محمد أبي سمرامراجعات كتب

وضاح شرارة “مترجماً” رعب العروبة والإسلام من النساء/ محمد أبي سمرا

 

 

في كتابه “ترجمة النساء”، “دار رياض الريس” بيروت، 2015، يؤلف وضاح شرارة “حواشي” فلسفية وأنثربولوجية ثقافية واجتماعية “على أخبار النساء وأحوالهن” في ثقافة العرب والإسلام وفي الثقافة الغربية. مادة “الترجمة” غزيرة، واسعة، ومتنوعة: من بينيلوبه في القصص الملحمي الهوميري اليوناني، الى شهرزاد “ألف ليلة وليلة”. ومن أخبار النساء في كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني، الى ساحرات المؤرخ الفرنسي جول ميشليه في القرن التاسع عشر، والحركة النسوية الأوروبية الصادرة عن الحركة الشبابية والاجتماعية لأيار 1968 الأوروبي. ومن أشعار أبي نواس الماجنة التي تخلط الشعر بالرغبة، الى “الحداثة والمرأة” في نقد بودلير الفني.

في الفصل الأول، “ذوات الفروج يركبن السروج: قوة شهوات النساء”، جمع شرارة 22 خبراً عنهن وردت في مؤلف الأصفهاني الموسوعي الكبير “الأغاني” الذي يضم 25 مجلداً. بعد روايتها وتصنيفها، اتخذ كاتب “ترجمة النساء” من هذه الاخبار مثالاً ودليلاً في تأويله حضورهن وأحوالهن وأدوارهن وأفعال شهوتهن ورغبتهن في الاجتماع والمخيلة العربية والإسلامية. فأخبار الأصفهاني تجمع “أيام” العرب “وحروب القبائل والعصبيات، قبل الإسلام وبعده (وتُلِمُّ) بأخبار البوادي والأمصار العراقية والفارسية والشامية وبعض التركية (…) الى ابتداء الثلث الثالث من القرن الرابع الهجري”، الذي يوافق أواسط القرن العاشر الميلادي. وهي تغطي، إذاً، كحال أخباره عن النساء، مساحة زمنية ومكانية واسعة من تاريخ الديار العربية والإسلامية.

أخبار النبوّة وأخبار النساء

قبل روايتها وتعليقه عليها، يقدّم شرارة لأخبار النساء الأصفهانية، فيرى أن صاحبها يرويها “على مثال المحدّث الثقة” في خَبره عن “الحوادث” و”الأنساب” و”الرسوم” التي “تقوم مقام الركن والتعريف من الجماعات” في ديار العرب والإسلام. بل إن مثال أخبارهن هو “الآثار (أي الأحاديث) المتخلّفة عن النبي والصحابة والتابعين والخالفين”، كما أنها “تنعقد على معانٍ ودلالات وعِبرٍ” و”صور”، نسيجها وبطانتها ومنوالها الأحاديث النبوية نفسها، و”القصص البطولي العربي” و”السيرة النبوية المحمدية”. وهذه كلها، “آثار وسِنن معاً”، ما دامت “تنزل منزلة معيار العمل وميزانه” وأحكامه في السلوك والاجتماع، فتبيّن “عما يجب عمله وعما يُنهى عن إتيانه”. أما “مصدر هذه الآثار والسنين والأحكام، فهو “امرؤ أو إنسان (النبي أو البطل) خارج عن القياس والميزان”. وخروجه هذا إنما هو “الدليل على نبوّته” و”انفراده”، و”معنى تأييده الإلهي بالمعجز”.

مادة أخبار النساء الأصفهانية، إذاً، وما تنقله أو ترويه من حوادث، وكذلك تركيبها وبناؤها الإخباريان، وما تنطوي عليه من تخييل اجتماعي ومن أحكام عمل في الاجتماع وقيمه، لا تختلف عن سواها من أخبار الأصفهاني في “الأغاني”، بوصفها من أحاديث الأولين وأخبارهم وسيرهم البطولية، أي النبي والصحابة والمحدثين أو الناقلين الرواة عنهم. وهي، أي أخبار النساء، شأن أحاديث النبي والصحابة ورواة أحاديثهم وسيرهم، تندرج في باب “الأصول” التي يُبنى عليها، وتُحاكى وتُقلَّد، كما أنها عظيمة الحضور والفعل في الاجتماع والتخييل الاجتماعي في ديار العرب والإسلام.

الوأد تداركاً للسبي

في أخبار النساء الاصفهانية خبر عن وأد البنات الذي كان في الجاهلية “مثالاً يحتذى” و”سنّة”. لكن قدر كونهما قويّي الحضور ومرغوبين – تداركاً او استباقاً للفضيحة جراء سبي النساء في المغازي التي كانت في منزلة الكينونة من “ايام” العرب واجتماعهم – فإنهما (أي مثال الوأد وسنّته) كانا ايضاً إفتراضيين وكاذبين، والا لانقرض العرب بانقراض بناتهم الموؤودات جميعا. هذا من دون أن يقلّل الافتراض والكذب من قوة حضور المثال وسنّته: حدّث فارس شجاع الرسولَ مفاخراً بوأده بناته، ومنهم ابنة له دفعتها امها الى اخوالها اثناء سفره، فلما عاد منه حفر للابنة حفرة وجعل يطمرها فيها. وروى للنبي ان ابنته جعلت تقول: “أمغطِّيّ بالتراب أنت يا ابتِ؟ أتاركي وحدي ومنصرف عني؟”، فتابع الرجل الفارس روايته قائلا: “جعلتُ أقذف عليها التراب حتى واريتها وانقطع صوتها”. فدمعت عينا النبي ثم قال: “ان هذه لقسوة، وان من لا يَرحم لا يُرحم”.

ألا تشبه الصيغتان، اللغوية والقصصية، في هذا الخبر الاصفهاني، القصص القرآني؟ والمثال في هذا الخبر، أي الوأد، ألم يمارسه قبل مدة قصيرة تنظيم “الدولة الاسلامية”، حسبما بثّ في شريط على شبكة الانترنت، يصور رجلاً يرجم ابنته “الزانية” في حضور أحد “امراء” التنظيم؟ لكن المرأة المرجومة في الشريط، على خلاف الابنة الموؤدة في خبر الاصفهاني، استدرجت والدها الى رجمها، ولم تطلب الصفح والرحمة، حينما سئلت إن كانت تطلبهما. فهي صامتة تقبلت مصيرها، فيما الحجار تنهال على جسمها في الحفرة.

شهوات خلاصيّة مهدويّة

على هذا، “ليس القيد على شهوة النساء من النساء أنفسهن – يعلّق وضاح شرارة. فعلى قدر ما النساء داخل ورحم ليل، هنّ اشتهاء وشخوص واشتطاط. فلا تكاد تخرج المرأة (العربية والمسلمة) من نفسها وجسمها وأهلها (فور حيضها وبلوغها) حتى تجمع الى أقاصي الخارج”، هوىً ورغبة وعشقاً. لذا “لا مناص من تزويج البنت إذا بلغت، في الأهل الأقرب (…) أي في بني العمومة أو بني الخؤولة”. ذلك ان “شريطة مسكة الاهل او القوم، العرب، (هي) حفظهم أصلابهم في ذراريهم، وماء الرجل في أرحامهم ونسائهم”. و”سياسات الأهل والرئاسات” في ما يتعلق بالنساء، ترمي الى “حفظ العشير في العشير (…) فالناس (العرب) ينزلون الأرض جماعات وعصائب، (…) بطوناً وأفخاذاً (…) وأهالي، وينتسبون الى أرحامٍ (نسائية) والى أسماء ذكرية”. اما في حال اشتطاط المرأة في شهوتها، وانحيازها “الى رغبة عدو بيتها وأهلها”، فإن هذا “لا ينطوي على انهيار النفس ودمارها وبوارها وحسب، بل يؤدي كذلك الى ارتفاع الفرق” والحدود، على مثال ما “أرَّخت الروايات الخلاصية والمهدوية لعشية ظهور المهدي المنتظر (…) وامتلاء الدنيا ظلماً، واشتباه الرجال بالنساء”.

أبو نؤاس وبودلير

أبو نؤاس في “أشعاره الماجنة” جمع “قومه (الشعري والعنوي؟) من تقطيع الأواصر والعرى ومن العدوان على المعايير القومية، العربية الإسلامية، والإزراء بها”. لذا “حمل الأعمال والكلام والاعتقاد والاخبار والاشياء والناس على التمويه والتزويج”، كي يَخرج ويُخرج ذلك كله “من حدّ السلطان، وهو حدّ العصبية والحرب والدين والتناسل وعمود الشعر، الى حدّ العيد”. وذلك ليس أقلّ من “ثورة عامة على أركان حضارة عربية إسلامية كانت بعيدة عن التمكن” بعد. أي “في أواخر القرن الثاني للهجرة وعشية الحرب الأهلية العباسية الاولى”. لذا يصف وضاح شرارة “عمل أبو نواس، اليوم، بالحداثة”، لأنه “رفع التهجين الى مرتبة مدرك من مدركات العقل الكثير الأوجه”، فيما “كان “إسلام الفقهاء يشحذ أركانه السنية واعتقاده قبيل إغلاق باب الاجتهاد”. وقد تكون حال أبي نواس في التهجين، كحال شارل بودلير في نقده الفني وشعره أيضاً، على ما يستقرئ كاتب “ترجمة النساء” في تأويله “الأنيق الماجن” البودليري بصفته “أحد حدّي الحياة المعاصرة، وأحد ضديها”. فالأنيق الماجن “يتقن فوق كل شيء السياحة في المدينة الكبيرة، ومخالطة العدد والكثرة، والاقامة بين ما يتمازج ويتمايل (…) ويهرب من غير أن يخلف أثراً”. أما مدار “شهوته” فأن “يكون المرء غريب الدار وفي داره أينما حلّ” ونزل وارتحل، “على نحو ما ينشئ متعشّق النساء عائلته من كل الجميلات” المرئيات والمتوهمات.

أخيراً، “هذا علّة” ما عجزت المجتمعات العربية الإسلامية عن “اختباره”، إلا في المثالات والهوامات والحركات الهستيرية الخلاصية المدمرة، تلك التي تؤذن بنهاية العالم والزمان، أي بالجحيم أو الجنة، لا فرق. فالمجتمعات هذه اعتنقت الرعب من النساء وشهوتهن، عقيدة دينية وسنّة، فحملها رعبها هذا على الحجر على النساء في النسب والشرف والدم والأهل والسلطان. هكذا نكصت أو تخلّفت مجتمعات العروبة والإسلام عن “الحداثة، فناً وأدباً وحياة”، تدبيراً وتنظيماً وسياسة. لذا تميد أركان عالم العروبة والإسلام، دائماً وأبداً، كما تميد اليوم، كأنها دائماً وأبداً على شفير نهاية العالم والزمان.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى