صفحات المستقبل

وراء العدسة… أمام الموت/ شادي أبوكرم

منذ آذار/مارس 2011 انطلق الشباب السوري في انتفاضته الشعبية معلناً رفضه لكل أشكال امتهان الكرامة والحرية التي يمارسها النظام ضده على مدى عقود من حكم العائلة الواحدة، في حين رد النظام على المتظاهرين العزّل بالرصاص الحي منذ اليوم الأول لهذه الانتفاضة. وفي ظل غياب كافة وسائل الإعـــــلام عن الشـــارع السوري باستتثناء الرسمي منها، لم يكن امام الشباب إلا خلق البديل المناسب بإمكانياتهم وقدراتهم لنقل وجعهم ليصبح في واجهة الإعلام العالمي.

رصد الحدث يتطلب عدسة هاتف شخصي من دون شهادة خبرة أو إجازة جامعية. فقط أغلق جفونك على دموعها وتشبث بهاتفك حتى تتمكن من توثيق ما يحصل من دم أمامك. ‘حين تعرضت الغوطة للضربة الكيماوية لم أستطع التوقف عن البكاء عند وصولي إلى ذلك المنزل، حيث جثث الأطفال تملأ المكان، لكن أردت أن أوصل وجعهم الى كل العالم، فتابعت التصوير من دون أن تتوقف عيناي عن البكاء’.

يقول محمد العبدالله (مصور صحافي ـ الغوطة) ابن الثلاثين عاماً الذي عاد إلى ريف دمشق ليعمل على توثيق الاشتباكات والمجازر الناتجة عن القصف اليومي، في ظل الحصار على تلك المنطقة. هو الذي اعتاد إلى حد ما رؤية الدم في عدة مناطق نتيجة لنشاطه الدائم. لم يدرس العبد الله التصوير أو الإعلام، بل كان يعمل مسؤول مبيعات قبل الثورة، إلا أن توقه إلى الحرية دفعه نحو العمل في شتى المجالات على صعيد الحراك الثوري المدني، إلى أن وجد نفسه الآن جندياً يقف خلف كاميرته في وجه الرصاص والقذائف التي تعبر العدسة.

أما أبو ياسين الحمصي، طالب كلية الآداب ـ اللغة العربية، فقد وجد نفسه مضطراً لتوثيق ما يحصل في منطقته دير بعلبة ـ حمص، لأن معظم شباب منطقته لم يكملوا تعليمهم الأساســـي، نظراً لسوء النظام التعليمي في تلك المنطقة. ويقول: ‘بعد متابعتي للثورة المصرية لاحظت دور مواقع التواصل الاجتماعي الكبير في نجاحها، لأدرك أهمــية أن تكون ناشطاً في مجال الإعلام وأهمية العمل كمواطن صحافي، بالأخص في ظل غياب وسائل إعلام وطنية تبث من الداخل’.

على عكس العبدالله اضطر أبو ياسين لحمل السلاح إلى جانب الكاميرا: ‘مرّت عليّ أيام وكأني أعيش كابوساً حين صوّرت صديقي الذي استشهد أثناء دفاعه عن منطقتنا. لم أستطع بعدها إلا أن أفكر بكيفية حماية من تبقى من أصدقائي وابقائهم على قيد الحياة، آمنت بوجوب امتلاك السلاح، بل وحمله إلى جانب الكاميرا في وجه آلة القتل تلك’. كان ذلك بعد مضي أكثر من عام ونصف العام على وجوده داخل المشهد الدموي في إحدى أشد النقاط توتراً على امتداد الخريطة السورية.

بعد انشقاقه عن الجيش النظامي شارك محمد الحاج علي، ابن محافظة إدلب، في المواجهات العسكرية ليصاب بعدها بسنتين مما أدى إلى شلل في يده اليسرى، لكن إصابته لم تمنعه عن متابعة عمله فوجد مكانه في تغطية الاشتباكات. يقول الحاج علي: ‘بعد إصابتي لم أتمكن من حمل السلاح، فكان هناك طريق وحيد لأبقى على الخط الأول من الجبهات، وهو تصوير الاشتباكات ونقلها إلى وسال الإعلام’.

‘يرحل جزء من إنسانيتي مع كل صديق يستشهد، أشك بأنه يجب عليّ التحول إلى وحش، وأحيانا كنت أفكر أنه ربما كان عليّ أن أخطو على خطا القاعدة بقلبٍ متحجرٍ وحزامٍ ناسف يتطلب منك ضغطةً على الزر لتتخلص من ألم رحيلهم’، يقول أبو ياسين الشاب العشريني الذي استطاع رغم القهر أن يضع ضمن عدسته صورة صديقه المقرب الذي تلون بدمائه بعد أن أردته رصاصة القناص.

لكن الأمور لم تأخذ المنحى نفسه في حالة إياس قعدوني، 31 عاماً- طالب حقوق، عندما وضع بشكل مباشر أمام موت إنسانٍ مقرّب. يومها كان إياس بانتظار زوج شقيقته حين طُلِبَ منه المجيء لتصوير شهيد سقط في مدينة سراقب. ويروي قعدوني: ‘ذهبت إلى المستشفى لتصوير الشهيد فوجدت أنه زوج شقيقتي فلم أستطع تصويره، بعدها أصبحت أمتاز بالصمت خلف الكاميرا. شيء ما تغير في تركيبتي البشرية، صرت قادراً على تحمل تلك المناظر وقمتُ بعدها بتصوير العديد من الشهداء منهم أفراد عائلتي’.

كثيراً ما يتعرض الناشطون في مجال الإعلام إلى مواقف تضعهم على تماسٍ مباشرٍ مع الموت، ‘حينها يكون الاختبار الأصعب، هل عليك أن تتراجع أم تتقدم لتدافع عن قضيتك وتوصل للآخرين وحشية المشهد’؟ يتساءل يسر الخضر الطالب الجامعي الذي بدأ نشاطه الإعلامي بعد تعرضه للاعتقال والطرد من جامعة حلب ليعود إلى مدينته تل أبيض في محافظة الرقة، ‘حين استشهد أعز أصدقائي رفـــض الناشطون الذهاب لتصوير الجثة نتيجة التشويه الذي تعرضت إليه، فذهبت لأصورها من دون النظر إليها أو إلى الكاميرا، كما لم أشاهد المقطع الذي صورته إلى أن تم وضعه على الإنترنت’.

واضطر يسر من بعدها الى إيقاف نشاطه إثر صدمته، لكنه سرعان ما عاود نشاطه لإيمانه ‘بضرورة أن ننقل للعالم الخارجي ما نتعرض إليه من مآسٍ يومية’.

كان لابد من هذه التضحية لتبقى ثورتهم على قيد الحياة. كان لابد من تعطيل المشاعر في حضرة الموت أو التعذيب، لأنهم يدركون أن نقل هذه الصورة كفيل بإبقاء حدثهم اليوم في متناول الجميع. ولأن مشهد سوريا الاستثنائي صُبِغ بألوان الموت يوماً بعد يوم، كان من واجب عدساتهم أن تتلطخ بدماء الأقارب والأصدقاء والمعارف لتضاهي قدسية الموقف.

كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى