صفحات العالم

وعي لتجنّب الواقع


حازم صاغيّة

سكّان مدينة حمص السوريّة ليسوا «عملاء لأميركا» ولا «عملاء للناتو». ومن يراجع تاريخ المعارضة السوريّة يلاحظ أنّ تعبيرها الصاخب الأوّل ولد ردّاً على تقارب النظام البعثيّ مع الأميركيّين. وهذا ما تجلّى ساطعاً في 1976، حين أدّى التقارب ذاك إلى دخول لبنان لقطع الطريق على منظّمة التحرير الفلسطينيّة وحلفائها اللبنانيّين. ولسنوات طويلة ظلّ المأخذ الأساسيّ للمعارضين السوريّين على نظامهم أنّه يخون «القضيّة القوميّة» ويفرّط بها، وأنّه لا يرقى إلى مزاعمه اللفظيّة في ما خصّ الصراع مع إسرائيل. وبذلك كانت تلك المعارضة تشبه نظامها في أنّ الطرفين يمنحان الأولويّة للخارجيّ على الداخليّ، وللوظيفة والدور على العلاقات الوطنيّة السوريّة. لا بل غالباً ما زايدت المعارضة على النظام في هذا.

يوم الجمعة الماضي هتف متظاهرو حمص «الشعب يريد حلف الناتو»، متشجّعين، من دون شكّ، بما حدث في ليبيا، ومعلنين إلحاحهم على التخلّص من نظام جائر ودمويّ بغضّ النظر عن هويّة المخلّص. ولئن بدا هذا فاقعاً وحادّاً، فإنّ الرغبات السوريّة المتفاوتة بدور تدخّليّ ما لتركيا عبّرت، مداورةً، عن التطلّب نفسه. فتركيا، كما نعلم، عضو في «الناتو»، فضلاً عن كونها، في القاموس النضاليّ السوريّ، «مغتصبة لواء الاسكندرون».

ما جهر به متظاهرو حمص ليس موقفاً رسميّاً للمعارضة السوريّة، كما أنّ أطرافاً واسعة فيها ترفضه وقد تدينه. لكنّ الواضح أنّ الانتفاضة السوريّة تنزع، وعلى نحو متعاظم، إلى نزع الأدلجة، أو بقاياها، عن نفسها. وهذه نتيجة طبيعيّة في سياق ما تمثّله الانتفاضة من إرجاع الأولويّة إلى الداخليّ على حساب الخارجيّ، وللملموس على المؤدلج. ولمّا كانت الأدوار و «الأوراق» أهمّ رساميل النظام، بدا منطقيّاً أن يتساوى طلب الحرّيّة مع التحلّل من هذه الأدوار و «الأوراق» تباعاً. ذاك أنّ سوريّة الديموقراطيّة لا تتساوق البتّة مع سوريّة الوظيفة الامبراطوريّة التي يُسعى إليها من خلال كذبتي «القوميّة» و «فلسطين».

أغلب الظنّ، وبغضّ النظر عن تباين المواقف والآراء، أنّ هذه وجهة سوف تشتدّ مع اشتداد القمع وتعاظم دمويّته. وقد سبق أن رأينا في أوضاع عربيّة مماثلة، على رغم خلافات في التفاصيل، مثل هذا المنحى. ذاك أنّ إسلاميّين ويساريّين عراقيّين، وإسلاميّين وقوميّين عرباً ويساريّين كويتيّين، سبق أن دفعهم صدّام حسين، برعونة قمعه للأوّلين واحتلاله لبلد الأخيرين، إلى طلب الخلاص ولو من الشيطان. وهذا مع العلم أن الشيطان، في القاموس القوميّ – الإسلاميّ – اليساريّ العربيّ، ليس إلاّ الولايات المتّحدة الأميركيّة. أكثر من هذا، وقبل هذا، سبق لمقاتلين فلسطينيّين حوصروا، في 1971، في جرش وعجلون بالأردن، أن لجأوا إلى إسرائيل. وعلى امتداد السبعينات والثمانينات تراءى للبنانيّين، مسيحيّين وشيعة ودروزاً، أنّهم يعثرون في الدولة العبريّة على حمايتهم من تهديد فلسطينيّين أو لبنانيّين آخرين.

ذاك أنّ الشعوب والجماعات البشريّة حين تُخيّر بين الحياة والموت تختار الحياة، أيّة حياة، من دون أن تكون لها شروط عليها. ولأنّ تخييراً كهذا حميم جدّاً وداخليّ جدّاً، فإنّ ضحيّته الأولى ستكون الإيديولوجيا، وهي، هنا، الرواية التي تواطأ النظام والمجتمع على تصنيعها: أوّلهما من أجل تبرير الإذعان له وتسويغه، والثاني من أجل تجنّب النهوض إلى الواقع الفعليّ وإلى المسؤوليّات التي يرتّبها.

ويجوز القول، في المعنى هذا، إنّ الشعوب المعلّبة في قفص من القمع المؤطّر بالايديولوجيا لا يمكنها أن تكسر القفص من دون أن تكسر إطاره. والأخير لا يعدو كونه وعياً زائفاً وظيفته تجنّب الواقع أو تأجيل مواجهته، بدل الإعداد لتلك المواجهة. هكذا ما إن يظهر رأس جبل الجليد الواقعيّ حتّى يبدأ ضمور الخرافة.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى