صفحات سوريةميشيل كيلو

وساوس سياسية!

 

ميشيل كيلو

عند إجراء الحسابات السياسية، من الأهمية بمكان أخذ جميع الاحتمالات بعين الاعتبار. فعندما يكون هناك حدث معقد ومركب ومتداخل كالثورة السورية، تصير الحاجة أكبر إلى سبر أغوار السياسات والخطط الدولية الموجهة نحو وطننا وشعبنا، الذي أثبت أنه لا يتردد في دفع أي ثمن من أجل حريته والتخلص من نظام تحول إلى رمز للوحشية في عالم يجد صعوبة في تصديق ما تقع عيناه عليه من وحشية، يمارسها نظام يفعل بشعبه ما لم يسبق لأي نظام آخر أن فعله بشعبه.

لا بأس أيضا في أن يكون التحسب زائدا عن الحد ومبالغا فيه تجاه بعض القوى والجهات المعادية، إن كانت متورطة إلى جانب النظام الأسدي ضد شعب سوريا. ومن الفطنة أن نقلب الأمور على كل وجوهها، تقصيا لمنطوياتها، إنقاذا لوطن تعاديه حكومته إلى الحد الذي يمكن أن يدفعها إلى استخدام الأسلحة المحرمة دوليا ضده. ولا بد من أن نتخذ كل التدابير والإجراءات الضرورية لإحباط ما يخطط ضد شعبنا من خلال قيامنا بسد الثغرات التي قد تظهر في مواقفنا ورؤانا، فليس هناك ما هو أشد خطورة علينا من تجاهل نقاط ضعفنا والقفز عن مشكلاتنا، التي يمكن أن يفيد منها عدونا.

لكن التحسب شيء والهلوسة شيء آخر: التحسب صحة والهلوسة مرض، ومن المحال معالجة نقاط ضعفنا بواسطة هلوسات مرضية تجافي الواقع وتنط عنه، وتجعلنا نقوم بقفزات في الفراغ يمكن أن تنتهي بكسر أعناقنا. من هذه الهلوسات تلك الصورة القاتمة التي نرسمها لواقعنا بحجة أنها خيارات محتملة، تنبع من تحفظات بعض القوى الخارجية وخوفها مما يجري في بلادنا، وتؤكد ما يقال هنا وهناك عن أن سوريا ستقسم في مرحلة ما بعد الأسد، وأن التقسيم صار أمرا واقعا منذ اليوم، والدليل: ما تشهده الأرض من تدابير وإجراءات تذهب في هذا الاتجاه، وإن اتسمت بالغموض.

لا أعتقد شخصيا أن سوريا ستقسم أو أنها قابلة حقا للتقسيم. قد تكون هناك بالفعل محاولات تستهدف تقسيمها، وقوى خارجية تريد التخلص من وحدتها كدولة وكمجتمع، إلا أن هذه المحاولات لن تنجح لأسباب كثيرة، أهمها أن الشعب الذي يطرد النظام القائم وأدواته المسلحة من كل ركن في وطنه لن يسمح له بانتزاع جزء تكويني مهم وحساس منه، وسيهزمه إن هو حاول ذلك، بعد أن يكون قد أخرجه من بقية مناطق بلاده وطرد رئيسه من كرسي الحكم في دمشق.

وأرجح شخصيا أن النظام لن يختار التقسيم ما دام قادرا على التمسك بالسلطة في عموم سوريا، وما دام جيشه يقاتل في المناطق الرئيسة منها، فإن فقد قدرته وعجز عن ضمان سيطرته على البلاد والعباد، فكر في الانسحاب إلى جزء من الأرض السورية، لإقامة دويلة خاصة به عليها، ليبدأ تقسيم البلاد.

يتناسى أصحاب هذا الرأي أن من هزم جيش النظام القوي في مجمل الأرض السورية لن يعجز عن دحر فلوله وبقاياه في منطقة تسيطر عليها دويلة في طور التأسيس، تفتقر إلى كل شيء على وجه التقريب، بما في ذلك الجيش المتماسك والقادر على حمايتها، كما تفتقر إلى القدرة على توفير مقومات النجاح، ليس فقط لأن الشعب يرفضها وجيشها سيكون عاجزا عن الدفاع عنها، بل كذلك لأن الوضع الدولي والإقليمي لا يستطيع إنقاذها، وحتى إيران لا مصلحة حقيقية لها فيها لكونها لن تتمكن من التمركز فيها بطريقة تعينها على تحقيق مرام استراتيجية أكبر من أن تتمكن من حملها أقدام دولة قيد الإنشاء: ضيقة المساحة، كثيفة السكان، فقيرة الموارد، هي دولة ناقصة لم يكتمل نموها بعد، نشأت عن انهيار نظام فشلت في الحفاظ على سيطرتها عليه عندما كانت تمسك بأعنة الوطن السوري بأكمله، يستحيل أن تتمكن من مقاومة قوى منتصرة هزمت جيشا أكبر وأشد بأسا بكثير من بقاياه التي ستلملمها من هنا وهناك، وستكون مبلبلة التشكيلات عديمة القيادة، منخفضة المعنويات، لم يتوفر لها الوقت الكافي للانتظام في جيش حقيقي: مدرب ومقاتل.

تقول الهلوسات السياسية إن إيران هي التي ستعمد إلى تقسيم سوريا وإقامة دولة موالية لها في منطقة الساحل، وتزعم أن الدولة الجديدة يجب أن تكون على تماس مع إسرائيل، لأن حزب الله سيحتل بالنيابة عنها حمص وحوض العاصي ومنطقة الزبداني، فتتصل بذلك مع المناطق التي يسيطر عليها داخل لبنان، ولها حدود مع فلسطين المحتلة. من الجلي أن حزب الله لن يتمكن من المحافظة على حوض العاصي وحمص ومنطقة الزبداني، إذا ما انسحب جيش النظام منها إلى المنطقة الساحلية، هذا إن صدقنا أنه سيتمكن من احتلالها. في هذه الأثناء، ستكون المنطقة الساحلية في حال من الفوضى ترقى إلى مستوى حرب أهلية، ليس فقط لأن 40% من سكانها سيرفضون الدولة الطائفية، وسيقاتلون مع بقية السوريين للحيلولة دون قيامها، بل كذلك لأن قوى إقليمية كتركيا وإسرائيل لن تقبل قيام دولة إيرانية على حدودها أو قريبا منها، بعد سقوط نظام دمشق.

ولا تخبرنا الهلوسات كيف ستحافظ إيران على دولة هذه حالها، إن كانت قد فشلت في الإبقاء على نظام أقوى بكثير من نظامها هو نظام الأسد الحالي، مع أنه كان في جيبها، وكانت له حدود مع إسرائيل، ورغم أنها قاتلت إلى جانبه بصورة كثيرة مباشرة وغير مباشرة، ويتوهم مروجو الهلوسات السياسية أنها في حال مجابهة معها، رغم أن صمت حزب الله العسكري في جنوب لبنان مستمر منذ قرابة ثمانية أعوام، وأن إسرائيل لم تترك مزارع شبعا التي تعهد مرارا وتكرارا بعدم وقف معركته قبل تحريرها كاملة غير منقوصة!

من الضروري وضع حد فاصل بين التحسب والهلوسة، وإلا استحالت السياسة إلى فاعلية تنتج أوهاما نتيجتها الوحيدة الخروج من الواقع والفشل في تحقيق أي هدف من أهداف شعب سوريا.

لن تقسم سوريا لأن تقسيمها يتخطى قدرات إيران والنظام، ولأن العلويين لن يتخلوا عن وطنيتهم العميقة الجذور، التي أسدت خدمات جلية لدولة ومجتمع سوريا. وإذا كان الأسدية قد تلاعبت بهم في سياق تلاعبها بالسوريين، فإن ذلك لا يعني أنهم يوافقون على تقسيم وطنهم والدخول في حرب أهلية خاسرة من أجل إيران أو آل الأسد ومخلوف. لن تقسم سوريا لأن مكونات جماعتها الوطنية لن تصل إلى نقطة تجعل عيشها المشترك مستحيلا، وستبقى بلادنا موحدة بإرادة شعبها، الذي لن يكون على ما هو عليه من تنوع جميل وآسر دون أبنائه العلويين!

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى