صفحات المستقبلياسين السويحة

وعي، علمانيون وإسلاميّون، وديمقراطيّة


ياسين السويحة

يتلازم الحديث عن “الوعي” عند شطرٍ من المعلّقين في الشأن السوري بالتأكيد على غيابه لدى النسبة الأوسع من الشعب السوري، ما يستدعي وقف المحرّكات الفكرية عند هذا الغياب المفترض والتمحور حوله والبقاء في حبسه إلى أجلٍ غير مسمّى، دون أي مجهودٍ فكري لتعريف ما يقصدونه بكلمة “وعي” وﻻ بتحديد عناصر بنائه وطرق توفيرها. يقتصر الحديث عند هؤﻻء، وجلّهم من “مثقفي السلطة” أو مثقفين”حياديين” يتشبثون بحساسيّة “علمانية” عالية (قد يكون من الأصح أن نقول أنها “علمانويّة”) تجعلهم يربطون “الوعي” عكساً بالدّين والتديّن بأسلوب يلامس، في كثيرٍ من الأحيان، الفاشيّة الصرفة. وﻻ يشترط أن يكون التديّن بشكل عام هو الهدف، بل كثيراً ما يكون تديّن أتباع دين معيّن أو طائفة معيّنة هو المقلق لديهم. أي، بمعنى آخر، يتم استنباط منظور علمانوي طائفي يقوم على فرز الناس بين طوائف متمدّنة ومتحضّرة وطوائف متخلّفة ومتزمّته. أو، بمقاربةٍ أخرى، تنشأ طائفة أقلوية، هستيريّة الخوف من “الطوائف” الأخرى، اسمها “العلمانيون”. في كلا الحالتين نجد أن تبريرات التلطّي خلف اﻻستبداد والاستقواء به ﻻ تقل مأساويّة عن حجج أيّ زعيمٍ طائفي فاسد.

انطلاقاً من نخبوية مفرطة في التعالي، يبدأ هؤﻻء من “غياب الوعي” للوصول إلى شرعيّة اﻻحتماء بالاستبداد من الهمجيّة، وكلّما أمعن في وصف همجيّة “غائبي الوعي” قلّت الشروط الواجب توافرها في اﻻستبداد المحتمى به، والذي لم يعد يشترط به، إطلاقاً، أن يكون “متنوّراً”. بتنا نسمع، على سبيل المثال، ردوداً على المطالبة بموقف من النهج الوحشي للنظام القمعي تتمحور حول خطر الإسلاميين على الحرّيات الشخصيّة. فالوعي، كما قلنا، مسألة “علمانيّة” عند هؤﻻء، وهي علمانيّة داروينيّة، اجتماعيّة وسياسيّة، تقرّر بناءً على هواها من يحق له أن يعبّر ويمارس السياسة ومن ﻻ، بل ربما من يحق له الحياة ومن ﻻ (صور ملتحين ومنقبات في حي بابا عمرو بحمص كوسيلة لتبرير قصف الحي، مثلاً..). وبعد كلّ هذا سيحدثونك مطوّلاً عن استحالة تكيّف الإسلاميين مع حياة ديمقراطيّة سليمة. هم ديمقراطيّون، ﻻ شك!

ليس في مسائل الوعي أو التطرّف الديني أو دور الدين في الحياة السياسيّة مجال نقاشٍ عند المتعصّبين لغياب الوعي، كما ﻻ يجدي نفعاً محاولة فتح حوار حول منابت كلّ هذه الظواهر أو حلولها باستخدام علوم السياسة واﻻجتماع واﻻقتصاد، وﻻ يُقبل اتهام اﻻستبداد السياسي بدورٍ في زرع هذه المشكلات الاجتماعيّة والسياسيّة. التفسير ثقافوي يخصّ “اﻻستثناء الإسلامي” الثابت في عالمٍ متحوّل كلّ يوم. نحنُ وفقط نحنُ محصّنون ضد مؤثرات السياسة واﻻقتصاد في حياتنا الثقافيّة والمعرفيّة، ونحنُ وفقط نحنُ أغبياء بما يكفي لكي يكون حتّى طلوع الشمس علينا نتيجة مؤامرة من الآخرين.

تقدّم التيّارات العلمانيّة واليساريّة، العربيّة منها والسوريّة، مشهداً بائساً في مقاربتها للشأن السوري في خضم اﻻنتفاضة الشعبيّة، فبين هذه المواقف الثقافويّة الموالية للاستبداد من جهة، وحسابات الجيوستراتيجيا الصرفة في دعمها للنظام الحاكم بناءً على تحالفات محاور إقليميّة ودوليّة من جهة أخرى، انسحبت النسبة الكبرى من هذه التيارات من معركة الكرامة والحقوق والحرّيات مبكّرة، ولم تعد تعطي الشعب السوري، عدا استثناءات مشرّفة، إﻻ وصفاتٍ لكي يموت دون أن يزعج مزاج جلسات مقاهي الحمرا في بيروت.

ﻻ يدعو، حاليّاً، تخيّل من أين ستنطلق الحركات السياسيّة اليساريّة والعلمانيّة في حياة سياسيّة تعددية مستقبليّة إﻻ للتشاؤم، حين سيخيّر ذاك الذي قبع تحت القذائف والرّصاص بين تيارٍ إسلامي تماهى مع آلامه وعبّر عن تماهيه بلغته (بغض النظر عن شعبويّة هذا التماهي أو انتهازيته من عدمها) وبين من أخبره، بتعالٍ ونخبويّة، أن تلك القذيفة والرصاصة كانتا “أكثر وعياً” منه. ربما نبدأ يوماً ما نقداً ذاتياً سينجح أكثر كلما كان أبكر، أو نجلس ونقول أن دولة قطر قد موّلت مشروعاً تآمرياً سلّم البلاد العربيّة لحكم الإخوان المسلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى