صفحات مميزة

وداعا ناجي الجرف  

 

في حضرتك يا ناجي/ بشرى قشمر*

في حضرتك يا ناجي

في غيابك يا حاضري.. أسألك وسأنتظر دائماً أن تجيب

ماذا كان سيحدث؟

لو كان الشيخ داخلك أكبر من الطفل..

لو أنك لم تكن تفاجئني كلّ يوم بحفنةٍ من الزوايا الجديدة لرصد التفاصيل

لو كان العسليّ في عينيك أطغى على الأخضر قليلاً

لو أنهم تركوني في زفافنا أغني لك (عسلية عيونك) كما خططت.. ولو أن العوّاد لم يرحل باكراً

لو أنّك لم تغنِّ لي يوماً بصوتك الذي يشبه الصهيل.. (الغناء صهيلاً.. هذا هو الحلّ لصوتي.. هل أعجبكِ هذه المرّة؟)

لو أنّك كنت تنام باكراً..

لو أنك كنت أقلّ فوضى وأقلّ ذكاءاً

لو أنهم أعطوني ثيابك ودماءك لأهرب بها لعلّها تنبت لي القمح وأحيا

لو أنك لم ترسم لنا حيرتنا ثم تركتنا مبلّلين بك.. مطالبين بأن نصفّق لذهولنا ورحيلك..

لو لم تكن والد يمّ

لو أنك لم تعدني بغير هذا الحريق

لو أنك وسّعت لي مكاناً قربك.. واسعٌ هذا القبر.. وقلبي (بيجي على قدّك)

لو نظر في عينيك من قتلك.. ما قتلك.. كان سيحمل عنك بعض الأكياس.. وستقول له (يخليلي روحك يا خالو)

لو أنّك تجيب الآن.. أتحداك أن تعطيني كلمةً أو مفهوماً أو شارعاً أو حزناً لم تربطني به فيك.. أتحداك واغلبني هذه المرة.. (شرّف جاوب أستاذ ناجي.. أفحمني)

لو أنهم أخبروني برحيلك قبل المساء.. لعلّي استطعت اللحاق برحلتك

لو أنّ يمّ كانت أقلّ حماساً لسخافاتك ورقصك الغريب وأغانيك المزعجة

لو كان جسمك أوسع قليلاً من روحك..

لو أنّي أعرفك معرفةً سطحيةً

لو نظرت في عينيّ قبل أن تخرج من البيت..

لو كنتَ أقلّ انتباهاً ولم يخفق قلبي لك في كراجات سلميّة وحملت عني ( المكدوس)

لو أني أكرهك

لو أنك لم تودعنا جميعاً.. على طريقتك الصاخبة

لو كنت أقسى

لو كان الخجل في صوتك والتلبّك على الهاتف أقل وضوحاً

لو أحببتني أكثر من بلادك

لو جرّبت لمرّةٍ أن لا تفكر في كلّ شيء دفعةً واحدة

لو أنّي لم أكن أراقبك وأتلصّص على ما في رأسك بصبر مذيعٍ مبتدئ.. (بقي فقط أن أدفع المال لأتجسس عليك)

لو عرفتك لأقلّ من عشرين عاماً

لو عرفتني

لو عرفتني

لو أنّك كنت تتفقد رباط حذائك وقميصك المائل وزرّ البنطال قبل أن تخرج كل يوم

لو أني أجد حبّة الدواء أو الرصاصة التي ستوقظني وأراك واقفاً توزّع النزق والانشغال والشغف

لو أحببت نفسك بقدر ما أحبّك من لا ينام اليوم

لو كانت تجاعيد ضحكتك أنقص باثنتين

لو كنت أقلّ جمالاً وكنت أنا أكثر تمسكاً بك وأنا أراك ترحل عارفاً راضياً باكياً بفرح طفلٍ تلك الليلة (على فكرة.. لن يقوموا بذبحي.. ستقتلني الرصاصة.. أخاف من الرصاص يا بشرى ويجفلني صوته..)

(سأموت بسبب الشهداء إنهم يتكاثرون وأنا لا أستطيع إخراجهم من رأسي.. تعبت من النجاة بمحض الصدفة).. لو لم تقل لي ليلاً.. ثم تنام باكياً راضياً قتيلاً بهم

لو أني أستطيع أن أضيف تعديلاً على شهادة الوفاة: (ساعة الوفاة الخامسة صباحاً.. بعيد الغفوة بأنّةٍ أو اثنتين.. قبيل أن تمسّد له شعره للمرة الأخيرة بيدها اليمنى وأنفها.. تماماً عند آخر لقطةٍ تجمع من أحبهم وأحبوه.. لم يكن هناك رصاصٌ يا يمّ.. ولم يلمسوا رأسه الجميل)

لو أنك تطفئ معنا اليوم شمعة ميلاد إميسا الرابع كما وعدتها (هذه حمصي الخاصّة.. مع أنني أحب العصيّة أكثر.. سأنجب أيضاً حوران وحنطة.. وشهيرة حتى ولو لم يعجبك الاسم).. ولم تطفئنا باستشهادك يا ناجي

لو حدث ذلك.. كلّ ذلك.. ربما كنت سأسامح.. ربما كنت سأنام

* زوجة الشهيد ناجي الجرف

 

 

 

 

 

الرصاص الأخرس/ رشا عمران

لا يشبه موت الشاب الصحفي، ناجي الجرف، أي موت سوري آخر، ليس لأن ناجي كان مميزاً عن غيره من شهداء الثورة السورية، فهو من الشباب السلميين الذين ارتأوا أن النضال بالكلمة والعمل المدني قد يكون أكثر جدوى ونفعاً لسورية وثورتها، ومثله كثيرون ممن رفضوا حمل السلاح لمعرفتهم الحقة بمآلاته، فظلوا على ارتباطهم الوثيق بالثورة، عبر العمل المدني وإلإعلامي في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، أو في مخيمات السوريين في بلدان الجوار. لا يشبه موته أي موت آخر، ليس لأنه أيضاً كان محبوباً من كل من عرفه، أو اقترب منه. كثر هم  شهداء سورية الذين سبقوه، ميزتهم هذه الخصلة، لا يشبه موته أي موت آخر، لأنه قد يكون بداية سلسلة جديدة من الاغتيالات السياسية لنشطاء الثورة السورية بهذه الطريقة الصادمة، الاغتيال بمسدس كاتم للصوت، وهذه سابقة في الموت السوري المتعدد والمتنوع، من الرصاص العلني إلى القصف بالصواريخ والبراميل المتفجرة، إلى التفجير، إلى التعذيب في المعتقلات حتى الموت، إلى الحرق والذبح والصلب والدفع من الأماكن العالية.

لم تبق طريقة للموت لم تجرّب بالسوريين فرادى وجماعات، إلا الاغتيال عبر كاتم الصوت، كان ناجي الجرف الضحية السورية الأولى لهذه الطريقة ذات الدلالة الواضحة، إذ لطالما تم استخدام كاتم الصوت في اغتيالات أصحاب الكلمة والصوت الحر الواضح، يتم قتل الصوت العلني برصاصة خرساء، وهذه أكثر الطرق جبناً ولؤماً في عمليات القتل، فالرصاصة خرساء، لا يمكنها الإعلان عن هوية مطلقها، والقاتل يحمي هويته بخرسها، بينما يتم الإعلان عن الضحية عبر خرس الرصاصة نفسه، الخرس الذي يوقف الصوت العلني للضحية، ويغرقه بالصمت الأبدي. ما من طريقة للقتل أكثر نذالة من هذه الطريقة. في الطرق الأخرى، يعلن القاتل عن هويته بوضوح موازٍ لوضوح ضحيته، هو يعلن عن حقه في القتل، ويدافع عنه بمبرّرات سياسية أو شرعية إلهية أو قانونية أو غيرها، ضحيته عدو معلن له، أداته في القتل علنية أيضاً، لها حيثياتها، لها ملامحها، كل القتلة في سورية علنيون ومعروفون، ولا يكتمون هوياتهم برصاص أخرس، ولا يخجلون من إجرامهم ولا يخفونه، بدءاً من النظام وحلفائه، مروراً بداعش وحلفائها ومن يشبهها، كلهم علنيو الإجرام، وكل أدوات إجرامهم علنية، لا شيء يخفونه، ولا شيء يخيفهم في علنيتهم.

من يقف وراء الرصاصة الخرساء التي اغتالت ناجي الجرف إذاً؟ وهل تبنّي صفحات تدعي الانتماء لداعش عملية الاغتيال يؤكد أن داعش وراءها فعلا؟ سؤال لن يكشف عن إجابته قريبا، وستظل الإجابة رهينة احتمالات عديدة، كما ظلت الإجابة عن سؤال من وراء اغتيال ناجي العلي الذي اغتيل بكاتم صوت أيضاً رهينة احتمالات عديدة، ولم تحسم حتى اليوم، على أن الأكثر إيلاماً من موت ناجي الجرف، والطريقة التي تم بها اغتياله هو مصير السوريين أنفسهم، مصير الشباب النشطاء الذين رفضوا الدخول في لعبة الموت الدائرة في سورية، ورفضوا، في الوقت نفسه، التخلي عن الثورة وحلم التغيير، وخرجوا من بلدهم، كي لا يتحولوا إلى قتلة أو قتلى، كي لا يساهموا في تكريس عبثية الموت في بلدهم، كي يتمكنوا من فضح القتلة، من دون أن تلاحقهم أسلحتهم، كي يختاروا حياتهم وحياة أبنائهم بأنفسهم، لا أن تفرض عليهم طرق حياة ما بقوة السلاح والسلطة. هؤلاء عاد إليهم الشعور بالخوف من التصفية، حتى وهم في الخارج. فجأة شعروا أنهم فعلاً في العراء، مكشوفين للموت المجهول، لا يضمن حياتهم أحد، ولا يحميهم شيء. من تابع ما كتبه السوريون، على صفحاتهم الافتراضية من رثاء لناجي الجرف، يلاحظ أنهم يرثون أنفسهم معه، يرثون مصائرهم وثورتهم وبلدهم. أعاد استشهاد ناجي إليهم الانتباه إلى ما آلت إليه حال الثورة، وحال أبنائها، وحّد موته سوريي الثورة المدنية الوطنية من جديد، لأنه ينتمي إليهم، إلى جيل الثورة الأول، الجيل الذي تم الفتك به على أيدي الجميع، كي يتم الفتك بالثورة، وحّدهم أيضاً لأنهم استشعروا الخوف من تصفية كل من يُذكّر أن ثمة ثورة مدنية وطنية حدثت في سورية.

العربي الجديد

 

 

 

حول اغتيال الإعلامي السوري ناجي الجرف… نبكي على ثورة تشبهنا ونبكي خسارتنا.. ونسأل: أيّ عام هذا المقبل؟/ يارا بدر

برلين ـ «القدس العربي»: لكلّ امرءٍ من اسمه نصيب، وكلاهما ناجي العلي الفلسطيني وناجي الجرف السوري اغتيل في أرضٍ غريبة في وضح النهار بمسدسٍ كاتمٍ للصوت. إذ وقبل ساعات من مغادرته إلى فرنسا مع عائلته المكوّنة من زوجته بُشرى وطفلتيه، أطلق مجهولون النار من مسدس مُزود بكاتم صوت على الإعلامي السوري ناجي الجرف في وضح نهار يوم 27 كانون الأول/ديسمبر 2015 في مدينة «غازي عنتاب» التركية، حيث عمل الجرف المعروف بلقب «الخال» إعلاميا وسياسيا وعضوا في تيار «مواطنة»، وفي نعيه الذي أصدره المكتب الإعلامي للائتلاف الوطني أشار البيان: (تلقى الشهيد «الجرف» تهديدات بالقتل من قبل إرهابيين، بعد انتشار فيلمه «داعش في حلب»؛ الذي تناول اعتقال واختطاف الناشطين الإعلاميين؛ وتطرق لمجازر اتهم بها التنظيم في مدينة حلب)، الأمر الذي أشار إليه النعي الإعلاميّ الذي أصدرته أكثر من مجموعة إعلامية.

اغتيال «ناجي الجرف» أثار على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة «فيسبوك» موجةً عارمة من الحزن قد تكون الموجة الوحيدة التي أعادت لمّ السوريين المُشتتين في انكساراتهم طوال هذا العام. أجل، للأسف، ربما اعتدنا كسوريين أخبار القصف وصور الدمار، وربما غرقنا في هزائمنا الموسومة بقلم المجتمع الدولي وقراراته، كجهات سياسية كما كناشطين وأفراد حلموا بالتغيير الجذري وبسوريا جديدة، فكنّا بحاجة إلى خسارة بهذا الحجم، خسارة رجل صادق يشبه الثورة التي كانت، ليطلق كلّ هذا الدمع المحبوس. إذ أشار كثيرون إلى أنهم لا يعرفون ناجي الجرف شخصياً، لكن في خسارته خسارة إضافيّة للثورة التي كانت، ذاك الحراك السلمي، المدني، الذي قاده شباب وصبايا طيبون كرام، لا يهتمون باسم طائفتك، بل يحترمون مزاجك ويسألون عن معدنك وأخلاقك، شباب لم يهتموا بصناعة اسم، بل بخلق تغيّر،ويغنون علّ صوتهم يكون أكبر من خوفهم، وهم يواجهون نظاماً يعرفون تاريخه جيداً، تاريخه في الاعتقال التعسّفي والتغيّيب القسري والموت تحت التعذيب.

بمسدسٍ كاتمٍ للصوت اغتيلَ ناجي الجرف فتيّاً من مواليد عام 1977، بكاه سوريون كُثر، داخل سوريا بعضهم ومعظمهم في بلاد الشتات، ولم يسأل أحد عن طائفته، ولم يسأل أحد عن اصطفافه السياسي فعمله كمؤسس ومدير تحرير مجلة «حنظلة» كان كافياً للتعريف به، عمله طوال الفترة الماضية داخل سوريا من السلميّة إلى دمشق ودرعا دعم المحاصرين عبر محاولة إيصال المواد الإغاثيّة، حيث أصيب برصاصة وقتها،، ومن ثمّ خارجها في دعم الناشطين الإعلاميين وعبر مساهمته في تأسيس مشروع «بصمة سورية» الإعلامي. خسارة «الخال» ذكرتنا بأننّا كنا يوماً أكبر من مهاترات الاصطفافات السياسية حين كان الحلم أكبر، حين كنا أفراداً لا نطمح لأن نكون أكثر من مواطنين، ولم نكن نخشى الكلمات البسيطة والأغاني والفرح.

كذلك لم يسأل أحد عن صدقيّة الخسارة في اغتيال الجرف، ولم تطّلب وفاته شهادة من أحد، هذا الموت الذي أتى بعد أقل من يومين على استهداف الطائرات الروسية لأحد مقرّات فصيل «جيش الإسلام» العسكري في منطقة الغوطة الشرقية التي يُسيطر عليها التنظيم، مُسفِراً عن مقتل رئيس التنظيم زهران علوش ومجموعة من رجالاته. الأمر الذي أطلق جدلاً محتدماً بين من رآه «شهيداً» لأنّه قتل بيد العدو الروسي، ومن رآه «شهيداً» لأنّه قتل في الغوطة المحاصرة، وبين من لم يستطع تناسي تجاوزات علوش وتنظيمه ولا الأسئلة الإشكاليّة حول سياسته العسكرية في مقارعة النظام كما ادعى. والأهم تسبّبه في خسارة أصوات مدنية سلميّة حاولت أن تعمل وتنشط في منطقة الغوطة الخارجة عن سيطرة النظام السوري. أجل، نعترف بأنّ أكثر من رثى ناجي الجرف هم أولئك الذي يشبهونه وقلّ ظهور الأسماء الإسلاميّة أو المرتبطة بالعمل العسكري، ممّا يُثير الاهتمام حول تعاملنا مع ذلك الآخر الذي يختلف عنا وكيف يتعامل هو معنا، فهم غير معنيون بخسارة الكلمة لصديق وفيّ، لكنهم مستمرون في الدفاع من أجل تحديد تعريف لمقتل قائد عسكري التبس أمره كثيراً، ونحن منقادون خلفهم. فكان اغتيال ناجي صفعة ذكّرت من يشبهونه بهويتهم التي كانت، وجعلتنا نقف للحظة بعيدين عن صراع اتخاذ موقف من قضية علوش، التي أنستنا أخبار المحاصرين في معضميّة دمشق والقصف في حلب وحتى بهجة احتفالات نهاية العام، فهل لنا أن نعتبر؟

بمسدسٍ كاتمٍ للصوت اغتيل ناجي الجرف في أرضٍ غريبة هو الذي كتب على صفحته في 19 من هذا الشهر: «بعد قرار مجلس الأمن الأخير وحدها عائلتي وأولاد اختي من يحتاج ساعات عمري الأخيرة»، وأرفقها بهاشتاغ (‫#‏صحافة_المواطن_باقية). في هذا السياق أشار تقرير «مراسلون بلا حدود» في نهاية العام إلى ارتفاع عدد الصحافيين المحتجزين، وسوريا كانت في صدارة البلدان حيث «يوجد أكبر عدد من الإعلاميين المحتجزين في أيدي الجماعات غير الحكومية (26)، علماً بأن 18 منهم مازالوا في قبضة الدولة الإسلامية وحدها، في سوريا والعراق على وجه التحديد». فهل تُشهر هذه الجماعات الجهادية المتطرّفة سلاح الاغتيال في وجه المدافعين عن حريّة الرأي والتعبير وأصحاب الأقلام؟ هل تريد تقديم استراتيجيتها للعام المقبل بالقول إنّها قادرة على استهداف الأصوات السلميّة، المدنيّة، المُفكّرة التي تواجه منطقها التسليمي الإقصائي في أيّ مكانٍ كان وفي أيّ زمان، وبأنّ صراعها مع أصحاب الأقلام عابر للحدود الجغرافية ويتجاوز قضيتها المُعلنة بتأسيس دولة خلافة مُحددة المساحة جُغرافياً؟!

في خسارة ناجي الجرف نتذكر الحقيقة التي رماها في وجهنا قبل أيام: (لوقت قصير كنت أحلم بقبر صغير يغمرني على تلة لطيفة بقرية اسمها فريتان شرق مدينتي بالقرب من قبر جدي وخالَيْ حسن وحسين. اليوم حتى هذا الحلم أمسى بطرا وترفا. تباً لنا من عجّاز في هيكل شباب. تباً لنا من عجّاز). لكن يا ناجي كيف نقارع من يفرض عليك شكل وجودك أو يُلغيك؟ من يعتبر اغتيالك ثواباً له؟ من لا يسمح لك بأن تكون سوى كما يريد لك أن تكون؟ كيف نقارعه سوى بالكلمة، وبأن نكون شهداء إضافيين في قافلة تعبر الوطن العربي عبر تاريخه الحزين من فلسطين إلى تونس، وسوريا ولبنان، وكلّ أراضي الزيتون.

القدس العربي

 

 

 

عن ناجي الجرف وما مثّله/ زيـاد مـاجد

يمكن اعتبار العام 2015 من أسوأ الأعوام بالنسبة للصحافيين والمواطنين-الصحافيّين السوريّين، لجهة القتل والاعتقال والتهجير والتهديد. وقد شهدت الأشهر الأخيرة مقتل وإصابة الكثيرين منهم بقصف النظام الأسدي والطيران الروسي وبسكاكين ورصاص داعش.

و”الأسوأ”، أن عدداً من الصحافيين هؤلاء تعرّضوا للاغتيال خارج سوريا، وتحديداً في جنوب تركيا، حيث ظنّوا أنفسهم آمنين.

فبعد تصفية إبراهيم عبد القادر وفارس حمادي من حملة “الرقة تُذبح بصمت” في مدينة أورفا في آخر تشرين الأول الفائت في عمليّة أعلنت داعش مسؤوليتها عنها، فُجع سوريو مدينة غازي عنتاب وأصدقاؤهم قبل يومين باغتيال ناجي الجرف بطلقاتٍ من مسدّسٍ كاتم للصوت في وسط المدينة.

واغتيال الجرف هوَ الأخطر “أمنياً” لوقوعه في وضح النهار وفي قلب عنتاب. كما أنه الأشدّ وقعاً إعلامياً والأكثر مؤدّياتٍ سياسياً نظراً لنشاط المُستهدَف وعلاقاته الواسعة وما مثّلة في الثورة السورية وأنشطتها من قِيَم ومفاهيم.

ولعلّ في ذلك ما يُفسّر الحسرة السورية الاستثنائية عليه وردود الأفعال الواسعة على اغتياله في الأوساط المعارضة للأسد ولداعش داخل سوريا وخارجها.

فناجي الجرف، إبن مدينة سلمية، انتمى الى الحقبة الثورية السورية الأولى في العامين 2011 و2012 وشارك في المظاهرات ووثّق بعضها وغطّاها إعلامياً الى حين اضطراره للخروج من سوريا كما الألوف من أمثاله. لكنّه بقي قريباً من حدودها، واستمرّت علاقته الوثيقة برفاقه داخلها، ونشط في مكان عيشه الجديد ضمن هيئات “المجتمع المدني” السوري الناشئة، وترأّس تحرير مجلة “حنطة” التي صارت واحدة من أبرز دوريات الصحافة السورية البديلة.

وناجي الجرف عمل أيضاً على إنتاج تحقيقات صحفية لوسائل الإعلام المحترفة.

ولعلّ الوثائقي حول سيطرة داعش على حلب خلال الأشهر الأخيرة من العام 2013 (قبل أن يطردها الجيش الحرّ وبعض الفصائل الإسلامية السورية)، الذي أظهر الممارسات الإجرامية للتنظيم بحقّ الثوار والمعارضين الأوائل لنظام الأسد، كان من أبرز هذه التحقيقات وأكثرها فضحاً لأدوار “داعش” وأولويّاتها.

وناجي كان فوق ذلك ديمقراطياً وعلمانياً، واضحاً في خياراته السياسية وانحيازاته الإنسانية، من دون قطيعة مع من لا يتماهون معه بالضرورة. ولا شكّ أن عداءه لنظام الأسد ولتنظيم داعش، وقناعته التي عبّر عنها تكراراً بأن بربرية الأول هي أبرز أسباب صعود همجية الثاني، جعلته هدفاً مثالياً للطرفين. إذ كلٌّ منهما يتمنّى تنسيب خصومه جميعاً للثاني، وهذا ما لم يكن ممكناً مع ناجي، ومع من يُشبههم ويمثّلهم ناجي، ولذلك كانوا وما زالوا الأكثر استهدافاً والأكثر يُتماً في الثورة السورية اليتيمة.

غدر القتلةُ بناجي الجرف قبل انتقاله الى محطّة جديدة في عمله وحياته وحياة أسرته الصغيرة. وغدروا بنهاية عامٍ كان يُمكن لولا كاتم الصوت والوضاعة التي ضغطت على زناده أن يكون أقلّ حزناً وأقلّ خسارة وأقلّ ظلما.

لروح ناجي الرحمة والسلام، ولزوجته وطِفلتَيه وعائلته وأصدقائه ورفاقه في الكفاح السوري المرير الصبر وطول العمر…

موقع لبنان ناو

 

 

 

أن نقرّب ناجي الجرف حتى يصير صديقاً/ حسن داوود

لم يكن ينقص إلا أن نشاهد صورته حتى نضمّه إلى معارفنا. أولئك الجدد أقصد، الذين لا نزيدهم على من سبق لنا أن تعرّفنا عليهم من قبل إلا بعد موتهم. قلت للصديق حازم الذي أخبرني عن مقتل ناجي الجرف إنني ربما قرأت، أو شاهدت، شيئا له من قبل. أو ربما عرفت اسمه فقط، وها إنني أزيد على ذلك صورته التي كنت متأكّدا أنها ستجعله أكثر قربا.

يقرّبه أيضا قول الصحف أنه قتل قبل يوم واحد من سفره ليتيح لابنتيه حياة أكثر أمانا. ذاك أنني عشت ذلك مع أصدقاء آخرين من سوريا راحوا يودّعون أصدقاءهم هنا، في لبنان، قبل أن يرحلوا إلى بلدان ثالثة في صباح الغد. أحدهم، في مكتب الجريدة، قال لي إنّه أبقى عائلته منتظرة في السيارة وإنهم سيسافرون معا إلى ألمانيا في صباح الغد. كان مسرعا في إلقاء التحيات وفي إهداء كتابه الأخير. وكان مغتبطا برحيله، شأن ما كان حال ناجي الجرف، لا بدّ،  قبل ساعات من إصابته بالرصاصة القاتلة.

وما يقرّبه أيضا فيلمه “داعش في حلب” الذي أعادت عرضه الصحافة الأجنبية مرفقا بخبر مصرعه. ذاك أنه، في الفيلم، يبدو كما لو أنه ينضمّ إلى الأصدقاء الخمسة، الذين سماهم بأسمائهم الأولى، الذين سبقوه إلى مصيره. هو واحد منهم. الأسباب التي دفعت داعش إلى قتلهم مثل الكفر والردّة والعلمانية هي ذاتها التي عدّدها قاتله فيما هو يعلن عن ارتكاب القتل بيده. قال إن ناجي الجرف هو كذلك، مثلما هم كذلك أولئك الخمسة. بل لم يُزد تهمة واحدة، أو كلمة واحدة على ما سبق أن قيل في السنتين أو الثلاث الفاصلة بين مقتلهم ومقتله. وإذ لم يُزد شيء على ما كان قيل منذ قرون كثيرة، كيف لنا أن ننتظر أن يتبدّل شيء أو يُضاف شيء في زمن حرب واحدة.

هو وأصدقاؤه الخمسة، “أبطال” فيلمه الغائبون لم يُقتلوا بسبب اشتراكهم في الثورة، بل بسبب علمانيتهم وما تخبّئه دواخلهم. وفي فيلمه، أرانا ناجي الجرف صورهم، مثلما نشاهد الآن صورته. كما تعرّفنا على أصدقائهم في الفيلم، هكذا على غرار ما رحنا نشاهد أصدقاء القتلى والمختطفين في أفلام أخرى أخرجها سوريون. كانت أفلاما عن أصدقاء أخرجها أصدقاء، أفلاما مختلفة عما اعتدناه من سعي أفلام الثورات للتعبير عن موضوعها كلّه. ما شاهدناه من تلك الأفلام، التي من بينها فيلم ناجي الجرف، رثائيات موضعية، من أصدقاء لأصدقائهم. أن يكون بين أصدقاء يقرّب ناجي إلى من لم يعرفوه من قبل، أو لم يعرفوا إلا إسمه.

فيلم “داعش في حلب” ينتهي نهاية إنتصارية رغم ذلك. لكنها ليست سعيدة إذ بدا المتظاهرون المحتفلون برحيل داعش عن حلب يسيرون وسط أنقاض المدينة وهم بدوا، على كثرتهم، وحيدين في تظاهرهم، كأنما بسبب الكثيرين الذين فقدوا منهم. لا نهاية سعيدة طالما أن الإنتصار لن يكون إلا جزئيا، ومؤقّتا. وما يزيد من المرارة البادية على وجوه المتظاهرين، ومن تلّفت بعضهم إلى الخلف فيما التظاهرة تسير إلى الأمام، هو مصارعة مدينتهم لعدوّين ليس بينهما حليف لهم. لهذا ربما كان ناجي الجرف قد أعدّ لمغادرته إلى حيث لا يُنتظر تحسّن الظروف حتى يعود.

المدن

 

 

ناجي الجرف … شمس الكلمة لا تغطيها غرابيل الرصاص/ أحمد الشمام

يقول «يوجين غيللفيك» لأن الكلمة دم فهي تضحية نقدمها ، وذو حكمة ليس يدركها سوى القليل فالناطق بكلمة الحق يسقيها من روحه ودمه، وهي عصارة سهر وقلق ، هي ليست ترفا ولا تندرا ولا هذرا، إنها ثمرة تفكير وبحث عن حقيقة تم كتم صوتها وتشويهه بكل الوسائل، من ضجيج وإغواء وصور وغبار ودخان حروب تخاض لترسيخ مقولة أو نقضها، والكاتب إما أن يكون بوقا لسلطة غاشمة مبررا ومسوغا، أو مثقفا مشذب الروح والعقل يقول الحقيقة حاملا دمه بكفه ، كل مافي الأمر أن نبحث عن موقف الكاتب واتجاه حروفه في هزله وجده، في التزامه ومدى تشبثه بموقف ومبدأ يهرق لأجله حياته.

تقول الكتب «في البدء كانت الكلمة» فالكلمة أبجدية حياة لأنها ترمي حجرا وسط ماء السكون والركود، لترقرق مائه وتحركه، معلنة تفتق الحياة وبدء جريان نهرها، وخروجها من حالة المستنقع الآسن، الكلمة تصدح وتقتل الصمت وتهز كيان كل القوى التي تريد أن تفرض هذا الصمت المجبول بالخنوع، ولأن الكلمة صادحة تواجَه إما بالكلمة التي تقف من حاملها بندية المحاوِر وتقارع الحجة بالحجة، أو تواجَه بعنف وقسوة وغدر من قبل القوة الغاشمة التي تجد في الكلمة كشفا لسترها وإشارة ليدها الملوثة بالدم وإن ألبست قفاز حرير.

ولأن الكلمة علم إذ علم الله آدم الأسماء كلها فهي ناموس الإنسانية، وسيرة سعي الإنسان على الأرض ليعمرها بالمعرفة والبحث، ولينقل الحكمة والبلاغة والفكر الذي لا ينضج إلا بنارها وزيتها وصحائفها، الكلمة هي أنفاس وحياة الشعوب المبنية على هجس كتابها، وصفوتها ونخبها وحراسها الساهرين على خوف انحسار مائها، أو تحول مجراه بيد العميان والسذج والجاهلين.

ناجي العلي رسم حجرا بيد حنظلة فكانت كلمة حنظلة أشبه بحجر الحكمة الذي سعت له كيلوباترا لتكتسب توازن الحكمة وهو شعلة بروميثيوس التي أطفأ بها الجهل والظلام.

هي معرفة «سيزيف» الأسطورة ، التي حكمته بحمل الصخر، وحكمة الكاتب الملتزم بقضيته تقول لا بأس بكل صخور العالم نحملها ونقول كلمتنا ، ليس ضروريا أن يكون ناجي الجرف صديقي لأكتب رغم معرفتي غير البسيطة به ورغم اختلافي معه في الرأي وربما بالمرجعية الفكرية أيضا، لكننا توحدنا كحاملي نبراس وراية كلمة، وروح إنسانية تحترق لتشع وتحترم سوريتنا وإنسانيتنا .

الكلمة تصف وترسم وتلون وقد تشوه أيضا، لكن أن تكون الكلمة كلمة حق فذاك يحيل إلى أن تصبح هي والحق صنوين، بل تتحدان في جسم وهيئة واحدة، ويصبح الآخر غاصبا لحق والمكشوف بها عدوا لها، وبدلا من محاولة دحضها بكلمة زور، يرد الآخر مسلحا بهاجس القتل للحق وحامليه ورافعي نبراسه وشارته وشعلته ، ولنا أن نميز روح العدو المقهورة من قوة الحق في الكلمات من خلال تمترسه بالسلاح، هي دلالة جبنه وإحساسه الهستيري بالهزيمة والضعف، الكلمة هي شمس الحقيقة الفاضحة التي لا تغطيها غرابيل الرصاص وكواتم الصوت.

استشهد قبل يومين المجاهد زهران علوش رغم كل ما يحيط به من شك وماله وما عليه لكن اغتياله جاء في ساحة عمل عسكري هيأ نفسه وصحبه لرد من جنس عمله في الثورة وحمل السلاح ، لكن قتل ناجي الجرف الصحافي الثائر بسلاح يعني هوة كبيرة في الجهة المقابلة، يعني هزيمتها وعريها من قدرة الحوار ، ومن إمكانية تملك ناصية اللغة، إذ لا لغة للقاتل سوى أن يبوح بسكينة ورصاصته ، إن الموت كقدرة تخطف نحو هاوية تسير بنفسها إذ ذاك إلى عدم، والند ليس الذي يعيش بغريزة البقاء على قيد الحياة، بل حامل الكلمة وأثرها لتظهر الحياة طاقة متوثبة نحو الانعتاق في النزوع إلى الحركة والتحول والعطاء بينما يسير الموت إلى هاوية مهما أخذ منا، لأن النزوع فلسفيا طاقة عطاء أقوى من هوة الأخذ، إذ يحمل بين جنباته توقا لتسلق سفح الحياة بينما يرقد الموت في قمة ما كصخرة كبيرة تتدحرج بحمق وتأخذ بطريقها من تصادف نزولا إلى هاوية سحيقة ، والرصاص لا يستطيع بكل دويه أن يهزم الكلمة ولا يمكن لكاتم الرصاص إلا أن يكون جبانا ونذلا ، العين تقابل المخرز والكلمة أقوى من الرصاص، كاتم الصوت متسلل جبان وأخرس بلا صوت، والكلمة هي الصوت صوت الحق وصداه ، إن طوفانا ما يمر بنا وتزيد قوته ليمسخنا، ناجي الجرف أنت الناجي برسالتك حتى الموت ونحن الغرقى بالحياة إن لم نتسلح بتلك الرسالة.

– كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

اغتيال ناجي الجرف… قتلوا “قوس قزح” الثورة السورية

بيروت ــ لونا صفوان

تصدّر خبر مقتل الصحافي السوري ناجي الجرف بطلق ناري في غازي عنتاب عناوين منشورات شبكات التواصل التي نعاه الناشطون السوريون عبرها. “من لم يعرف ناجي، لم يعرف روح الثورة”، العبارة التي تكررت في كتابات كل ناشط أو مواطن عرف الجرف. هكذا، وفي وضح النهار، وسط السوق، وخلال قيام الجرف بإحضار وجبة طعام لعائلته بحسب مقربين منه، سرقت رصاصة قوس قزح الثورة.

الناشط السياسي ناجي الجرف (38 عاما) معروف بمعارضته النظام السوري ومناهضته داعش، يتحدر من مدينة السلمية في ريف حماة الشرقي. ويعرف الجرف بـ”الخال” لمعظم من قابله، محبوب من قبل الناشطين السوريين ومثابر على البقاء بالقرب من الثورة.

“لأن الحق مكلف، وكلمته موجعة، ولأن من يقول الحق يغرس الرعب في قلوب كبار الطاغوت، ويزعزع كيان أكبر التنظيمات وأعتاها إرهاباً، لهذا اغتيل الصحافي السوري ناجي الجرف”. هكذا تلقف رفقاء الجرف خبر اغتياله، لناجي وقفات مشرفة ومواقف لا يمكن اختزالها في مقال، من وقوفه في وجه النظام السوري إلى عمله على فضح انتهاكات تنظيم “داعش”. وبحسب مقربين منه، كان الجرف قد تعرض لمحاولة اغتيال منذ قرابة الشهر بعد وضع عبوة لاصقة تحت سيارته لكنها لم تنفجر.

شارك الجرف بمختلف الفعاليات الثورية التي ينظمها الناشطون السوريون في تركيا، كما ساهم بتدريب عدد كبير من الناشطين الإعلاميين، لطالما حرص على دعم أي مبادرة شبابية أو دورة تدريبية تتعلق بـ “صحافة المواطن”، لأنه آمن بأن الكاميرا مستقبل سورية.

آخر أعمال الجرف كانت فيلما تسجيليا بعنوان “داعش في حلب”، عرضتهُ محطة العربية مؤخراً، قام خلاله بتوثيق انتهاكات تنظيم الدولة “داعش”، منذ دخوله إلى حلب عام 2013، حتى خروجه منها عام 2014، وتناول الفيلم بعض الحالات التي قام التنظيم بتغييبها عن ساحة الحراك السلمي، بين مفقود وقتيل ومعتقل. الفيلم الذي أثار جدلاً ملحوظاً قد يكون، بحسب مقربين من الجرف، سبباً من أسباب اغتياله.

وانتشر الفيلم على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير، حيث حقّق خلال يومين من عرضه، حوالي 12 مليون مشاهدة على “يوتيوب”.

أسس الجرف مجلة “حنطة” السورية الشهرية التي تصدرها شبكة حنطة للدراسات والنشر وترأس إدارة تحريرها، كما أنه أسس منذ أشهر قليلة مجلة “حنطاوي” التي تعنى باليافعين.

كانت للجرف مشاركات عديدة داعمة لفريق “الرقة تذبح بصمت” الذي عمل على توثيق انتهاكات تنظيم الدولة “داعش” في محافظة الرقة، والصعوبة التي يعمل بها فريق الحملة ومنها إنتاج فيلم يتحدث عن حياة أعضاء الحملة، والمشكلات التي يعانون منها خلال عملهم التوثيقي.

وقام الجرف بتصوير أول فيلم وثائقي له بعنوان “قرنفل أبيض للسلمية، بمعدات بسيطة جداً خلال ثلاثة أيام وتناول فيه الحراك الثوري في مدينة السلمية.

العربي الجديد

 

كاتم الصوت يصرخ كالوحش/ مرهف دويدري
ما تراها قالت عيناه حين التقتا بعيني قاتله.. لحظة الضغط على الزناد لإيقاف قلبه عن النبض بالحياة والمحبة؟ هل أرسل ناجي ابتسامته المعتادة لقاتله لحظة الانفصال عن الحياة والركون للموت المفجع؟
“لعل القاتل رأى في عينيه نظرة لوم على فعلته، وهو الذي لم يكن يحب القتل ولا يريد لسوري أن يكون قاتلاً.. من المؤكد أنه سمع صرير قلبه يناديه (انتظر سأهدي لك موالاً يحنّ له قلبك المتعب بسموم الحقد والقتل .. قبل أن تطلق عليّ رداءك الأسود).. هل رأى ناجي إصرار التوحش في نظرة قاتله، وهو يقول: (سأقتلك باسم الظلام المعشش في قلوبنا.. سأقتلك باسم القذارة التي تلف ذواتنا)!

في نهاية عام 2011 كنا ثلاثة نلتقي للمرة الأولى في دمشق، ثلاثة نمثل ثلثي السوريين على الأقل، بحسب الخارطة القبيحة التي وسمنا بها العالم، كان كل واحد منا ينتمي لمدينة تختلف عن مدينة الآخر، وكل ينتمي لطائفة تختلف عن الآخر، هكذا قال “معن” يومها.

ضحكنا من الفكرة وران بيننا صمت التعارف الأول، لم تكن طويلة هذه اللحظات، التي كسرت هدوءها ضحكة ناجي الوادعة، حيث كان قد وصل دمشق للتو متعباً من رحلة مليئة بالحواجز، التي قد تسوقك إلى معتقل وراء أبوابه آلاف المتعبين، أو أن أحدهم قد يجعل من اسم مدينته “سلمية” مبرراً لتهور غير محسوب.. أنفاسه التي كان يحبسها طوال رحلته الشاقة، أطلقها في تلك الغرفة الصغيرة، في إحدى الضواحي الآمنة لمدينة دمشق، قبل أن تصبح دمشق مستباحة لكل شيء!

ليل دمشق وبردها نالا مني، فركتُ كفيّ ببعضهما لأبعث الدفء فيهما، نظر إلي ناجي مبتسماً ودفع بالمدفأة الكهربائية باتجاهي، كان ليل دمشق متعباً.. بارداً.. وباهتاً، غير أن طبق “الفاصولياء” الذي صنعه معن بطريقته الفريدة مع “الثوم” جعل ضحكاتنا تعلو.. نتبادل النظرات أنا وناجي محاولين فهم طلاسم هذه الوجبة الغريبة.. وناجي يسأله “هل نموت إن أكلنا هذا الاختراع؟”.

نعود للضحك، بينما يحاول “معن” جاهداً إقناعنا بأنه طبقه المفضل، الذي لا يمكنه الاستغناء عنه، وبطريقة أشبه بالإعلانات التجارية، أجبرنا على أكل الفاصولياء.. أكلنا.. وضحكنا.. وتهكمنا.. حديث الثورة والمظاهرات، ومغامرات معن في “دوما”، وتصوير ناجي لمظاهرات “السلمية” جعلاني أشعر بالدفء، وأبعد ليل دمشق البارد من جسدي المتعب.

ليل دمشق الشتوي القارس.. وتلك اللحظات الصقيعية، كان أدفأ بكثير من الظهيرة “العينتابية” المشمسة.. كان يومها البرد جليّ الملامح.. والخوف من البطش كان هاجس الجميع..

في “عينتاب”.. كان كاتم الصوت اللعين يصرخ كالوحش الكاسر وينقضّ على فريسته الطيبة وينهش آخر كلمة تقولها الفريسة، ليخنق صوتها المتهدّج: (لن تستطيع هزيمتي)، ليخرج كلّ الحقد المعشش، والقيح والصديد اللذين يختزنهما في طلقاته.. من فوهته القذارة السوداء، لتغطي سنابل الحنطة التي كان “ناجي” يبذرها في صحراء السواد، ممنياً النفس أن ترتفع تلك السنابل الصفراء الذهبية، وتعكس ضوء الشمس، لتزيل تلك القذارة القاتمة..

كان “الخال” يكره “الفزّاعات” التي تخيف الطيور الجميلة.. لذلك رفض أن ينصبها في حقل حنطته، فانقضت الغربان على الحقل.. لتحيله صحراء قاحلة…

وحده قلبه المتعب، الذي لم يكن يستطيع تحمل مغادرة الناشطين الذين دربهم بمحبة الأب لكادر الحقيقة، الذي لطالما قصّ حكايا الثورة.. والشهداء.. والمعتقلين.. كان يفرد صفحات حنطته لهم حباً، وينعاهم كرهاً بجملته الشهيرة (فتت روحي يا شهيد)؛ وحده ذلك القلب هو من أرشف حكاية ناجي.. وأضافها إلى سجل الحكايا..

غادر ناجي الكادر الذي حمله بين قلبين.. قلب ثائر وقلب محب.. ثائر من أجل وطن المحبة ومحب لثورة قدمت أغلى ما تملك.. (فتت أرواحنا يا شهيد) وأنت تغادر كادرك الأخير.. لنهيل على قبرك شذرات من ذهب الحنطة التي لطالما نثرتها في بيادرنا.

أشاهد القلوب الملتفة حول قبرك يا صديقي. وأتذكر تلك الليلة الشتوية في دمشق.. يومها كنت من كسر صقيع الجلسة.. غير أنني في أسوأ كوابيسي، لم أتخيل أن يكسر جثمانك ذلك الجليد الذي كسا قلوب كل السوريين!

(سورية)
العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى