مراجعات كتب

وفائي ليلا.. يستبقي دمشق بالقصائد/ رنوة العمصي

 

 

ظن الشاعر، وفائي ليلا، إذ يغادر دمشق ويستقر في البحرين أن مدينته، كأنثى شرقية، ستنتظر، وأنها باقية متى ما التفت وراءه عائدًا، سيجدها كما هي، لكن الحرب إذ تنشب، وطريق العودة إذ يصبح صعبًا، يستبدّ بالشاعر شوقٌ هائل، وخوف من الفقد ما كان يشعر به رغم البعد سابقًا. لذلك تجد قصائد مجموعته الأخيرة “رصاصة فارغة.. قبر مزدحم”، محتشدة بالحنين المصحوب بحزن أو غضب مقلّم الأظافر، وتجدها منطوية على شوق ورغبة في استعادة المدينة، التي يشعر القارئ وكأنها تمضي إلى غير رجعة.

بالرغم من أن الشوق على البعد يجعل الأشياء البعيدة تبدو أجمل، إلا أن وفائي ليلا إذ يستعيد دمشق في ديوانه، لا يحاول في القصائد أن يرسم لمدينته صورة أجمل من تلك التي كان يعرفها، لكنه يستعيدها، كما هي، أو كما كان يراها قبل أن يتركها منذ سنوات، وهو إذ يطالب باستعادة مدينته كاملة، يطالب بها كما هي، بأقبح ما فيها قبل أجمله:

 

“إنها الشام التي تتكاثر فقراً

بأسواق “البالة”

وشرطة تسرق جموع الناس ببزة الدولة المكويّة

إنها الشام…

أجراء التجار يلمّعون مراياها كل صباح

بلُعاب اللعنات

وكف الحنق

إنها هذا الكذب كله

والتلفيق أشدّه”

 

للنساء حضور استثنائي في مخيلة وفائي ليلا وفي نصّه، ويبدو أن أجمل ما في هذا الحضور تنوّعه، الأنثى الوطن، والأم والغواية، والحكايات المتناقلة عبر شقوق الجدران وبالهمس والوشوشات. يستدعي ليلا دمشق كأنثى، ويستدعيها من خلال إناثها، تفاصيل أثوابهن، حكاياتهن، العطور ورائحة التوابل، والقصص الصغيرة التي يحكينها ويتناقلنها.. فتجده يأتي على ذكر أمه كثيرًا ويحمل إليها الكثير من شكواه ونداءاته وخوفه، خالاته، عماته، نساء الحارة بأسمائهن، أو رجال ينسبهم لنسائهم، وتفاصيل مؤنثة كثيرة يردّها آخر الأمر إلى دمشق، المدينة الأنثى:

 

“أخذوا مني دمشق

مكبّ نفاياتها

فوط نسائها المطويّة بعناية فائقة الحرص كي لا تفشي الأسرار

واجهات المحلّات الصاخبة الألوان

ملابس الزفاف التي تفرط ببياضها هناك

تلمح بين ثناياها دم بكارة منتظراً

أخذوا “خيريّة” التي هربت من زوجها ليلة عرسها…

أخذوا “محمد” مات “بعزّ شبابو” كما تقول أمي…

أخذوا ستي…

أخذوا مني أمي…”

 

وتجد ليلا مشغولا بالمكان، تعميره في النصّ، حشد تفاصيله، أزقة وأرصفة، أسواق وباعة، أسوار عتيقة، وبيوت قديمة، كأنه يستبقي بذلك ذاكرة المدينة، التي في مهب النسيان أو الضياع، فتشعر أن نصوصه الشعرية جلّها تتحرك في المكان، لا المطلق، وكذا تتحرك العناصر الأخرى التي يضمنها القصائد في فضاء المكان الذي يجعلك ليلا تشعر به طوال الوقت..

وبالرغم من انحياز الشاعر لحراك الشارع، إلا أن غضبه في النص رقيق، فلا تشعر بأنك تقرأ نصًا تحشيديًّا أو تعبويًا، على العكس فإن نصه غير معبّأ أو عابئ بالشعارات، وإنما بأخبار الناس والطيور والبيوت، ويبدو حتى خطابه “للقاتل” حسبما يسميه في قصائده، كأنه عتب أو ازدراء على الأكثر:

 

‫”حزين من أجلك

أنت لا وطن لك،

لا أمّاً حقيقيّة تزغرد لك لو قتلوك،

لا ذاكرة تستعيدك،

لا خيطًا أسود يظل مربوطًا في صورتك

أعلى الذاكرة.

‫…

حزين لأنك لا تبكي

ولا تبتسم،

فقط تضغط الزناد.

‫…

حزين لأنك تهدد بقرات الجيران الطيبة،

ورف السنونو العابر

تفزع عصافير الدوري

وتثقب منخل النوافذ المنهكة بالفقر، والقلّة

‫…

حزين من أجلك

وعليك

أخي

وصديقي

وقاتلي.”

 

يعرف المتابع لنص وفائي ليلا اتسام قصائده بالعبارات القصيرة، والتكثيف الشعري الحاد، إلا أنه في ديوانه الجديد، يكسر هذا الإيقاع، بجمل طويلة، ونفس سردي، فينوع بين إيقاع الشعر السريع، وبين تمهّل الإحساس السردي وتفاصيله بفقرات كاملة تتخلّل القصائد، لها إيقاع مختلف، ربما كان يقصد وفائي من هذا، أن يغرقنا على مهل في تفاصيل هذه المدينة، بدلا من أن يعبر بها بجمل قصيرة، قد لا يفي التكثيف بغرض تشييدها في مخيّلة القارئ.

يقدم وفائي قصائده بلغة طازجة وعصرية، يسمي الأشياء بمسمياتها، وإن اضطر إلى استعمال اسمها الإفرنجي المتداول واقعًا، شرط أن تحمل الأسماء والكلمات وقعها الذي تستدعيه في الواقع. يستخدم عبارات حاسمة، جملاً قطعية، غير مواربة، ولا مستندة إلى معان ملتبسة أو تشبيهات مضللة، لا يحوم حول المعنى بل يقفز إليه، يقع في حجره، فلا يملك القارئ حق الالتباس. وفائي ليلا يعرف جيدًا ماذا يريد أن يقول، يعرف الرسائل الرئيسية والفرعية، يعرف كيف يقول ما يريد قوله، واللغة تبدو متواطئة أو مستجيبة له بمحبّة واضحة.

(كاتبة وشاعرة بحرينية)

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى