صفحات الثقافة

وداعا ديريك والكوت

ديريك ولكوت: غناء الماضي وملحمة الحاضر/ صبحي حديدي

كان الشاعر الكاريبي ديريك ولكوت (1930 ـ 2017)، الذي غادر عالمنا قبل أيام، ثالث ثلاثة شعراء كبار، أبدعوا في اللغة الإنكليزية دون أن يحملوا الجنسية البريطانية: الإيرلندي شيموس هيني (1939 ـ 2013)، والروسي جوزيف برودسكي (1940 ـ 1996). لكنّ ولكوت كان، ويظلّ، في يقيني الشخصي، الشاعر الأكبر بين الثلاثة؛ وغير بعيد عن أن يكون أعظم شاعر كتب باللغة الإنكليزية، خلال العقود الخمسة الأخيرة.

ولد ولكوت في جزيرة سانتا لوشيا، وتفتّح وعيه على التراث الأدبي الإنكليزي، فقرأ جوزيف كونراد، و. ب. ييتس، جيمس جويس، إزرا باوند، ت. س. إليوت، وديلان توماس. لكنه، ومثل جميع أبناء الكاريبي، قرأ بالفرنسية أشعار أرتور رامبو وسان جون ـ بيرس، وبالإسبانية بابلو نيرودا وسيزار فاييخو. ولقد توجّب أن يطرح سؤالاً كبيراً، وأن يجيب عليه بنفسه: هل يعاني الكاتب الكاريبي من حصار ثقافي يفقده حصانته؟ ولكن، ألم تكن هذه حال ييتس وجويس، وبرهن الكاتبان الكبيران أنّ الثقافة الاستعمارية غير قادرة على منع ولادة أدب وطني رفيع؟

والحال أنّ عشرات الأسباب تجمعت، وتكاملت، لتجعل من ولكوت ذلك الشاعر الكبير الفذّ: الجمع بين التعقيد الحداثي والوضوح البسيط، في تسخير غنائيات الماضي وملاحم الحاضر؛ وترتيب الشكل وتقطيع القصيدة إلى وحدات درامية متوازنة، ساعده في إنجازها ذلك المراس الطويل في الكتابة المسرحية؛ والإحساس بالشكل العضوي في القصيدة (على نحو ذكّر، كثيراً، بالشاعر البريطاني كولردج)؛ والغريزة العروضية التي وضعته في موقع مدهش بين جون ملتون وجون كيتس، أو بين و. هـ. أودن وهربرت سبنسر؛ والعمارة المجازية التي دمجت المحسوس بالمجرّد، والفلسفي بالعاميّ، والرمزي بالتصويري؛ والموضوعات التي حشدت أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، بأساطيرها وأغنياتها وإيقاعاتها وحكاياتها وتواريخها؛ إلى جانب هذه اللغة الإنكليزية ـ الكاريبية الفريدة التي استكشف دررها لا كما فعل شاعر إنكليزي على قيد الحياة.

وفي مجموعته الشعرية «باونتي»، وكانت الأولى بعد فوزه بجائزة نوبل للآداب عام 1992، دشّن ولكوت طوراً شعرياً جديداً، كان بمثابة حصيلة مَزْجية مركّبة استجمعت معظم أساليب الماضي على نحو خلاّق، نجح في تفادي التكرار وإعادة الإنتاج. ولقد اقترح، في تلك المجموعة الفارقة، خلاصة مركّزة لعقود طويلة من المراس الراسخ في الكتابة الشعرية.

وأكثر من أي وقت مضى، بات القارئ أمام المزيد من نماذج معادلات ولكوت في عدم التفريق بين اللغة «الشعرية» واللغة «اليومية»، من جهة؛ وعدم الهبوط بالشعر إلى مستوى «العادي»، من جهة ثانية. ومن جديد، تظهرت أكثر صورة ولكوت القياسي، إذا صحّ القول؛ أي ذاك الذي لا يبدو قادراً على رؤية الأشياء أو الإحساس بها، بمعزل عن تصويرها في مجازات كثيفة غير منتظَرة؛ وذاك الذي لا يساوم البتة حول استراتيجيته الأثيرة، في تغريب اللغة بعيداً عن أية شفافية تصريحية، وفي زجّها ـ وبالتالي زجّ القارئ والدارس ـ في أغوار سحيقة مدهشة من التجسيدات الاستعارية.

وهذه تجسيدات ظلت تتشكّل بطرائق متعددة القرائن، حتى صار من الصعب ردّها إلى أصولها الدلالية، أو تحديد طرفها اللغوي المألوف، تمهيداً لتحديد أطرافها المجازية: لزهور المارغريت كورس مؤلّف من أعواد قصب مجنّحة، وحوافّ أوراق الدفلى تخشخش مثل خناجر خضراء، وأزهار بيضاء تنشقّ عن أغصان نابتة في رأس ثور، وأبيات شعر أوجينو مونتالي تتلوّى مثل سلّة مليئة بالأنقليس، وثمة قطعان جياد تأتلق بسحابة عابرة … ذلك، أيضاً، وضعنا أمام عناصر ولكوت الطبيعية الأثيرة: الحباحب والجنادب والبزّاقات، «شجرة الخبز» والقصب البرّي والسرخس، البحر والرمل والنجوم، اللون النيلي العميم، والمزيد من تلاقح واختلاط هذه العناصر، على الأرض كما في السماء.

مشهديته الجغرافية ازدادت احتشاداً، أي ازدادت ملحمية واتساعاً وتناسقاً في ذروة التنافر. وهذه المجموعة الصغيرة من القصائد تبدأ من جزيرة باونتي في المحيط الباسيفيكي. تبدأ من هناك لكي يرثي ولكوت والدته، ولكي يربط مرثيتها بأخرى موازية أقرب إلى طلب الصفح من شاعر بريطاني رعوي يدعي جون كلير (1793 ـ 1864)، اتُهم في حياته بالجنون بسبب حساسيته الفائقة في الدفاع عن النبات والحشرات والوحش والطير، وأُودع مصحّاً عقلياً، فكتب العديد من القصائد الخالدة كانت كفيلة بإعادة الاعتبار إلى موهبته بعدئذ. ولكنّ Bounty هو أيضاً اسم السفينة البريطانية الشهيرة التي شهدت عصياناً بحرياً في أواخر القرن الثامن عشر، وأسفرت عن واحدة من أبكر تجارب الاحتكاك بين الأوروبيين والمواطنين الأصليين في جزر الباسيفيكي. وBounty هي، ثالثاً، جملة المعاني التي يسجّلها القاموس الإنكليزي للمفردة ذاتها: وَفْرة، سخاء، محصول، غلال، جائزة حكومية.

أخيراً، في هذا الاحتشاد الذي تنهض عليه القصيدة الأولى، يلتقي المعمدان مع الكادح المصري، ودانتي أليجييري بالقبطان بلاي (ضابط السفينة باونتي)، والعالم القديم بـ»العهد الجديد»، وحشرات جون كلير مع ثقافة أوفيد….

أخيراً، وكما أشرت في مقالة سابقة تعود إلى العام 2010، كان ولكوت هو شاعر محمود درويش المفضّل باللغة الإنكليزية؛ ليس دون أسباب شتى، وجيهة شعرياً، وراجحة ثقافياً.

القدس العربي

 

 

 

«طائر البلشون الأبيض» يطلق جناحيه في الأفق: ديريك والكوت أدخل روح الأنتيل في أدب مستعمريها/ عبد اللطيف الوراري

الورديريك والكوت (1930-2017) شاعر الأنتيل ومؤلف إلياذتها المعاصرة التي استوحاها من ملحمة هوميروس المعروفة، وقد صورت بحسّه الدرامي حياة الجزر وثقافتها وتاريخها الحديث في تلك المنطقة من العالم، بما فيها جزيرة سانت لوسيا مسقط رأسه ومهوى إلهامه.

برزت موهبته الشعرية مبكّرًا منذ أن نشر قصائده الأولى في نهاية الأربعينيات، وقد استدان مئتي دولار من والدته الأرملة الشابة لنشرها بين دفتي كتاب، وكان عمره وقتذاك أربعة عشر عامًا. وقد لفت إليه جمهور الأدب مع صدور ديوانه «في ليل أخضر» (1962) ثم أطبقت شهرته الآفاق بعد نيله جائزة نوبل في الآداب عام 1992، عن مجموع أعماله الملحمية التي تضاهي نظيرتها عند الإغريق، بما في ذلك «أوميروس» تحديدًا. وكان ثاني كاتب زنجي ينال هذا التشريف بعد الشاعر النيجري وول سوينكا. وفي عام 2010 حصل على جائزة ت. س. إليوت عن ديوانه «طائر البلشون الأبيض»، الذي ترجمه غريب إسكندر مع مختارات أخرى إلى العربية تحت عنوان: هنا يكمن الفراغ» (دار التكوين- دمشق 2015). ولا يمكن لقراء الأدب المكتوب بالإنكليزية ألا يكونوا قد قرأوا لهذا الكاتب، إذ أصدر نحو عشرين ديوان شعر وثلاثين من أعماله المسرحية التي تثير كل منها بطريقتها الخاصة حياة جزر الكاريبي وثقافتها الغنية، حتى قال عنه الشاعر والروائي البريطاني روبرت غريفز: «يمتلك اللغة الإنكليزية أفضل من أي كاتب إنكليزي على قيد الحياة»، كما ذكّر النقاد بشعراء العصر الإليزابيثي. تيتم ديريك في سن مبكرة، واضطرّته أمه إلى أن يتعلم الخياطة قبل أن ترسله إلى المدرسة. وبما أنه كان يتحدث الإنكليزية، فقد فُصل عن الأغلبية الكاثوليكية والناطقة بالفرنسية، إلا أنه مع الوقت استطاع أن يتعلم لغات هذه الجزر، وكان لهذا الحادث المبكر تأثير في صميم عمله الشعري. تابع دراسته في جامايكا. ومن عام 1959 إلى عام 1976، أدار في ترينداد حلقة مسرح لعبت بعض قطعه المسرحية. وفي عام 1981، انتقل إلى الولايات المتحدة وعمل محاضرًا في جامعتي هارفارد وبوسطن. وفي عام 2009، سحب ترشيحه لمنصب أستاذ الشعر في جامعة أكسفورد بعد أن اتهم بالتحرش الجنسي.

 

أسلوب والكوت

 

بدأ والكوت تجريبيًّا، ثم سرعان ما توجه إلى استلهام الفلكلور الذي تضجّ به حياة جزر الأنتيل، فاستعمل لغة شعرية أكثر أصالة تمزج الإنكليزية بالتعابير الشعبية والرطانات المحلية مثل الكريول وتضم إليها الفرنسية واللاتينية. وفي شعره، نجد ثمة حاجة دائمة عند والكوت إلى التأليف بين التقليد الكلاسيكي الأوروبي، كالذي يعود إلى هوميروس وشكسبير وغيرهما، وبين الفلكلور الكاريبي. وهذا ما انعكس على أسلوبه الأدبي الذي بدا حديثًا وشديد التنوع ومستوحى من إبداعات كتاب عالميّين مثل إيميه سيزير وسان جون بيرس وبابلو نيرودا.

وهكذا توزعت ثقافة والكوت بين لغتين وعالمين، بقدر ما توتّرت كتاباته بين الشعر الغنائي الذي نثر فيها جماليات المكان الطبيعي وتفاصيل الحياة الغنية في هذه الجزر (طيور البلشون والكركي والنورس، أمواج البحر، الشطآن، الغابات، الطحالب، المستنقعات، الأحجار البيضاء، التلال الضبابية) وبين القصيدة المطولة التي تحاكم الحقبة الاستعمارية وتكشف عن تناقضاتها وما ترتب عليها من فقر وميز وعبودية، جنبًا إلى جنب المسرحية التي فتحها على مناطق أخرى مجهولة من هذا التاريخ البحري بحسه الساخر وبلاغة حواره الدرامي الذي يضم الاتساع والتكامل العضوي إلى الغنى المشهدي والتركيب المعماري، وأبطاله من عمَّال الموانئ والصيادين والمحاربين التائهين كما في ملحمته «كلب تيبولو» (2000)، التي تسرد البحث الروحي لبيسارو الذي يهجر جزيرته القدرية إلى باريس من أجل الرسم.

ويبني والكوت عمله دراميًّا بشكل يجمع فيه بين مصيرين لشخصين كل منهما يبحث طريقة التعبير عن طفولته المفتقدة، ثم هناك في المنفى يُشخّص كلاهما شوقه المرتجف لاحتضان العالم.

 

زنجيّ يحب البحر

 

ينتمي الأدب الذي كتبه والكوت، تحقيبيًّا، إلى ما يسمى بالحقبة ما بعد الاستعمارية. وإذا كانت هذه الحقبة قد شهدت مراجعات نقدية ورجحت فيها نبرة الإدانة وتجريم الآخر ومطالبته بالتعويض، إلا أن والكوت يستخلص منها مادة وحي حقيقية لتأملاته السمحة والصافية، ولرؤيته الشعرية التى تنتبه لجوهر الإنسان الذي تكتمل هويته في الآخر المختلف بلا غلّ وروح انتقامية:

 

«أنا مجرد زنجي أحمر يحبّ البحر،

تلقيت تعليماً كولونيالياً جيداً،

في باطني الهولندي والزنجي والإنكليزي،

إمّا أنا نكرة أو أمة».

 

ورغم أن شاعر «حياة أخرى» فتح عينيه على طبيعة مترامية الأطراف وتناهت إلى سمعه أصواتها وحركاتها اللانهائية، فقد آثر العزلة وسفر التأمُّلات الداخلية التي عرّفته على أشياء هي فيه منذ آلاف السنين، مازجًا في عمله الشعري بين أصداء من سيرته الذاتية وأسرار هذه الطبيعة على النحو الذي يقود المخيّلة إلى أن تستثير عالمًا من الإحساسات الكامنة:

 

«إنّها في غرفتها، تلاطف الأشياء القديمة،

قصائدي تقلب ألبومها. حتى لو قصف البرق

مثل تحطم أطباق في السماء،

لا تريد أن تخرج.

ألا تعرفين أنني أحبك لكنني عاجز

عن إيقاف المطر؟ لكنني أتعلم ببطء

كيف أحب الأيام الكئيبة، والتلال المتبخّرة،

والهواء المشبع بثرثرة البعوض،

وأن ارشف دواء المرارة.

لذا، حين تبزغين، يا أختي،

فاصلة خرز المطر،

بجبينك جبين الازهار، وبعينيك عيني الصفح والمغفرة،

لن يعود كل شيء كما كان، بل سيكون حقيقيا».

وفي آخر دواوينه: «طـــــــائر البلشون الأبيــــض» يكشـــف والكوت عن ولعه بالتجريب على نحو يكتشف روحه المتوثبة التي لا تؤمن بالجامد والمسكوك في حياة الأدب، والشعر بخاصة.

وربما لهذا السبب، لم يرغب والكــوت في أن يصبح شاعراً، بل بالأحرى صاحب «مختارات أدبية» ظل على الدوام يبحث عن الجملة الملائمة والكلمة المكتملة بين فجوات سيرته الذاتية: «لم أكتب ما أردت كتابته، وليس لديّ أي انطباع للوصول إلى نهاية الأشياء». إنها حياة تجدد نفسها مع الوقت، كلما تناهى إليه صوت أحدهم وهو يمشي في الجبل أو يأتي متسلّلًا من رحم البحر وتلاله الضبابية:

 

نصف أصدقائي ماتوا

سأخلق لك أصدقاء جددًا (قالت الأرض)

صحت: لا، أعيديهم إليّ

كما كانوا

جميعهم

وبكامل خطاياهم.

يمكنني الليلة سماع أصواتهم

تتسلل إليّ من خلال أمواج البحر

المتكسرة بين أعواد القصب.

فيما أمشي وحيداً

بين أوراق المحيط المضاءة بالقمر

أسفل الطريق الضبابي

ولا أستطيع التحليق

مثل بوم حالمة

تتحرر من ثقل الأرض.

آه، أيتها الأرض

أصدقائي الذين ابتلعتهم

أكثر من الذين سأحبّهم.

 

بيبليوغرافيا:

 

مما صدر له في الشعر: 25 قصيدة (1948)، مرثية للشاب سانتوس الثاني عشر (1949)، قصائد (1951)، في ليل أخضر: قصائد 1948-60 (1962)، قصائد مختارة (1964)، المنبوذ وقصائد أخرى (1965)، الخليج وقصائد أخرى (1969)، حياة أخرى (1973)، أعناب البحر (1976)، مملكة التفاح النجمي (1979)، «قارئة الحظ» (1981)، منتصف الصيف (1984)، نور العالم (1987)، أوميروس (1990)، كلب تيبولو (2000)، «طائر البلشون الأبيض» (2010). وفي المسرح: هنري كريستوف (1950)، حلم على جبل القرد (1970)، تي- جان وإخوته (1970)، تمثيل إيمائي (1980)، الأوديسا (1993).

القدس العربي

 

 

 

 

اسم يبدأ بصرخة/ نوال العلي

“ها هو، رجل من القرن العشرين يعيش في الجزر الهندية وفي بوسطن، يمشي بين البحر الأزرق وأسماكه الحقيقية، بين الصواريخ ورؤوسها الحربية، بين ثقافة كولونيالية انتهت صلاحيتها والشمال الصناعي، بين أفريقيا والغرب، بين العبودية والفكر، بين اللسان الكاريبي الأم والإنكليزية التي تُعلّمها الكتب، بين الأبيض والأسود في جسده هو ذاته، بين صوت المحيط في بلاده ونداء الثقافة الأوروبية”، فقرة صغيرة يلخص فيها الشاعر والروائي الأميركي جيمس ديكي (1923-1997) ثنائيات صديقه ديريك والكوت (1930-2017) الذي رحل أول من أمس في منزله الكاريبي على جزيرة سانت لوسيا عن 87 عاماً.

ثنائيات الشاعر التي جعلت من قصيدته مُهجّنة الهويات والمعنى، هي الثيمة الأساسية التي اشتغلت عليها معظم الدراسات التي تناولت شعر والكوت العظيم، وهو عظيم ليس لأنه جميل ولا لفرادة وغرابة الحالة الشعرية لديه وندرتها، بل لأنه عمل ينتمي إلى الشغل الثقافي العميق (بمعنى الكلمة)، وهو شعر عالمي وإنساني لأنه ينتمي إلى أعمال نادرة ظهرت فيها الكتب المقدّسة وامتزجت بالأساطير الإنسانية والواقع، وبتاريخ بلاده وتاريخ المستعمِر وتاريخ العالم.

سنقرأ لـ والكوت تاريخ وصول العبيد من أفريقيا إلى الجزر الكاريبية، وهو يصفه بالتوازي مع أحداث “سفر التكوين”، جاعلاً من البحر مسرح الأحداث الأولى، البحر الذي يتعامل معه بوصفه أرضاً شهدت تراجيديا ورحلة العبيد ونقلهم ومن مات منهم أو غرق في الطريق وتحوّل إلى مرجان يستلقي على سرير البحر. يقول إن ثمة “قبواً رمادياً” في البحر وفيه تاريخ الشعب الكاريبي.

ثمة مقابلة بين الطبيعة التوسّعية المتعدّدة للبحر وبين تعقيد التاريخ الكاريبي وما عاشته من عبودية واستعمار كما ترى الهندية ندهي ماهاجان في مقال بعنوان “التوترات الثقافية والهويات الهجينة في شعر والكوت”، لافتة إلى أن والكوت لم يسع إلى حل هذه الازدواجية بل إنها ظلت مسألة عالقة وكل ما حاول فعله هو بناء وعي سياسي وتاريخي وشعري حولها.

وهذا ما يظهر في قصائده “صرخة بعيدة لأفريقيا” (ظهرت في مجموعته الأولى “في ليل أخضر”، 1962) وقصيدته “أسماء” (من مجموعة “عنب البحر”، 1976) وفي “البحر هو تاريخ” (من مجموعة “مملكة التفاحة النجمة”، 1979).

لا يمكن تلقّي شعر والكوت وحب تعقيداته وصعوبته من دون وضع هذا الشعر في السياق التاريخي الذي كُتب فيه واستُلهم منه، حيث تعيش هذه القصائد على فكرة واحدة وهي محاولات تفكيك ومراجعة هذا التاريخ الخلاسي لجزر الكاريبي.

كانت هذه الجزر مستعمرة من قبل البريطانيين والفرنسيين والهولنديين. وأحضر المستعمر معه العبيد من أجزاء مختلفة من أفريقيا، وحين تم إلغاء العبودية عام 1863، بدأ المستعمر باستيراد أيد عاملة من الهند والصين. من هنا عاش سكان الكاريبي الأصليون (لم يُعترف بوجودهم) والعبيد والعمال أسوأ الأوضاع.

ينتمي والكوت إلى أبناء هؤلاء الذين لم يعيشوا المنفى والاستعباد بشكل مباشر، لكنهم ورثوا الشُعورين الشقيقين بالاغتراب والانتماء، والانقطاعات الهوياتية والتاريخية التي خلفها الاستعمار والتي حوّلت المجتمع الكاريبي إلى مجموعة من الدياسبورات المتعدّدة.

في قصيدته “صرخة بعيدة من أفريقيا”، يكتب والكوت “أنا المسموم بدم الاثنين، لأي منهما ألجأ، وأنا المقسوم حتى الوريد؟”. إنها مواجهة مع التاريخ والذات، ليست بعيدة عن اللاوعي الجمعي للسود الذي تحدّث عنه فرانتز فانون، يقول والكوت “مسموم”، مفردة تحمل الشعور بالمرض والسأم والشر. وفي قصيدة “أسماء” يقول إن “عرقه” يبدأ بتلك “الصرخة” بلا أسماء ولا أفق يبدأ بلا ذاكرة ولا مستقبل.

بالنسبة لـ والكوت إنه ليس بحاجة إلى تخيّل عوالم ونماذج شعرية، إنه متأمل كبير في واقعيات إنسانية حيّة، أولئك الذين وصفهم في خطابه لدى تسلّم نوبل (1992)؛ “وجوه الحطابين” التي تشبه في صلابتها ولونها وقدمها وجوه شجر الماهغوني الاستوائي، “صيادو السمك”، ورجل يمسك سيفاً ويقف إلى جواره كلب، أُجَراء في شاحنة، شظايا أصلية من أفريقيا لكنها صُقلت وصيغت وجُذرت في حياة الجزيرة، وفقاً لتعبير والكوت، أميّون، ليسوا هنا ليقرأوا ولكن لتتم قراءتهم، ولو كانوا يقرأون لكتبوا أدباً يخصّهم.

وفي الحقيقة، إن أدب والكوت يخصّ كل هؤلاء، وقد استطاع أن يرى الواقع البطولي في الحياة العادية الشقية للعمّال المحمولين في شاحنات نقل بملابسهم الرثة ووجوههم البنيّة، متماهياً معها، “أحدهم يزرع الموز، آخر يزرع الكاكاو. أنا أزرع الأسطر” إنه فلّاح أو عامل في منجم، الفرق أن خامته اللغة وإنتاجه هو الأدب.

الغرور الإنكليزي جعل ناقداً يصف شِعره بأنه شِعر إنكليزي عن حياة الناس الآخرين، يتصادى مع أصوات الناس الآخرين، لكن الحقيقة إن شعر والكوت ليس إنكليزياً ولا يمكن أن يكون كذلك، ولا يمكن أن ينتمي إلى لغة أو أدب بعينه، بل إنه يطيح بموضوعه وجروحه الثقافية والهوياتية ولغته وطبقاته وتعدّد مصادره بأية هوية، وربما في هذا الوصول إلى قصيدة والكوتية الانتصار الشعري لحامل هذا الألم على الكولونيالية.

هجنة الأسلوب

كان والكوت يطلق على نفسه “مولاتو الأسلوب” والمولاتو هو الهجين بين الأعراق: الأبيض والهندي والأسود. أكثر أعماله الطموحة شعرياً على صعيد الأسلوب هو “أوميروس” التي كتبها عام 1990، والمستلهمة من الأوديسا والإلياذة، وتدور على الأرض الكاريبية، ومنها: “لست إلا زنجياً أحمر يعشق البحر/ تلقّيت تعليماً كولونيالياً سليماً/ الهولندية، والزنجوية والإنكليزية في داخلي. وإما أنني لا أحد أو أنني أمّة”.

العربي الجديد

 

 

ديريك والكوت يمجِّد الفراغ على ضفاف العمر/ محمد مظلوم

صفة الشاعر الكبير التي تبدو مبذولة هذه الأيام، تكتسب اعتبارها ومعناها الصريحين مع شعر ديريك والكوت، فالواقع إن هذا الشاعر الذي اضطر لاستدانة 200 دولار لطباعة ديوانه الأول «25 قصيدة» هو اليوم أهم الشعراء الأحياء الذين يكتبون بالإنكليزية. وصوتُ والكوت الذي ينحدر من «سانت لويسا» تلك المستعمرة البريطانية القديمة في جزر الأنتيل الصغرى يعيد الاعتبار إلى الشعر الكلاسيكي، لا بمعنى التقليدية والإعادة والترجيع، وإنما بالفخامة والقدرة على الخلود، والعبور في الزمن محتفظاً بتلك الأثيرية التي لا يفقد معها جماليته.

ديوانه الأخير «البلشون الأبيض» الحائز جائزة «إليوت 2011» قام بترجمته الشاعر العراقي المقيم في لندن غريب إسكندر مع مختارات إضافية، وصدرت تحت عنوان «هنا يكمن الفراغ» (دار التكوين – دمشق 2015) والبلشون الأبيض طائر شبيه بمالك الحزين يعيش قرب مياه البحار، يحضر بقوَّة في الكتاب إلى جانب الطبيعة، كشاهدَين على فناء الإنسان، وتحضر معه كذلك العديد من الطيور البحرية وغير البحرية كالنوارس، والغربان، والببغاوات، واللقالق، والكراكي وسواها.

كتب والكوت ديوانه هذا وهو في الثمانين من عمره، واقفاً فيه على ضفاف العمر، ولكن معبراً عن اعتزازه «بضوء الثمانين الغامض» ممتنُّا لهذه البرهة/ الخاتمة التي لا تخصُّ أحداً سواه، عائداً إلى عوالمه الأولى في جزيرته الصغيرة على المحيط الكاريبي، ومنها يستعيد عوالم جمعية كونية، لا سواحل لها من دون أن يهمل العناية بنفسه:«رجلٌ عجوزٌ في عالمٍ مُعتم/ الفرحُ علامتُهُ فقط/بينما الصمتُ علامةُ الشوارعِ المنكوبةِ /حيثُ لا كلب ينبح» «سأجلس هناك وحيداً/ شاعر عجوز مع أفكار بيضاء»

حتى يبدو سنّ التعاقُد حلفاً مع الإصغاء إلى الأعماق، وتغدو الشيخوخة رحلة غير متعجلة في البعيد لإعادة استكشاف الآني، حيث المدن تنكشف عن هوية تاريخية مُوغلة في أسطوريتها، وهو يستعيد تاريخها المندثر، ويعيد صياغة صورتها من خلال مصيرها، لا من خلال التبدلات المكانية العارضة فيها. وأمام موت الأصدقاء تحضر أسراب البلشون الأبيض لترسم لوحة الخلود بأجنحتها في العواصف والأمطار:

«أصدقائي، على قِلَّةِ ما تبقَّى مِنهُمْ،/ماتوا، لكنَّ البلشونات تتبخترُ في المطر/كما لو أنَّ لا شيءَ مميتاً يمكنُهُ النيلَ منها». وفي غياب أصدقائه الحياتيين، يسعى إلى إيجاد صداقات بديلة في الزمن المتدفّق عبر العصور فيخاطبُ أنداده التاريخيين: هوميروس، هوراس، فيرجيل، بترارك، سرفانتس، كونراد، لوركا، كواسيمودو، بليك، فان كوخ، وأسماء كثيرة تزدحم بها قصائد الديوان.

وعلى رغم هذا الاحتدام الزمني إلا أننا نجد صاحب «حياة أخرى» شاعر عزلة شاسعة ومضيئة وكاهناً في كنيسة التأمُّلات، فبينما تمرحُ الطبيعة من حولهُ وتصطخب وهي تمارس تحوّلاتها في مشهد مضّطرب، فإنَّ بصيرته الداخلية تعيدُ تشكيل ذلك الاضطراب من حوله بمزيد من الصفاء والطمأنينة، كأنه يُروِّض هياج الموجة، وحرارة الشمس، وعتوّ الرياح، وحركة المراكب، وضجيج المرافئ على سواحل الأنتيل، ليحيلها إلى ممرٍّ ومرايا يستقبل من خلالهما الذكريات. وبينما يتأمَّل «سعادة الفشل» في الوقت الذي تحلّق الطيور البحرية، وتسافر المراكب، فإنَّ للعجوز الجالس أمام البحر سفراً من نوع آخر ليفتح لنا شاعر «المسافر المحظوظ» خريطة أخرى تتّسم بنوع من العود الأبديّ فالزمن لديه متصل وبكثافة صُلبة: «لم تكنْ هناك حاجةٌ للسَّفر إلى هذا البُعْد/كي أتعرَّفَ على أشياءَ أعرفُها من قَبْل».

الملحمة المحليَّة

الأجواء الملحمية في شعر والكوت، سمة واضحة في مجمل تجربته فقد رسَّخَها عبر مطولات شعرية وأعمال مسرحية متواصلة، وهي تعود في هذا الديوان للحضور بصيغة أخرى. وإذا كان البحر هو مسرح الأسطورة الكبرى والملحمة التي لا تنتهي، فإنَّه جعل أبطالها عمَّال الموانئ الذين تتداخلُ في شخصياتهم ظلال المحاربين والتائهين، عندما أحال الملحمة الإغريقية، إلى ملحمة بحرية محلية أبطالها هؤلاء العمَّال، فاستعاد طروادة هوميروس في جزر الأنتيل الصغيرة، وأعاد مشهدية الحب والحرب بين الصيادين في البحر الكاريبي في ديوانه «أوميروس» الذي كان سبباً لنيله نوبل الآداب عام 1992.

بيد أن الصياغة الجديدة للملحمة في هذه المختارات تتمثّل في كون قصائدها تتفاعل في ما بينها وتتصل مكونة أجواء ملحمة أخرى بمناخاتها، وبمعمارها المركّب والمحكم سواء على صعيد القصيدة بذاتها، أو على صعيد التماسك النهائي بين قصائد الديوان مجتمعة، إضافة إلى معمار صُوريّ فخم لخلق مشهدية واسعة ومحبوكة.

أشعار والكوت تتماهى بصورة لافتة مع تكوينه الذاتي والثقافي، فكلاهما ملتقى للثقافات، وبقدر ما ينطوي عليه شعره من تفاصيل يوميّة، فهو محتدم بتاريخيته وأسطوريّته، وهو شخصيّ بقدر كونيَّته، أنه من ذلك الشعر الذي لا ينظر إلى المكان بأبعاده الهندسية التقليدية الثلاثة، وإنما يعنى كثيراً برصد تصوّرات الحدس عن البعد الرابع، حيث يكشف اللثام عن شبح الزمن وظلاله المتنقلة في المكان رغم شحوبها، ويتجلى ذلك بوضوح منذ القصيدة الأولى في الكتاب «محاربو الترَّاكوتا» : «فلو كانت العهودُ مرئيَّةً لشاهدوا عهودَنا/ بيادقُ لا تتغيَّر بتغيُّرِ الضوء» كما أنَّ ثمة أصداء متلاطمة لمدنٍ قديمةٍ تلمع في حاضره وخاطره، فلا يرى صقلية ولا إسبانيا، لا سواحل الأدرياتيكي ولا شواطئ العرب إلا عبر ساحل لا ينتهي من التاريخ: «لا نكونُ تماماً حيثُ نكون، حتَّى في إيطاليا، إلا في مكانٍ آخر».

الاستعمار والتسامح

بينما يتّسم أدب ما بعد الكولونيالية، بكونه خطاباً نقديّاً للحقبة الاستعماريّة، ومحاكمة تنطوي في الغالب على ترجيح الإدانة والتجريم للآخر، إلا أن والكوت في تأمُّلاته الصافية يضفي نبرةً أخرى أكثر استرخاء في التعاطي مع الميراث الكولونيالي الثقيل والملتبس، فعلى رغم أنَّ هذا «الدخان خطيئة النار» وأن هذا الأرخبيل والجغرافيا المقهورة من المستعمرات ذنب الكولونياليات القديمة، إلا أنَّ المشكلة الحالية للعالم تكمن في مكان آخر، في هذه الريبة من الآخر والذعر والفوبيا من التواصل، ولهذا ينبغي الركون في نهاية المطاف إلى الهجنة الناعمة بين الخطيئة والتسامح، طالما أن الخريطة المتّسعة للإمبراطوريّة أصبحت ذكرى أطلال: «فجأة/لم تكنْ ثمَّةَ إمبراطوريَّة/انتصاراتُها هواء/ممالكُها مُوحلة». بينما نجد في قصيدة «شبح الإمبراطورية» إدانة مزدوجة: للهوَّة الكونرادية، ولإطروحات القطيعة المتبادلة وتلك العقدة المتسللة من «رواية إمبريالية عن القرن التاسع عشر» بين عالمين لا يمكن التكافؤ بينهما!

وفي قصيدتيه عن الرئيس الأميركي أوباما «أربعون فداناً» و«العالم ينتظر أوباما» صورة أخرى للتسامح ونهاية التاريخ العنصري، فيستعير في الأولى صورة الفلاح الأسود في شبابه من الحقبة التمييزية، ليحيي الرجل الخلاسي الذي أصبح أوَّل رئيس لأميركا لهُ أصولٌ زنجيَّة: «من الهَيَجانِ العظيم/يخرجُ رمزٌ واحدٌ/نقشُ شابٍ زنجيٍّ عندَ الفَجْر/بقبَّعةِ قَشٍّ وبدلةِ عَمَل/مثل رمزٍ نبوءةٍ مُستحيلة». الحلّ يكمن إذاً في التعايش بين العقل الإغريقي والمجد الروماني إلى جانب الخرافات المحليَّة وأعاجيب القدِّيسين والقدِّيسات: «كلُّ تلكَ الموانئ الصغيرة سُمِّيتْ بأسماءِ القدِّيسين/لإزالةِ الحُزْنِ الِّذي كانَتْهُ صقلية».

في الديوان حسٌّ رثائي واضح، لكن والكوت لا يتجادل مع الموت كثيراً، فهو لا يرى فيه نهاية شاملة، بل هو نوع من الغياب، ينبئ عنه حضورٌ، وتدوِّنه أمكنةٌ، ولهذا يتذرّع بأزلية الطبيعة إزاء فناء الإنسان: «أفتحُ كُتُبَهمْ كي أرى صورَهمُ البَعِيدَةَ/التي غالباً ما تقتربُ لتصل/فأسمعُ أصواتَهمْ/في صفحةٍ غائمةٍ مثل الأمواجِ المتكسِّرةِ في رأسي». وبين حتمية الموت، والحياة الوجيزة، تبدو الملحمة نوعاً من الخلاص، والكتابة استعارة أخرى للخلود.

عندما تكون موضوعات الشاعر كبيرة، وصوره الشعرية موسّعة ومركّبة ومفتوحة على التأويل، ولغته فخمة وبناؤه ملحمياً، تبدو صفة الشاعر الكبير التي يعيدها والكوت إلى الواجهة، مناسبة تماماً لهذا الشاعر الذي ينتمي إلى دهور بعيدة، بقدر التصاقه بلحظته الشخصية.

الحياة

 

 

ديريك والكوت: أعيدي إليّ أصدقائي أيتها الأرض

 

ترجمة: كوثر أبو هاني

 

حب بعد حب

 

سيأتي وقت

تستقبل فيه نفسك بسعادة

عند الباب

وأمام مرآتك

ويبتسم كلاكما لترحيب الآخر…

وتقول لنفسك اجلس، كُل

ستحب مرة أخرى الغريب الذي كنته

ستقدم له النبيذ

والخبز

ستعيد قلبك

إليه

للغريب الذي ظل يحبك

طوال حياتك

الذي تناسيته لأجل آخر

يحفظك عن ظهر قلب…

 

التقط رسائل الحب

من رفوف المكتبة

الصور والمذكرات الحزينة

قشِّرْ صورتك القديمة عن المرآة

واجلسْ محتفياً بحياتك.

قصب سكر البحر

نصف أصدقائي ماتوا

سأخلق لك أصدقاء جدداً (قالت الأرض)

صحت: لا، أعيديهم إليّ

كما كانوا

جميعهم

وبكامل خطاياهم…

يمكنني الليلة سماع أصواتهم

تتسلل إليّ من خلال أمواج البحر

المتكسرة بين أعواد القصب…

فيما أمشي وحيداً

بين أوراق المحيط المضاءة بالقمر

أسفل الطريق الضبابي

ولا أستطيع التحليق

مثل بوم حالمة

تتحرر من ثقل الأرض.

آه، أيتها الأرض

أصدقائي الذين ابتلعتهم

أكثر من الذين سأحبهم.

 

قصب سكر البحر

 

اللامع بين الفضي والأخضر

كانت أعواده مثل رماح النار* في إخلاصي

انبعث من رماده شيء أقوى

يحمل حكمة حجر مشع

يضيء القمر

أبعد من الخلود… لا ينطفئ

جامح كالريح

التي تقصم أعواد القصب.

أعيدي الذين أحببناهم قبل أن نحب أنفسنا

أعيديهم كما كانوا

بكامل خطاياهم

حيث هنا

كانوا

أقل طهراً.

 

حزن في شهر آب

 

حياة فائضة

مطر غزير

مثل هذه السماء المتورمة

في آب الحزين…

فأختي الشمس راقدة في غرفتها الصفراء

ولن تبرحها.

كل شيء في طريقه إلى الجحيم

الجبال يتصاعد منها دخان

مثل بخار المياه حين تغلي…

والأنهار تتدفق

إلا أنتِ يا أختاه

فقط

لو تشرقين

وتوقفين هذا المطر.

في غرفتها

تتحسس أشياء قديمة…

قصائدي

تقلّب صورها

وبالرغم من ذلك

يدوّي الرعد

مثل تحطم صفائح ارتطمت في السماء.

لم تأتِ يا أختي.

ألا تعلمين أنني أحبك

وأنني عاجز عن إيقاف المطر؟

ها أنذا أتعلم بصبر

كيف أحب الأيام المظلمة

والتلال المغمورة بالبخار

والهواء الملوث بطنين البعوض

وأن أتذوق المرارة…

عندما تبزغين يا أختي

وتفرقين حبات المطر

بجبينك المورد

وعينيك الغفورتين؛

سيتغير كل شيء…

لكنها الحقيقة

ــ لن يدعوني أحب كما أريد ــ

سوف أحب الأيام المعتمة

مثل الأيام المشرقة

وأفتن بالمطر الكئيب

والتلال الضبابية

مثلما حدث أن أحببتكِ وامتلأتُ بالسعادة.

 

* ديريك والكوت من أبرز الأصوات الشعرية القادمة من جزر الهند الغربية. نال جائزة «نوبل للآداب» عام 1992 وكان ذلك حدثاً أسطورياً يتوج به شاعر كاريبي. ولد والكوت عام 1930. كتب المسرحيات إلى جانب كونه شاعراً ومحاضراً في الكتابة الإبداعية. يتميز أسلوبه بالرقة والقسوة في آن واحد، وتتجلى في قصائده حياة الكاريبي وتراكم التاريخ المفجع الذي ضج بالاستعمار والعبودية، إلا أنه بالرغم من ذلك نجد الكثير من القصائد المرهفة والصور الجميلة المنتقاة بمهارة وإحساس رومانسي يذكّرنا بشعر العصر الإليزابيثي. من أبرز دواوينه: «منتصف الصيف»، «مملكة التفاح النجمي» و«طيور البلشون الأبيض».

 

 

 

غابة أوروبا/ ديريك والكوت

[إلى يوسف برودسكي]

اسّاقطت أواخرُ الوريقاتِ كما النّوتاتُ عن البيانو

تاركةً علاماتِها البيضويّةَ تتردَّدُ في الأذن؛

بمناصبَ خرقاء للعِدد الموسيقية، تبدو غابةُ الشّتاء

مثل أوركسترا خاويةٍ، انتظمتْ

أنساقها على مخطوطاتٍ مُبعثرةٍ من ثلج.

تألق إكليلُ السّنديانِ النّحاسيُّ المرصّعُ

من خلال قطعِ الزّجاجِ البنيّ فوق رأسِك

صافياً كالويسكي، بينما تنفلتُ نَفْحةٌ شتائية

من أسطرِ ماندلشتام، التي تلقيها،

مَرْئيّةً كدخانِ لفافةِ التّبغ.

“حفيفُ الرّوبلاتِ الورقيّةِ عند ضفّةِ نيڤا الليمونيّ”

تحت لسانِ منفاكَ، هَشّة تحت كعب الحذاء،

تجلجل الأحرفُ الحلْقِيّةُ مثل وُرَيقاتٍ تتفسّخُ،

تدورُ العِبارةُ من شعر ماندلشتام في الضّوء

داخل غرفة بنيّة، في أوكلاهوما القاحلة.

ثمة أرخبيل الغولاغ

تحت هذا الجليد، حيث الملح، نبع معدنيّ

من “درب الدموع الطويل” يروي هذه السّهول

صارماً وسخيّاً كوجهِ راعٍ

متشقّقاً بالشمس ومخشوشناً بثلوجٍ لمّا تُكشطْ بعدُ.

رافعاً عقيرته وسط الهمسات الآتية من مؤتمر الكُتّاب،

يدور الثّلجُ كما يَدُوْرُ القوزاقُ بجثمان

فَرْدٍ من التشوكتوْ حتى ليغدو عاصفةً

من المواثيق والأوراق البيضاء في الوقت الذي نغفلُ فيه

عن الإنسان الفرد خلال سيرِ القضيّة.

كذلك تُثقل الأغصانُ أرفُفَها كلَّ ربيع،

كما المكتباتُ بجديد المنشورِ من الأوراق،

إلى أن تنتهي مصلحةُ النفاياتِ إلى تكريرها -ورقاً إلى ثلج-

لكن، في درجة الصّفرِ من الآلام، يَدُوْمُ

عقلٌ وحيدٌ كهذه السنديانةِ بوريقاتها القليلة النّحاسيّة.

بينما عبرَ القطارُ أيقوناتِ الغابةِ التي نُكِّلَ بها،

كانتْ أطوافُ الجليد تقعقعُ مثل ساحاتِ الشَّحن، ثم رؤوسُ

الدموعِ المتجلّدةِ، وصرير القاطرة البخاريّة،

التي اختَزَلَها في نفحةٍ شتائية واحدةٍ

انقلبَتْ أحرُفُها السّاكنةُ المتجلّدةُ إلى أحجار.

رأى الشِّعرَ في المحطّاتِ المُعْدمةِ

فسيحاً كقارّة آسيا، عبر أقاليمَ

يمكنُ أن تزدردَ أوكلاهوما كحبّةِ عِنبٍ،

ليستِ استراحات المراعي المظلَّلة بالأشجار بلِ الفضاء

بكل قفرِه يزدري الغاياتِ.

مَن ذا الطّفلُ العابسُ على حواجزِ

أوروبا، يرقُبُ نهرَ المساء وقد سَكَّ

سَفْرَناتِه ممهورةً بالسّلْطةِ، لا بالشِّعراء،

الثّايمسْ والنيڤا يُصدران حفيفَ الأوراق النّقدية،

إذاً، أَسَوْداء على ذَهَبيّةٍ، أَخْيِلَةُ الهدسون؟

من النيڤا المتجمّدِ إلى تَدَفُّقِ الهدسون،

تحت قباب المطار، رجْع صدى المحطّات،

رافد المهاجرين الذينَ آلَ منفاهُم

زريّاً كما البرد الوضيع،

مواطنو لغةٍ هي لغتكَ الآن،

وفي كلِّ شُباطٍ، كلِّ “خريفٍ أخيرٍ”،

تكتبُ بعيداً عن الحصّادات

تطوي القمحَ كفتاةٍ تضفرُ شعرَها،

بعيداً عن أقنيةِ روسيا التي ترتعشُ تحت ضربةِ الشّمس،

يسكنُ رجلٌ مع اللغة الإنكليزية في غرفةٍ واحدة.

أرخبيلاتُ السّياحةِ في الجنوبِ الذي أسكنه

هي أيضاً سجونٌ، بؤرة انحلال، ومع ذلك

لا سجنَ أقسى من كتابةِ الشِّعرِ،

ما الشِّعرُ، إنْ كانت قيمتُه مِلْحَهُ،

لولا عبارة يستطيعُ الرّجالُ تمريرها من اليدِ إلى الفم؟

من اليدِ إلى الفم، عبر القرون،

الخبز الذي يدومُ عندما تتفتّتُ المنظوماتُ،

عندما، في غابتِهِ بأغصانِها ذات الأسلاك الشّائكة،

يَدُوْرُ سجينٌ، مُجترّاً العبارة ذاتها

التي ستدومُ موسيقاها أكثر من أوراقِ الشّجرِ،

التي خُلاصَتُها عَرَقُ جبهاتِ

الملائكةِ الرُّخاميُّ، الذي لن يجفَّ

حتى يُطفئَ بورياليسُ الأضواءَ الطاووسيّةَ

لمروَحَتِهِ البطيئة من لوس أنجلس إلى أركانغِل،

ثم لن تحتاجَ الذاكرةُ شيئاً لكي تُعِيْدَه.

مذعوراً ويتضوّر جوعاً، ارتعشَ

أوسيب ماندلشتام بالحمّى العُلْوِيَّة، وبعثتْ

فيه كلُّ استعارةٍ قشعريرةَ البَرْدَاْءِ،

كلّ حرفِ لِيْنٍ أثقلُ من حَجرِ التّرسيم،

“لحفيفِ الرّوبلاتِ الورقيّةِ عند ضفّةِ نيڤا الليمونيّ”

لكنَّ تلك الحمّى هي الآن نارٌ يُدْفِئُ

وهجُها أيديَنا، يا يوسف، بينما ننخرُ مثلَ الثدييات الرّئيساتِ

وهي تتبادلُ أصوات الحناجر في جوفٍ شتائيّ

لكوخٍ بُنيّ، بينما في الرّكام الخارجيّ

تعاندُ حيوانات “المستودون” الثلجَ بأجسادِها.

 

* ترجمة عن الإنكليزية: أحمد م. أحمد

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى