حسين جموصفحات المستقبل

“وستفاليا” لضمان استمرار «حرب الثلاثين» في سوريا/ حسين جمو

 

 

كانت مقاربة بابا الفاتيكان فرنسيس الأول حول سوريا مقتضبة، وخاطفة، وموجعة في درجة تركيزها. قال إنّ سوريا ضحية «عولمة اللامبالاة». ما الذي التقطه البابا من خفايا تتعلق بجذور هذه اللامبالاة ؟ لنترك جانباً بشكل مؤقت الأسباب الإنسانية ما فوق الهويات الدينية. ليس أقل من انفصال المسيحية الشرقية السورية عن جذورها، هذا ما صرح به البابا نفسه، لأنه يدرك تماماً لعبة وستفاليا المستحدثة بصمت في الشرق الأوسط، وللكنيسة الكاثوليكية ذكرياتها وبكائياتها مع هذه المعاهدة.

إنّ تفكيك الواقع السوري ووصله بأهل الحل والعقد، في النظام الدولي الغامض، الذي يحكمنا حالياً ليس بعيداً عن «وستفاليا»، التي سيتكرر ذكرها هنا في موروث السياسية الدولية، بغرض التفسير وليس الكشف عن مؤامرة كونية.

اندلعت حرب الثلاثين عاماً في 1618 ولم تنتهِ تماما لدى توقيع معاهدة وستفاليا عام 1648. بدأت هذه الحرب كاستجابات متعارضة لنتائج حركات الإصلاح الديني وظهور البروتستانتية كقوة سياسية ـ عسكرية على أراضي الامبراطورية الرومانية المقدسة، التي كان يحكمها الملك فيرديناند الثالث من آل هابسبورغ، ذو المذهب الكاثوليكي. اشترك في الحرب أكثر من 100 إمارة إضافة إلى الممالك الأوروبية مثل فرنسا واسبانيا والسويد والدنمارك. وشهد مسار الحرب نفسه تحولات جذرية وصلت إلى أن يقوم الكاردينال ريشيلو (رئيس وزراء فرنسا بين 1624 -1642) بتحول دراماتيكي في هوية الحرب، عندما بدأ بتمويل جيوش الأمراء الألمان البروتستانت ضد آل هابسبورغ الكاثوليك، ثم أرسل الجيوش الفرنسية (الكاثوليكية) لتقاتل إلى جانب البروتستانت بمباركة من لويس الثالث عشر عام 1635. كان هدف ريشيلو هو إنهاء أي قوة كاثوليكية أقوى من فرنسا. لا غرابة إذاً أن تنهار في سياق هذا التحول منظمة العصبة الكاثوليكية في أوروبا من تلقاء نفسها بعد سنوات على قيادتها تصفية منظمة الاتحاد البروتستانتي في بوهيميا.

تم تدمير معظم ألمانيا الهابسبورغية، وشهدت أوروبا حركات نزوح جماعية وفقاً للهوية الطائفية، وحدثت أكبر حركة تغيير للمِلْكيات في أوروبا. أسقطت معاهدة وستفاليا التي استغرقت المفاوضات بشأنها أربع سنوات عبر مراحل ماراثونية، حق التعويض عن الخسائر. كان التسامح يبلغ ذروته !

هذا الاستعراض السريع والمكثف والقاصر لحرب الـ،30 ضروري للإحاطة بكيفية ظهور مبدأ «سيادة الدولة الوطنية». من هذه المعاهدة تم الربط العضوي بين الدولة والإقليم الجغرافي الذي تقوم عليه، وحق الدولة في التصرف بشؤونها الداخلية كما تراها مناسبة من دون أي تدخل خارجي. استدعى هذا المبدأ الصارم مبادئ أخرى عديدة لحفظ حقوق الأقليات الدينية ضمن كل دولة إقليم. هنا انتهى دور الكنيسة أيضاً.

أين سوريا مما ذكر؟

حرب الـ30 عاماً تنسخ نفسها في سوريا. لنقل هو أقرب إلى استنساخ يدخل فيه التصنيع والضبط الكيميائي. الأمر أشبه بوجود حدث لا يعرف «أهل الحل والربط الدولي الغامض» ما الذي سيفعلونه بالضبط. ربما لم يقرروا بعد. هل يتم توجيه التصنيع لاختلاق تجسيدي لبعض النبوءات الدينية؟ أم وضعها على سكة التدمير الذاتي والخروج في النهاية بمعاهدة وستفاليا؟.

أياً يكن ما سيتحقق أو لا، فإن الملفت في المقاربات الأميركية تجاه الوضع السوري تبنيها للمبدأ الأول من معاهدة وستفاليا (السيادة)، وإلا ما معنى أن نسمع يومياً عبارة «على السوريين وحدهم أن يقرروا الحل»، أو التعبير الاستعلائي في مدنيّته بأن «ما يجري تحول للأسف إلى صراع طائفي». هذه توصيفات تخرج حصراً من دوائر قرار غربية، تدّعي تأييدها للمعارضة. أمّا مبدأ «السيادة» فقد اهترأ من كثرة استخدامه من قبل المسؤولين الروس.

هنا نقبض على معاهدة وستفاليا متلبّسة في سوريا. النظام الدولي وعلى رأسه أميركا وروسيا، يطبّق -أو يلتزم بمبدأ السيادة وعدم التدخل في سوريا من زاوية جعل حرب الـ30 تستمر فيها، متجاهلين أن مبدأ السيادة تعرض للنسخ المشروط (وفق المنهج القرآني) بمبادئ إنسانية في القانون الدولي مع نشوء الأمم المتحدة. على كل، جاء هذا المبدأ في المعاهدة الأم كأساس لإيقاف الحرب هو ما يجري في سوريا إذاً حرب قانونية بالنسبة للطرفين العسكريين والمدنيين ضمن الرقعة الجغرافية المسماة سوريا. يتم الامتناع عن سد كل الفتحات التي تتسرب منها المياه إلى السفينة من الخارج، وفق مبدأ سيادة الدول.

هرع أوباما وقادة أوروبا إلى مساعدة دول غرب إفريقيا لمحاربة القاعدة، وتأتي طائرات أميركية بلا طيار لتقصف مواقع أنصار الشريعة في اليمن، وطالبان في باكستان وأفغانستان، وحركة الشباب في الصومال. يعكس ذلك مدى محورية هذا المذهب الجديد في السياسة الدولية: شن الحروب ضد من لا يملكون كيانات جغرافية ثابتة، وهو المبدأ نفسه الذي تطرق إليه هنري كيسنجر في محاولته تصعيب الأمر على الإدارة الأميركية بالتدخل عندما تحدث عن خطورة هيمنة المساحات الفارغة على الخريطة في حال انهيار النظام والعجز عن بناء دولة، أو دمج الحروب الأهلية بالدولية. كيسنجر أيضاً يدعو إلى «عولمة اللامبالاة» وظهور «المساحات الفارغة» التي يحذر منها.

من هنا يتسع التأييد لتنظيم القاعدة: كل قاعدي لا يكون قاعدياً إلا عندما يتأكد من صفرية العدالة في القانون «الوضعي» الدولي، قبل أن يتفقّه في «آيات السيف».

هذا بالضبط ما يرغب به النظام السياسي الدولي الأقلّوي.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى