صفحات سوريةفلورنس غزلان

وصية لابني السوري


فلورنس غزلان

ياطفلي الصغير ..مد يديك المرتعشة ..سأغني لك أجمل ماحملته اللغة  من أناشيد حب وحنان..سأغني كي يهرب الجوع القادم من كل الأزقة وأطراف المدن المنكوبة….سأقطف لك نجمة تشبه الإجاص وأخرى بطعم التفاح..ومن انحناءة القمر سأصنع لك رغيفاً ساخناً..ومن دفء قلبي ناراً لتهدأ رجفات البرد في مفاصلك..سيزول رعبك الملدوغ….وتتكسر أحصنته على أبواب قلعتنا  المصنوعة من ضلوعي..سأبني لك بيتاً خشبياً من أغصان الزيتون في حديقتنا التي غازلتها قذائف الجحيم …وتبادلت معها رشقات المطر الرصاصي هزيلة القدرة والخبرة.. ردوداً لم تستطع حماية السقف الآيل للانهيار.

ياصغيري ..لاتحزن حين تقرأ في عيون الكبار خذلاناً فتكثر ثرثراتهم بحشو الكلام..كي تغيب عنك القدرة على فهم  تفاصيل العجز المَحَلي عن رسمِ تقويمٍ للقصور الزائلة بمفهوم التاريخ، ولا تفكر ملياً بأسباب ضياع الطلقات في فضاء يحمل لك غربان المدافع وقاذفات الهاون رداً مقابلاً على  أولاد يلعبون” لعبة عسكر وحرامية”!…لايمكنك تقليدهم ياصغيري..فنحن لنا عنوان واحد يسكن بيتنا وقلبنا ..يتوسط أذرعات كشامة ويرسم خريطة سوريا ككيان واحد..أرواحنا لاتنسجم مع السلاح ولا تتآلف مع الرصاص..صلاتنا تتوجه مباشرة نحو السماء فلا وساطة لبيت أو قديس أو مفتي بيننا وبين الرب..بيوت الله كلها تقف منا ونقف منها على نفس النسق..نقدسها ونحترم زائريها مقتنعين بأن الله واحد، وإن تعددت الصلوات والطرائق..وأنت يابني لك حرية أن تصلي أو لاتصلي كما تشاء..لك حرية أن تحلم وتتذوق طعم الله في روحك،  لك حرية أن تقرأ كل صحائف الكون دون استثناء..ولك حرية أن تلعب مع أطفال الكون الملونين..أن تصادقهم أن تعشق إحدى فتياتهم.. .شيء واحد فقط أود أن أزرعه في عقلك لينضج معه وألا يذعن إليه أو يسمح له أن يصطاده في حقلِ رميه الرخيص ألا وهو…سلطة العصا والعنف، سلطة السلاطين المخلوطة بدماء الضحايا، سلطة العمائم المحاطة بالخرافات…سلطة قداسة كاذبة لاتحترم الإنسان..كلها ضعها خارج حلمك وخارج زمنك..الفظها من اهتماماتك ..وركز عقلك على احترام الآخر كما هو ..واعمل على أن يحترمك كما أنت.

سأسرد عليك قصتنا مع الغربة في الوطن، والغربة عنه:  اتهمونا بخيانة الخليفة….وبمصادقة الشمس ..فقد ألقوا القبض علينا متلبسين نُدخل الضوء في أردان معاطفنا ونشَّرِع نوافذنا للرعد والبرق…فقرروا قتلنا… وها نقتل كل يوم ..

ياطفلي حان وقت الاعتراف..ولم يعد لكلمة السر من سلطة على لساني ولا على قلمي…لأن رأسي تتعب من كلمات أصبحت جوفاء في عالم  تتكدس فيه المعلومات ..وتخترق رداءه الفتوق والشقوق، فأي سر يكمن في وردة لها لون وشذا تعشق النور ولا تعيش في الأصص المحصنة في الصالونات؟ أي سر يمكن حفظه خلف أبوابٍ أقفالها من عظام الأطفال وجدرانها من ذكريات القذائف؟..لقد انكشفت عورة الكلمة…وامتدت يد الحارس للبندقية..كي تقوم بمهمة النطق والفصل..وما علي سوى التزام الصمت…أو توضيح القصة من زواياها التي لن يقولها لك غيري.

هات يدك وامشي معي.. مع ريح يختلف اتجاهها وتشريعها عن منطق مَن يعطي للوقت المحموم دوراً نارياً، يغير ألوان الأيام ويُزَّوِر الزمن من خلال عنف وعنف مضاد…صيادين وطرائد….وقتي الآن واقف مكانه يترنح تحت سياط لغتي الغريبة في معاجم الاسترسال الرصاصي، فهل أقوى على  رغباتك في الخروج من دائرة الطفولة باكراً؟، هل أقوى على البوح بحياد صوتي المصلوب في صدري، المنتشر كالسرطان في روحي؟!..وقرر الوثب من خاصرة الموت..قرر الصراخ…بكل اسم وحرف للنفي موصول أم مفصول، فلم يعد يتأثر براحة المنسجمين مع متاهتهم، ولا المعَلِقين على الخراب بخراب أكبر وعلى العبث بعبث يجعل مني ومنك سخرية للأقدار وللتاريخ.

فأمك ابنة النهر والشمس تخشى على أقدام الصغار ودفاترهم من البلل وصحائفهم من التلف ..وقلوبهم من الرجف..تخشى على طفولتهم من السرقة..وعلى مستقبلهم بلا قانون..أمك التي تقرأ فنجانك،  وتضرب في التراب البركاني..وَدَع المحبة..لا ودع الخرافة..ودع الألفة وولادة التاريخ في أرض حوران..أمك التي تخشى الرصاصات الطائشة والمنفلته من عقال العقل والخبرة والخطط العسكرية الفاعلة..أمك التي تخشى على طفولتك السورية أن تتمزق بين فنون مجالس لاتجلس إلا على رمادنا،  ولا تتفق إلا بعد أن تجف ضروع المحبة بين روابطنا وشرايين الحياة فينا، لاترتفع أصواتها في محافل الكون إلا منفردة نشازاً يغني كل منها على ليل غير ليلنا..ويلحن بألحان لاتمت بصلة لموسيقانا..فقد اخترعت كل حفنة أوركيسترا تعزف ألحان غدٍ لم يأت ولم يسعَوا لمجيئه ..ولا يعرفون كيف ولا من أين سيأتي!

تعال ياصغيري إلى حجري لاعليك من لهيب الأرض سأحملك وأخترق النار…فابراهيم كان يوماً أبانا..سنجتاز معاً وكل التلاميذ في صفك الوطني..مدارس الحقد الأعمى..ونمد أجسادنا جسراً…يُعَّلِم الكبار كيف يعبروا إلى وطن  يحرقوه ويحترقوا..لانملك أخشاباً ولا أغصاناً سوى أذرعتنا ..ولا حناجر تعرف الهتاف والتصفيق….لكنها تتقن الحداء والميجانا نملك أقداماً ترقص الدبكة ، سواء قادها أحد أحفاد سلطان الأطرش أو جبلة بن الأيهم….سواء انتمت  للفرات أم للمتوسط ..فجميعنا منشغل بأنين العشب الأخضر…المتفحم على أيدي غزاة وبرابرة لاتجد من يصد عدوانها..وكل فتافيت المعارضة والمنشقين لايمكنها أن تصنع نصراً…فعلى الأقل أصنع نصري بتربيتك..أصنع منك رجلاً من سوريا المستقبل..لايدخل القتل في قاموسه.

باريس 11/6/2012.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى