوساط الجامعية والبحثية وبصورة إيجابية وفاعلة، بدليل تفاعل الأقسام الأكاديمية في الجامعات العربية مع المركز تفاعلاً بيناً يتجلى في المشاركة الكثيفة في مؤتمرات المركز وندواته، وفي طلب النشر غير المنقطع والمتزايد سنةً بعد سنة (كتب وأطروحات دكتوراه ورسائل)، وفي الزمالات والمنح البحثية في دائرة البحوث. إن الأهداف هنا ترمي إلى أبعد من مرمى التأثير بالقرار الحكومي، ترمي إلى المساهمة الجادة في مشروع نهضوي عربي، رافعته الأساسية: التجديد والتطوير في البحث العلمي العربي في مجال الاجتماعيات والإنسانيات والسياسات. هذا رأسمال ثقافي، نضعه في حساب منتجي المعرفة، أي الباحثين العرب الجديين، الذين يؤول اليهم التقييم، تقييم هذا الدور.

* منذ عشر سنوات أيضاً، حدث تحول كبير في لبنان، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، واندلاع “انتفاضة الاستقلال” (حركة 14 آذار). كيف تنظر اليوم إلى تلك التجربة اللبنانية، التي يصفها البعض بمقدمة “الربيع العربي”؟ أم أنها “فرصة مهدورة” وحسب؟ وعلى ضوء نظرتك كمؤرخ، لماذا عادت سرديات الطوائف وانتصرت على “المراجعات” التي ظهرت في تلك الفترة؟

– نعم حدث تحوّل كبير في لبنان، وكان “لانتفاضة الاستقلال” (14 آذار) ايجابياتها، وأهمها إنهاء عهد الوصاية السورية، وتجلي جانب مهم من الوحدة الوطنية رائع وواعد. أقول “جانب” لأن جانباً آخر من التكوين الديموغرافي واللون السياسي اللبناني كان غائباً، وهو ليس بقليل، بل إن الدخول في مبارزات “التحشيد والحشود أحدثت شرخاً، بل عمّقت الشرخ بين أطراف طائفية وسياسية، في المجتمع اللبناني، وما لبث الشرخ أن ازداد عمقاً واتساعاً حول مسألة “المحكمة الدولية” حيث ارتكبت أخطاء في إدارة المسألة كما ارتكبت بالمقابل أخطاء أجسم في ردود الفعل عليها. وكادت تصبح العملية السياسية وربما أصبحت “لعبة كيدية” مسرحها التلاعب بالطوائف (كدمى) متحركة ومستعدة للدخول في حرب أهلية جديدة، لولا غياب القرار الإقليمي والدولي.

موضوعياً، لا أرى “انتفاضة الاستقلال” مقدمة “للربيع العربي”، رأيتها وأراها اليوم محطة تحوّل لم تُدَر جيداً أو لم يسمح لها أن تدار، بالاتجاه السليم والصحيح، أي بالاتجاه التوحيدي – الديموقراطي والمدني، وكانت تخلو تماماً من برامج التغيير والتحول الديموقراطي لإعادة بناء الدولة والمجتمع بعد عهد الوصاية، فقد جمع بين أطرافها معاداة النظام السوري ليس أكثر، لكن الطائفية السياسية التوافقية التي تقوم على توزيع الحصص في نظام سياسي زبائني، هي المتوافق عليها بينهم وبعد أن كانت الإدارة السورية هي التي تنظم هذه الزبائنية وتوزع الحصص بمعاييرها. بالمقابل، لا يختلف الفريق الآخر (8 آذار) عن هذه الطبيعة التكوينية. فكلهم في الطائفية والزبائنية “اخوة” و”رفاق” والدليل مواقفهم الواحدة من الحركات المطلبية والحراك المدني الأخير. هل هي فرصة مهدورة؟ ربما، لكن الأمر يحتاج إلى مزيد من الدراسة لمعرفة تناقضات أطراف “الانتفاضة” آنذاك، وماذا كان يريد كل فريق بعد الانسحاب السوري.

إن غياب البرنامج السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإنمائي والبيئي والثقافي والتعليمي، في مرحلةٍ حددت على أنها “مرحلة تحوّل” في تاريخ لبنان، يفسر (الغياب) حالة الفشل أو النكوص أو الانحراف، وربما الهدر. لا أدري أي مفردة “أنسب” للتعبير عن الحال، ربما كلها مناسبة، لأن المشكلة الأساسية تكمن في النزعة السلطوية عند الجميع. ولعل أنسب المفردات للتعبير عن هذا الحال هي التعابير السلطانية التراثية “التغلّب” و”الاستيلاء” و”الاستقواء”. وفي هذا الأمر كلهم سواء في “هوى السلطة” وبمعزلٍ عن أي برنامج محقق لمصالح الشعب وبصورة خاصة مصالح الطبقات الفقيرة والمتوسطة، والشروط المؤمنة لحقوق الإنسان والمواطن اللبناني. وفي هذا السياق من الطبيعي أن تعود سرديات الطوائف وخطاباتها، وأن تتقلص المراجعات النقدية والوطنية، فبرامج الطبقة السياسية اللبنانية التي تناوبت أمر الحكم بين حكم ومعارضة، أي بين 14 آذار و8 آذار، كانت رافعتها السياسة، وحقل عملها السياسي، الطائفة وتعبئتها وتحشيدها حول وهم أن الزعيم وحزبه وقوته هو الذي يحمي الطائفة ويُحصّل حقوقها ويمثلها في نظام سياسي طائفي، أهم ما فيه كعنصر ضامن للهيمنة الطائفية، وللطبقة السياسية الحاكمة، قانون الانتخاب وخطاب تأويلي وبراغماتي مفتوح لصيغة “الميثاق الوطني” ينفتح الاستخدام الوظائفي لهذه الصيغة على كل تأويلٍ طائفي يضيق ويتسع وفقاً لخطاب سياسي يومي.

* في هذا السياق، برزت “الشيعية السياسية”، خصوصاً بعد حرب تموز 2006، كقوة لا ندّ لها، متمثلة أساساً في “حزب الله”، كجهاز عسكري وأمني محترف، له سطوته على المجتمع والدولة. أنت ممن طرحوا إشكالية المواطنة والولاء عند الشيعة في كتابك المرجعي عن الفقه الشيعي وولاية الفقيه، كيف يمكن “مخاطبة” الشيعة اللبنانيين بغير الفولكلوريات الوطنية؟

– التشديد على السياق التاريخي لبروز “الشيعية السياسية كقوة لا ندّ لها” – كما تقول – هو مدخل منهجي مهم لفهم هذه الظاهرة من جميع وجوهها، فهي كظاهرة تاريخية جزء لا يتجزأ من إفرازات النظام السياسي الطائفي اللبناني، وكجزء أيضاً من سياساته العقيمة والتابعة للمحاور الإقليمية والدولية. لذلك فإن التعليق على هذه الملاحظة المتعلقة بظاهرة الشيعية السياسية في لبنان قد يتطلب توسعاً في العديد من العوامل الموضوعية المؤدية لها. أكتفي في هذه العجالة بالإشارة إلى العوامل التالية:

1- عجز الدولة التاريخي (لأسبابٍ جمة) أن تقوم بدورها كدولة وطنية حامية للوطن وللمواطنين طيلة عهودها، وأول مظاهر هذا العجز وأخطره، تسيب الأمن الوطني وانكشافه للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وأخطرها احتلال لبنان في العام 1982، وجنوبه بالتحديد.

2- كرّست الطبقة السياسية اللبنانية ولا سيما في سياق الحرب الأهلية وما بعدها نظاماً زبائنياً سياسياً، نقل وظيفة الطائفية من نطاق الخدمات الرعوية المناطقية (من رعية) إلى نطاق الادعاء “حماية الطائفة” والاستقواء بها وبالخارج الأمر الذي أدى إلى تعمق المخاوف والهواجس لدى الطوائف اللبنانية كافةً. وما مصطلح الإحباط الذي انتقل استخدامه من طائفة إلى أخرى إلا التعبير النفسي عن مأزق العلاقة بين الجماعات في أن تشكل مجتمعاً مدنياً وبالتالي مجتمعاً سياسياً.

3- ان الاحتلال الإسرائيلي للبنان في العام 1982، واجتياحه العاصمة بيروت، وفرض نفسه رقماً في المعادلة السياسية بين الطوائف، كان له دور كبير في اطلاق مقاومة وطنية ما لبثت بسبب تدخل عوامل إقليمية وخارجية (وبالدرجة الأولى سورية – إيرانية) أن أصبحت “مقاومة شيعية” بحته تمثلت في حزب الله وازدياد قوته سنة بعد سنة بدعم سوري – إيراني، ورضى لبناني ظاهري يقوم على نوع من التواطؤ الضمني الطوائفي بين سياسة إنماء متداخلة مع الحصص، وسياسة مقاومة “زهدت” ظاهرياً بالسلطة. ثم ما لبثت المقاومة بعد التحرير (انسحاب إسرائيل)، أن تحوّلت إلى جيش رسمت له (باسم المقاومة) أدوار إقليمية في المشرق العربي، الأبرز فيها دوران أو وظيفتان:

الأولى أن تكون “لحزب المقاومة” الكلمة الأولى في توزيع الحصص في النظام السياسي اللبناني (الطائفي – الزبائني).

الثانية: التحرر (باسم المقاومة) من الانتظام في منطق الدولة الوطنية ومن قواعدها وضوابطها الدستورية. الأمر الذي يسمح أيضاً بالاجتهادات المفتوحة لمعنى “المشاركة” والميثاق الوطني اللبناني وفقاً للمصلحة الآنية والمتغيرة (كالمعنى الذي أُعطى لاستقالة وزراء الشيعة من حكومة السنيورة).

4- عامل آخر لعب دوراً في بروز هذه “القوة” وتبريرها عند البعض، بروز السلفية السنيّة التكفيرية، وهذه الأخيرة صحيح أنها تعود بجذورها القريبة إلى خطابات الحرب العراقية – الإيرانية، ثم إلى الصراع السنّي – الشيعي على السلطة في العراق بعد الاحتلال الأميركي وحتى اليوم، وقبلها إلى دور الوهابية، إلا أنّ تحوّلها إلى ميليشيات عنف وتوحش في مسار الانحراف بالثورة السورية، وارتكاب منظماتها (داعش وغيرها) أبشع أنواع الجرائم الإرهابية في كل مكان، أعطى لحزب الله، “كجهاز عسكري وأمني” مشروعية ما في “التصدي” “للإرهاب” من زاوية الخطاب التبريري الموجّه لشيعة لبنان وللطوائف الأخرى غير الإسلامية، بل وللدولة أيضاً.

أعتقد أن هذه هي أهم العوامل التي ساعدت حزب الله أن يكون له – كما تقول – سطوته على المجتمع والدولة وليس فقط بعد حرب تموز 2006، وإنما جاء هذا في سياق لبناني – عربي – إقليمي ودولي متكامل الحلقات، فثمة غياب لمشروع لبناني ديمقراطي وطني جامع يُجمع عليه، وثمة غياب لمشروع عربي استراتيجي توحيدي أو تضامني دائم. أما التدخل الأجنبي وبسبب صراعاته ومنافساته فكان ولا يزال مسيئاً للحلول الممكنة ومثيراً للتناقضات الداخلية ولاعباً سلبياً تكتيكياً فيها.. بقيت الاستراتيجية الإيرانية ودبلوماسيتها عارفة لما تريد، ولما تخطط، ولما يُعين لجيش حزب الله من أدوارٍ في لبنان وفي المنطقة.

صحيح أن الشيعية السياسية كانت في جزء من تكوينها في رحم النظام السياسي اللبناني الطائفي – كأختها الأولى والكبرى “المارونية السياسية”، وإنما تجاوزتها هذه المرة. وفي هذا السياق الذي تحدثنا عنه، تجاوزتها في القوة، وفي الانفلات من منطق الدولة. وفي تكون ظاهرة جديدة في التشكل الطائفي، ألا وهي الانغلاق الطائفي وحصرية الاختيار في الرئاسات الثلاث وفي التوظيف. وأعني أنه منذ العام 2006، أصبحت دعوة من هو الأقوى في الطائفة هي المعوّل عليها، فأمسينا أمام تحوّل في طبيعة الطائفية اللبنانية من الطائفية الرخوة المنفتحة (قديماً) إلى الطائفية الصلبة المنغلقة اليوم. ولذا فإن طرح إشكالية المواطنة والولاء في كتابي “فقه الإصلاح الشيعي وولاية الفقيه” وفي كتاباتي الأخرى، ليست موجّهة إلى الشيعة اللبنانيين فقط، بل إلى كل الطوائف اللبنانية التي تبحث عن تمثيلها في من يدّعي حمايتها، سواء كانوا سنّة أو شيعة أو موارنة أو دروزاً، ان ما سميته “فلكلوريات وطنية” كأسلوب مخاطبة، يجب أن يتغير حيال كل الطوائف اللبنانية، ليصبح أسلوب المخاطبة أسلوب أهداف وبرامج عمل، وأدوات عمل للتغيير والإصلاح، من خارج منطق الطبقة السياسية اللبنانية وخطابها التقليدي عن “الوحدة الوطنية”.

* نشهد اليوم تفككاً واسعاً لـ”الدولة الوطنية”، خصوصاً في المشرق العربي. هل مرد ذلك حسب عنوان كتاب لك “هويّات فائضة.. مواطنة منقوصة”؟ أم أنها حسب عنوان كتاب آخر لك ” أزمة الانتقال من الاجتماع السلطانيّ إلى الاجتماع الوطنيّ”؟ وإذا كان فشل مشروع “الدولة الوطنية” مديد وتاريخي، ما هو المستجد برأيك الذي جعل الفشل انفجارياً إلى هذا الحد؟

– الحقيقة أن الكتابين المذكورين: “أزمة الانتقال من الاجتماع السلطاني إلى الاجتماع الوطني” (1995) وكتاب “هويات فائضة.. مواطنة منقوصة” (2001) يكمل الواحد الآخر، فإنتاجهما تم في سنوات متقاربة، أي خلال عقد هو آخر سنوات القرن العشرين، الذي وصفته في كتاب “الذاكرة والتاريخ” بالقرن الطويل على عكس ما ذهب إليه المؤرخ العالمي الكبير هوبزباوم حين وصف القرن العشرين “بالقرن الوجيز” جاعلاً الحد الأول الثورة البلشفية، والحد الأخير انهيار الاتحاد السوفيتي. إن ما دفعني إلى وصف القرن العشرين بالطويل، هو قياس زمن النهضة العربية في امتداد أفكارها النهضوية لا سيما حول مفهوم الدولة/الوطن وآليات بنائها منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر (بداية الوعي الدستوري) وحتى مطالع القرن الحادي والعشرين حيث بانت مآلات المأزق أو الأزمة من خلال ظهور ما سميته “فائض الهوية” بالتناسب العكسي مع نقص في المواطنة. فبدا أن “مشروع الدولة الوطنية” فشل، والحقيقة التاريخية أو المعطى التاريخي الذي أرادت التشديد عليه ليس فشل المشروع بحد ذاته أو عدم صلاحيته للشعوب العربية، وإنما انحراف الأفكار النهضوية عن مسارها الدستوري التاريخي الذي كان ممكناً في النصف الأول من القرن العشرين، لقد بدأ هذا الانحراف مع الانقلابات العسكرية بعد احتلال فلسطين وتكون الدولة العربية السلطوية بايديولوجيتها الأحادية وحزبها الواحد، وزعيمها الأوحد، وتشكل أنظمتها الزبائنية المجزئة للمجتمعات حيث تتحوّل الطوائف أو القبائل إلى “وحدات سياسية”، أو شبه أحزاب موالية أو ممانعة… وكل هذا مشاريع تحضيرية لحروب أهلية مدمّرة للمجتمع وللدولة نفسها الذي بنته على هذه الشاكلة..

أما عن المستجد، الذي جعل الحالة المأزومة أو المأزقية انفجاراً، فيتوزع على العديد من العوامل التي تستحق دراسةً بمنهج تكاملي وتداخلي وعابر للاختصاصات:

– انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان حاضناً أو نموذجاً للأنظمة السلطوية.

– العولمة الكاشفة والمعرّيه للتناقضات والمستفزة للهويات، ومن معالمها وتجلياتها التدخل العسكري أو الغزوات العسكرية الأميركية لأفغانستان والعراق، بحجة “جلب الديمقراطية” لها عنوةً، بعد أن كانت السياسة الأميركية طوال عهودها تزرع الديكتاتوريات في العالم وترعاها.

– عدم قدرة الزعامات المحلية الحاكمة وأحزابها الفئوية وأنظمتها الزبائنية وقواها الاجتماعية التكيف مع ضغطين متباينين: من جهة ضغط العولمة ومؤسساتها الثقافية والاقتصادية، وضغط الحركات المطلبية المحلية الرافضة للتجهيل والفقر والتهميش والاستبداد.

* من خصومتك لأيديولوجيا اليمين اللبناني، إلى نقدك لليسار اللبناني والعربي، عدا عن ابتعادك عن الأيديولوجيا القومية والبعثية، وعدم صلتك بما يسمى “الممانعة”.. أين تجد نفسك؟ أو بالأحرى أين نجد أنفسنا؟ أين أنت الآن، خصوصاً وأنك ممن خاض تجربة “إسلام ثوري” (إذا صح  التعبير). مثلاً، هل تعني لك الليبرالية شيئاً؟ هل تنحاز إلى صفة “الديموقراطي”؟

– ما وصفته في مساري الفكري والبحثي في الشق الأول من السؤال صحيح تماماً. وترجمت ذلك في سلسلة كتبي الصادرة منذ العام 1976 (الاتجاهات) إلى كتبي التي صدرت مطالع القرن الحادي والعشرين مروراً بكتاب “الفقيه والسلطان” الذي ساعدني كثيراً في بلورة منهجي وموقفي من العديد من القضايا الإشكالية في الحاضر: الدولة والدين، الإسلام السياسي، العلمنة.. والحقيقة أني لا أجد نفسي خارج هذا التاريخ. في مقالة نشرت في كتاب “أزمة الانتقال من الاجتماع السلطاني إلى الاجتماع الوطني” عنوانها: “أزمنة النهوض العربي وأزماته”، قرأت تاريخياً ثلاثة أزمنة متميزة ولكن متداخلة، زمن الإصلاحية الإسلامية المتصالحة مع الليبرالية، والزمن القومي واليساري، والزمن الإسلامي، وكلها كانت منقوصة ومأزومة، فاستشرفت زمناً رابعاً نقدياً وتوليفياً متوقعاً: زمن التوليف ما بين الهوية الجامعة، والعدالة الاجتماعية، والليبرالية الديموقراطية التي تعني الشيء الكثير على طريق الخلاص من الدكتاتوريات والفساد.

أما عن “خوضي – كما تقول – تجربة إسلام ثوري”، فأعتقد أن هذا التوصيف ليس دقيقاً، ويحتاج إلى توضيح وتعديل في المصطلح.

إذا كان المقصود “بالإسلام الثوري”، المقاومة الإسلامية ضد إسرائيل، فأنا طبعاً مؤيد لها وداعم، وإذا كان المقصود تأييد الثورة الإسلامية في إيران حين قيامها، فأنا كنت معها ضد نظام الشاه، فلما انحرفت الثورة انتقلت إلى موقف النقد باكراً، كذلك نقد حزب الله (فكرياً وايديولوجياً وسياسياً) ان ما يحتاج إلى توضيح، أني كنت ولا أزال مؤيداً ومتابعاً لمدارس الإصلاح الديني في الإسلام، عند الشيعة كما عند السنّة، وأعتبر أن “الإصلاح الديني” مرحلة أساسية وضرورية لأنماط التدين المقبول ولأنماط من العلمنة المرنة في المجتمعات الإسلامية. هذا ما دعوت إليه في مقدمة كتابي “الفقيه والسلطان” (حاجة المجتمعات الإسلامية إلى العلمنة) وأنصح اليوم بقراءة كتاب عزمي بشارة ذي المجلدات الثلاث “الدين والعلمانية في سياق تاريخي” حيث يتوسع المؤلف وبعمق ويؤرخ للمفاهيم وللسياقات وللنظريات والتجارب التاريخية التي مرّت بها عملية العلمنة حتى استقرت “مفهوماً”.

* لا شك في متابعتك للثورات العربية، كمواطن عربي أولاً وكباحث وكمؤرخ. هل تابعت عن كثب ما حدث في مصر وتونس، وما يحدث في اليمن وليبيا، وربما الأهم بينها هو القضية السورية؟ في كل الأحوال، هل حقاً لن نحصد سوى الكوارث من كل ما جرى؟ الدولة الوطنية في العالم العربي انهارت، الإسلام بوجهيه السياسي والفقهي مأزوم، الفكرة القومية تحطمت. ما رأيك بالنموذج التونسي؟ ما الذي تعنيه الفوضى الليبية؟ عودة مصر إلى حكم القائد العسكري؟ انهيار العراق؟ النكبة السورية؟ الفشل اللبناني المديد؟ حرب اليمن؟

– طبعاً تابعت الثورات العربية من خلال الخبر الإعلامي، ولكن أيضاً – من خلال الاطلاع على دراسات علمية متخصصة تناولت الثورات العربية، بتحليل خلفياتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ومساراتها المعقدة وأهدافها والقوى الاجتماعية التي قامت عليها والنخب الفكرية والسياسية والأحزاب التي واكبتها. وتجدر الإشارة أن “المركز العربي” أصدر حتى الآن، ومنذ البدايات، حوالي عشرين كتاباً، جرى تأليف معظمها من خلال فرق بحثية أكاديمية، تناول باحثوها موضوعات الثورة من جميع نواحيها، الأسباب والمسارات والنتائج، ونقاط القوة ونقاط الضعف، وأسباب التحولات والانحرافات الكامنة في طبيعة المجتمعات وتكويناتها أو التي سببتها التدخلات الأجنبية، ومواقف النخب على اختلاف ايديولوجياتها ومواقعها السياسية، ودور الأحزاب والنقابات، ودور القبائل والطوائف والجماعات الأهلية. وأحدث هذه الإصدارات: كتاب: أطوار التاريخ الانتقالي: مآل الثورات العربية (مجموعة مؤلفين). وتجدر الإشارة أيضاً إلى كتب عزمي بشارة الذي أرّخ لثورات ثلاث، تأريخاً وثائقياً دقيقاً:

– الثورة التونسية المجيدة: بنية ثورة وصيرورتها من خلال يومياتها.

– سورية: درب الآلام نحو الحرية، محاولة في التاريخ الراهن.

– ثورة مصر (يصدر قريباً)

ما أود الوصول إليه من هذا الاستطراد أن اتخاذ موقف أو إبداء رأي ليست مسألة سهلة أو بسيطة، يُعبّر عنها بتعليق أو تصريح، وكما يفعل بعض من يسمي نفسه في الاعلام معلقاً أو محللاً سياسياً أو خطيب منابر يستعجل الوصول إلى نتائج مرضية إذا كان متحمساً للثورة، أو نتائج كارثية إذا كان خصماً أو معادياً لها. لقد علّمتنا المعرفة التاريخية وخبرة من كتب عن تاريخ الثورات العالمية وحلّل سيكولوجية الجماعات والجماهير في مسار الثورات وتداعياتها، وانعطافاتها وأماكن اندفاعها أو تعثرها أن زمن معايشة الثورات ومعاصرتها، كامتداد زمني للحدث يطول أو يقصر، هو غير زمن مآل النتائج وتقييمها والذي قد يبتعد عقوداً عن زمن “الانفجار” وارتداداته المتعاقبة وصولاً إلى تراكم تاريخي بطيء فيه هبوط وفيه صعود، أي فيه انتكاسة وتراجع وفيه تقدّم وتحوّل. لا شك أن بعض من عاصر زمن انتكاسة الثورة الفرنسية (عودة الملكية)، بعد أمل وتفاؤل، رأى في ذلك نتائج كارثية أو غير حميدة ولا تنسجم مع الآمال المعلقة. كما أن من يُتابع الإنجازات التي حسبت على الثورة من قانون نابليون في العهد الامبراطوري (غير الديموقراطي) إلى قيام الجمهورية الثالثة 1875 إلى إعلان القوانين العلمانية في العام 1905، أي بعد أكثر من قرن على قيام الثورة، يدرك أن التأريخ للثورات العربية المعاصرة يبدأ ولكن مع تحفظ شديد على المسار القادم والنتائج، وان الثورات المضادة حتمية وان العثرات والانتكاسات لا بد أن تقوم حتمياً أو بافتعال.

الأمثلة التي تعطيها تحتاج إلى دراسات معمقة، وليس إلى صياغة مواقف متسرّعة وتوصيفات درامية ومأساوية تصلح لمسرحيات دراما، وليس لتاريخٍ يُصنع أو هو قيد التشكل والتكوّن..

مجتمعاتنا العربية التي تعدد أمثلتها في السؤال المطروح عن الثورات في كل من مصر واليمن وليبيا وسورية وتونس، ليست مجتمعات مدنية مئة في المئة، وليست على درجة من التجانس الثقافي – السياسي المؤهل لتحوّل ديمقراطي سلمي. إنها مجتمعات متعددة ومركبة من حداثة وتقليد، من علمنة وتدين، من مجتمع مدني ومجتمع أهلي (أي طوائفي وقبائلي)، تحكمها نخب وطبقات تختلف في درجة استبدادها وأجهزتها الأمنية والعسكرية ومدى تسييسها وقربها أو بعدها عن الحكم، كما تختلف في اقتصادياتها ورجال أعمالها وسياساتهم الإنمائية، بل وتختلف أيضاً في درجة الثقافة والعلم ومستوى التعليم في المدرسة والجامعة ومدى اتساعه وتأثيره التنويري في المجتمع.

كل هذا وغيره يجب أخذه بعين الاعتبار حين تقييم كل حالة. ولذا يجب الحذر من التعميم والقول أننا لا نحصد إلا الكوارث من جرّاء هذه الثورات. إن الثورات العربية في رأيي عرّت الأجساد العربية وساعدت على إفراز ما هو فاسد ونتن في هذه الأجساد، وتبين أن بؤرة هذا الفساد وجرثومته، كانت الأنظمة العربية المستبدة أولاً، وكانت ثانياً ما يختزنه هذا الجسد من استعداد لتوليد مضاعفات، تمثل أخطرها بنشوء المنظمات السلفية التكفيرية والإرهابية. وهذه الأخيرة هي طفيليات متوحشة نمت في بيئة الاستبداد وبيئة التناقضات العربية – العربية والعربية – الإيرانية، وبيئة التناقضات الدولية، وتغذت من صراعاتها وتكتيكاتها وخططها الاستخبارية الجهنمية وليس من الثقافة الإسلامية كما يُروّج.

لا أوافق على القول بالانهيار الكامل للدولة الوطنية، بل هي قابلة للترميم وإعادة البناء حيث حصل الانهيار، والفكرة القومية لم تتحطم بل تحوّلت من نصاب الايديولوجيا السياسية الدمجية إلى نصاب التضامن أو الاتحاد والتنسيق السياسي والاقتصادي والثقافي، بل ان وحدة الثقافة العربية تعمقت وتبلورت على مستوى المثقفين العرب والكتّاب والباحثين والجامعات العربية عموماً.

أما حول مأزم الإسلام بوجهيه السياسي والفقهي، فهي مسألة اشكالية معرفية، ذلك أن الدراسات المعمقة حولها تراكمت، وفي حدود معرفتي المحدودة، ثمة مقاربات ومعالجات جريئة لها صدرت في العالمين العربي والإسلامي، وكذلك في الأكاديميات الغربية. كذلك فإن المأزم لا يجوز تعيينه في نزعة التدين أو أنماط التدين الشعبي في المجتمعات العربية، إن المأزم الحقيقي يكمن في طبيعة النخب العربية المتطلعة نحو تسلم السلطة. والتجربة المصرية أنموذج واضح عن هذا المأزم. كان يمكن لحكم الاخوان المسلمين أن يتحوّل ديمقراطياً لاحقاً (ما بعد الاخوان) لو تركت اللعبة الديمقراطية الشرعية تأخذ مجراها، ولو أن العلمانيين (أو بالأحرى العلمانويين)، واليساريين والقوميين لم يتحالفوا مع لعبة العسكر الانقلابية. إن كسر عملية التحوّل الديموقراطي في مصر والتي كانت تجري (مع الصعوبات والأخطاء) كان كارثياً. وشكّل هذا ارتداداً وثورة مضادة فعلاً. ويبدو لي أن التونسيين علمانيين وقوميين وإسلاميين (النهضة) أخذوا درساً من التجربة المصرية، فلم يكرروا الخطأ، فتوصلوا إلى وفاق وائتلاف أنتج دستوراً ضامناً للمكاسب (مكاسب المرأة مثلاً) وضامناً للحريات المدنية والسياسية وقواعد الدولة المدنية. ولعل هذا أول الغيث، كانت الثورة التونسية البداية والقادح، ولعل تجربتها في التحول الديمقراطي تكون المنطلق أيضاً لتحوّل إيجابي في العمل السياسي الوطني العربي

* في مقابل كوارث “الربيع العربي”، هناك من يطرح فكرة “الثورات الصغيرة”، ثورة بالتقسيط، ثورات مطلبية، احتجاجات موضعية بعناوين محددة: البيئة، الفساد، التعليم، محاربة البطالة، الحركات النسوية، الإصلاح القضائي، ..إلخ، هل هذا ممكن وعملي وأجدى؟ هل بشائرها هي الحراك اللبناني الأخير؟

– أودّ أن أذكّر هنا أن هذه التحركات التي تدعوها بـ”الثورات الصغيرة”، أو الثورة بالتقسيط، كانت دائماً مقدمات للثورة العامة والشاملة، فإذا نظرت إلى تاريخ ما قبل الثورة التونسية وما قبل الثورة المصرية، لوجدت تحركات متواترة من هذا القبيل، انتفاضات وتحركات مطلبية قطاعية، كالتي تُعدد نماذجها في سؤالك (بطالة، أجور، بيئة…)، هذه التحركات تراكمت فوصلت إلى حد الانفجار. كذلك فإن تحركات ما بعد الثورات، هي أيضاً من تداعيات فشل الفئات التي وصلت إلى السلطة، استغلالاً للثورة، أو مكافأة شعبية لما عانته هذه القوى السياسية من جراء قمع النظام القديم لها، (الاخوان في مصر والنهضة في تونس مثلاً). السؤال: هل هذه التحركات الصغيرة والجزئية هي بدائل وقادرة فعلاً على إحداث التغيير والإصلاح الذي تطالب به؟ أنا لا أرجح نجاعة هذه الفرضية على الرغم من أهمية هذه التحركات كمقدمات وكمسار يبلور المطالب والبرامج والخطط والاستراتيجيات. غالباً ما تتسلم السلطة (سلطة الثورة أو ما بعد الثورة) قوى سياسية كبرى هي أحزاب سياسية أو منظمات نقابية أو مدنية فاعلة، لديها برامجها أو انها قادرة على صياغة برامج شاملة وحدها، أو بالتحالف مع قوى أخرى (وهذا ما حدث في تونس). أما بالنسبة للتجربة المصرية، فإن شباب ميدان التحرير، الذين لم يجمعهم أي إطار تنظيمي، إلا وسائل الاتصال الرقمية (الفيس بوك وغيرها)، فلم يستطيعوا أن يشكلوا قوة سياسية مستقلة أو ضاغطة، فعندما ابتدأت العملية السياسية، انحصر قطباها بين الاخوان والجيش. فلما وقع الاخوان في نزعة الاستئثار، أو أوقعوا بها، كانت النزعة العسكرية – السياسية في الجيش تهيء نفسها للانقضاض مستغلة مخاوف العلمانيين واليساريين من الإسلام السياسي.

خلاصة رأيي أنه لا بد من تأطير التحركات الصغيرة في أحزاب سياسية قادرة على القيادة والتعبئة والتنظيم وتقديم برامج عمل. وهذه الحلقة كانت دائماً في التاريخ العربي المعاصر، الحلقة الضعيفة، ومقتل العمل السياسي العربي، وحاجز الإعاقة أمام التحوّل الديمقراطي. لقد عرفت أنظمة الاستبداد والأحزاب الشمولية الحاكمة كيف تديم سلطتها من خلال إلغاء الأحزاب أو تدجينها في أطرٍ من السياسات القمعية والزبائنية. وهذا ما أوقع المجتمعات العربية في فراغات سياسية ملأتها الطائفيات والقبائليات (أي تسيّس الطوائف والقبائل)، كبدائل مَرَضية من الأحزاب السياسية – وهذه هي حالات سورية وليبيا واليمن (على وجه التخصيص).

أما حالة لبنان فرغم تشاركها في العديد من الصفات حالات عربية، فإن لها خصوصياتها أيضاً وتعقيداتها الأكثر تركيباً. ومرد هذا قدرة النظام السياسي الطائفي في لبنان أن يلغي أو يحرف أو يشوه أي حركة مطلبية نظيفة أو أي تحرك ديمقراطي مدني.

* في الحراك اللبناني أيضاً: معظم النخبة الثقافية انتقلت من الحماسة إلى الحذر إلى النقد، ثم إلى الاختلاف وربما الإحباط. هل هي مسألة سوء تفاهم بين الأجيال؟ هل هي مسألة الغموض السياسي أو حتى التناقضات السياسية بين جماعات الحراك؟

– مرة أخرى أذكّر بقدرة النظام السياسي الطائفي اللبناني على إعادة إنتاج نفسه، في معظم مراحل تاريخ لبنان المعاصر، وتاريخ المنطقة العربية المحيطة والمؤثرة به.

كثيرة هي الدراسات التي تناولت هذا الموضوع، من زاوية تبيان مساوئه ولا عدالته ولا مساواته بين المواطنين، ولكن قليلة هي الدراسات التي ربطت ما بين الطائفية السياسية وسستام الزبائنية الذي يؤمن لها شروط حياتها واستمراريتها لا كايديولوجيا داخلية فحسب، بل كسستام اشتغال في بنية هي أشبه بخلية قابلة للحياة وتجديد نفسها في بيئة عالمية وعربية وإقليمية مساعدة. لذلك فإن ما ندعوه اليوم “الحراك المدني” في لبنان، والذي يتمثل بتحركات مدنية ناشطة ومخلصة ومن طرف شباب متعلم وواع ومتفانٍ للعمل العام، هو من دون شك “بشائر” واعدة بالخروج من سجن هذه البنية الطائفية على المدى البعيد، رغم ما نلاحظه من خلافات ما بين أطرها التي تحمل أسماءً هي في حقيقتها صفات مشتركة لنقد ممثلي النظام اللبناني وما يمثله: من طلعت ريحتكم إلى بدنا نحاسب…

لا أعتقد أن مشكلة هذه التشكيلات الشبابية هي في خلافاتها السياسية الذاتية، بل انها تقع في حيز ما تُركّز عليه من مطالب وتصويبات، وهو حيز يراوح بين مطلب صغير ومستحيل رغم صغره (استقالة وزير مثلاً)، وبين مطلب كبير كبير جداً (وهو مستحيل لكبره: إسقاط النظام).. هل هذه خلافات سياسية؟ أم هي نتاج غياب المعرفة: كيف يشتغل النظام السياسي الطائفي – الزبائني، وبغض النظر عن الخلافات ما بين أقطابه وهم من طينة واحدة ومنهج واحد في العمل السياسي. فما معنى المطالبة باستقالة وزير (وهو جزء من كتلة وطائفة ومعين من قبلها وممثل لها)؟ وما معنى إسقاط النظام، وكل الأحزاب الحاكمة في لبنان والتي تحشد مئات الآلاف في مهرجاناتها، لاستعراض قوتها الشعبية وقوة تمثيلها للجماهير المستلبة، هي أحزاب طائفية مغلقة، لا تكتفي بالتفرّج على الحراك المدني – الشبابي، بل تتآمر عليه لتجهضه وتنهيه. لذا فإن نقد بعض المثقفين من ذوي المعرفة والخبرة، لبعض أوجه الحراك القائم اليوم، يجب ألا يعتبر نقداً سلبياً، بل نقداً إيجابياً للتصحيح والتصويب السليم.

ربما هناك “سوء تفاهم بين الأجيال” في درجة الحماسة والإقدام والدينامية بين جيل الأحزاب (اليسارية التقليدية) إذا جاز التعبير، وبين جيل الشباب (شباب الحراك المدني)، لكن يجب ألا يتحول “سوء التفاهم هذا” إلى تشكيك وتخطيء من طرف “الشيوخ” أو إلى إحباطٍ عند هؤلاء أو أولئك. أما النقد فينبغي أن يتوجه إلى بلورة برامج مطلبية، وطرائق عمل وخطط.. وكما قلت لا بد من أن يؤول التحرك إلى أطر تنسيقية أشمل، تمهيداً لظهور أحزاب غير طائفية في لبنان، مدنية وعلمانية (شرط عقلنة العلمنة في مجتمعات متدينة).

* هل يمكنك تخيل نفسك، بعد عشر سنوات، كيف ستؤرخ و”تقرأ” راهن هذه الأيام؟

– لم يعد علم التاريخ علماً وضعانياً وكما كان حاله في القرن التاسع عشر أو في منظور المدرسة الوضعانية التقليدية التي استمرت ظلالها وتأثيراتها على امتداد القرن العشرين، حيث تتطلب هذه المدرسة استحضار الوثائق الأصلية، وانتظار عقود حتى “يبرد” الحدث وتنكشف مصادره في الأرشيفات والمذكرات. لقد استعيدت منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، فكرة التأريخ للحدث القائم (انهيار الاتحاد السوفياتي مثلاً) ونظرية “التاريخ الراهن” أو “المباشر” من منظور “علم الاجتماع التاريخي” و”الانثروبولوجيا التاريخية” ومع تداخل علم السياسة والاعلام، ذلك أن العصر الراهن أضحى عصر المعلومات بامتياز. فالإشكال المعرفي أضحى اليوم اشكال ضخامة المعلومات واتساعها غير المحدود وليس اشكال “قلة الوثائق وندرتها” كما كان الحال في التأريخ الكلاسيكي للحدث. لذلك وفي خضم هذه الأحداث الكبرى في المجتمعات العربية، فإن التاريخ لها (اليوم) أو بعد عشر سنوات – كما يفترض السؤال – يبقى نوعاً من “قراءة” وليس تأريخاً لها بالمعنى الوضعي – العلموي. ولأن المعلومات والمعطيات هائلة ويصعب أن تنحصر في إدراك فرد، فإن الخيارات ستبقى انتقائية وذاتية (على صعيديْ الموضوع والمصادر)، ولكنها تكتسب “موضوعيتها” أو علميتها، من المنهج والمفهوم وأسلوب التفكير وطريقة التحليل والتركيب. شخصياً، يغلب على عملي الآن، وفي علاقتي المعرفية بأحداث اليوم – القراءة والكتابة الجزئية وليس الكتابة بصيغة البحث أو التأليف التكاملي حول موضوع محدد. يصعب عليّ تخيل نفسي مؤرخاً للأحداث أو لبعضها بعد عشر سنوات. إذ يستحيل على الإنسان وقد تجاوز السبعين أن يعرف ماذا ينتظره وما يخبئ له القدر. لكني أتوقع أن تكون السنوات العشر القادمة سنوات الحل أو التصفية لما خلفته آثار الانفجارات من مآسٍ وجروح، وستكون للمؤرخ القادم حقلاً للبحث في اشكالية محورية ومركزية في التأريخ للثورات والتحوّلات في التاريخ العربي المعاصر، الا وهي اشكالية الانحراف في أهداف الثورات من مضمونها وأفقها المدني الديمقراطي إلى حروب أهلية تنتج – ككل حروب أهلية – أحقر ما في قعر المجتمعات الأهلية من عنف وتوحش وغرائز عدوانية، وقد تكون أبرز أمثولاتها للدرس: براميل النظام السوري القاتلة وسكاكين داعش وأحزمتها الناسفة للأبرياء من البشر. لكن دماء الأحرار والثوار الحقيقيين وعذابات الشعوب وآمالهم في العدل والكرامة، سيكتبها – من دون شك – شعراء وفنانون وأدباء هم أقدر من المؤرخين على التعبير عن حقيقة “الأشياء الإنسانية” العميقة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى