سوسن جميل حسنصفحات الناس

وقفة مع الذات في سورية/ سوسن جميل حسن

 

 

“الرّقة تذبح بصمت”. هذا ليس عنوان صفحة في “فيسبوك” فقط، بل هو حقيقة واقعة وراسخة ومؤلمة حدّ الفجيعة. الرقة تذبح منذ سقطت بمجانية رخيصة في أيدي التنظيم الإرهابي الذي تستثمر فيه كل الأنظمة المتورّطة بالجريمة ضد الوطن السوري وشعبه، داعش، بل قبل داعش، منذ إرهاصات التشرذم وشق صفوق المعارضة النزيهة من الارتهانات الخارجية الطامحة بدولةٍ سوريةٍ تقوم على أساس المواطنة، تحقّق لأبنائها ما كانوا قد حرموا منه، وثاروا لأجله، لكن الرّقة استبيحت، وسبيت وصارت بازارًا للمساومات المدفوعة من دم أبنائها، والعالم يتفرّج، والمعارضة التي صادرت قرار الشعب، ونصّبت نفسها وصيةً عليه، ومتحدثة باسمه، مثلما لو أنها وصلت إلى هذا الموقع المشرّف بانتخابات نزيهة، قال فيها الشعب كلمته بإرادة حرة، تتفرج أيضًا، إذ طالما أنّ البازار مفتوح وفعال، والمنافسة تزداد شراسة، فإن المعارضة هذه لم تعد تتفرّج فقط، بل هي متورّطة في المشهد، بما أنها لم تراجع تجربتها ولا مواقفها، ولم تعترف أنها لم تلعب سياسةً ولم تمارسها سابقًا، أو اليوم. بل هي فقط لبت المطالب، وارتبطت بالولاءات، وها هم أبناء الرّقة يُذبحون ويهجّرون، وتدمر بيوتهم، وطيران القوى العاتية في العالم يقصفهم بلا رحمة، بينما يصل دوي القصف وصراخ المنكوبين، كما رجع صدى يأتي من منطقةٍ أخرى ليست قطعةً من جسد سورية، ولا نبضًا من قلبها، أو لكأن قصف طيران التحالف ليس أكثر من تمسيدٍ على وجه الرّقة الدامي.

كل قطرة دم سورية غالية على الرغم من هول الحجم الذي سفك، لا فرق بين سوري وآخر. لكن عندما تفقد الرقة، مثل باقي المناطق السورية، نخبة شبابها الذين هي أحوج ما تكون إليهم في وقتها الراهن، فهذا جدير بالتوقف عنده. أن تخسر الرّقة ثلاثةً من أطبائها في غارة واحدة أمر صادم، فهؤلاء منوط بهم دور إنساني يقومون به في أعصب الأوقات التي تمر بها البلاد، يقومون بعملهم المنقذ في حمّى النيران وجبروت القصف والاقتتال والقتل، لمن يُترك أبناء بلدتهم المهدّدون في كل لحظةٍ بانتهاك أجسادهم وأرواحهم؟

ومثل الرّقة إدلب، المحافظة السورية التي جعلوا منها ما يشبه المحميّة، جمعوا فيها محصول التفاوض والمصالحات من كل مناطق سورية، وتركوه تحت رحمة عصاباتٍ تهوى القتل

“كل قطرة دم سورية غالية على الرغم من هول الحجم الذي سفك، لا فرق بين سوري وآخر” والتطرّف والنهج الوحيد في الحياة، النهج الجامد القائم على الهيمنة والسيطرة والقيادة على مبدأ الراعي والقطيع الذي هو الرعية في إمارة تدّعي الإسلام وتطبيق شريعته، بكل ما عرفت وتعرف من بطش وعنف وإقصاء للمختلف حدّ إعدامه. فصائل تملك السلاح والمال والدعم والغطاء الخارجي، تتناحر فيما بينها، يقتل بعضها بعضا، تحصد الأرواح في تقاطع نيرانها، وتقتل من يداوي الجراح، ويسعى إلى الحفاظ على الحياة، لن تكون جريمة قتل المسعفين من الدفاع المدني في سرمين الأخيرة، مثلما لم تكن الأولى، والعالم يتفرّج، والمعارضة السلطوية تتفرّج أيضًا وتدّعي الحنكة والحزم في تفاوضها.

من صفّق لهذه الأنماط من الفصائل في البداية؟ من تباهى بأنها عانقته؟ من أشاح بوجهه عن ممارساتها وصمّ أذنيه، منذ البداية، عن خطاباتها الإقصائية التي دقت إسفين الفرقة بين مكونات الشعب السوري، الفرقة القائمة على الخوف من الآخر والتحفظ تجاهه في أحسن الأحوال، واعتبرها من مكونات الثورة وركنا أساسيا منها، طالما تسعى إلى إسقاط النظام؟ ألم تكن النتيجة سقوط الوطن والمجتمع السوري في حمأة حارقة من الثأرية البغيضة، والرجوع إلى كيانات ما قبل الدولة، بكل بعدها عن عصرنا الراهن؟ هل كان يكفي إسقاط النظام من دون برنامج واضح صريح، يتماشى مع أهداف الثورة؟

هذه المعارضة التي كان متوقعًا منها، بل المطلوب منها أن تعمل وتقدّم برنامجًا واضحًا يقوم على أساس العمل على تحقيق طموحات الشعب السوري، بكل فئاته وشرائحه، أهدافا تضع نصب عينيها سورية المستقبل، ما زالت تتخبط في أدائها، تتعثر بأخطائها، بل ربما ليس جائرًا القول إنها تنتهج أسلوب عمل النظام وتفكيره، بسلطوية سافرة.

صار الوضع السوري أضعف من احتمال أي تأخير في علاجه، ليست سورية في المناطق المنكوبة، أو الخارجة عن سيطرة النظام، وحدها المنهكة، بل كل مناطق سورية، وكم هو مؤلم أن نتحدّث عن سورية بصيغة: كل المناطق، بدلاً من سورية كلها. لكن هذه الـ “سورية” كلها بحاجة إلى الاستماع إلى أصوات أبنائها. ليس وفد الهيئة العليا وحده من يمثل الشعب، ولا حتى لو اجتمع مع كل المنصّات، وليس وفد النظام ممثلاً حصريًا للشعب حتى الواقع تحت سيطرته. ممارسات النظام والمعارضة، بشقيها العسكري والسياسي، جعلت نسبةً ليست ضئيلة من الشعب السوري صامتة، مثلما جعل بطش النظام وجبروته نسبة أخرى صامتة أيضًا، تتجرّع مرارتها

“ليست سورية في المناطق المنكوبة، أو الخارجة عن سيطرة النظام، وحدها المنهكة، بل كل مناطق سورية” وخيبتها مع نزيفها الداخلي، ونسبة أخرى رأت في النشاط المدني تعويضًا عن عدمية موقفها. ربما كان لدى هؤلاء جميعًا مقترحات لحلولٍ يمكن أن تحفظ ما بقي من الوطن وأرواح أبنائه، فقط لو يتخلى ممثلو الشعب الحصريون عن استبدادهم بالقرار، وبالدور التفاوضي المتعثر، بل المقيّد بالوصاية من الخارج، نظامًا ومعارضة، ويفسحون المجال لآخرين، ربما لديهم ما هو مقبول شعبيًا أكثر، فرغبة الشعب حتى الآن متروكةٌ في صفوف متأخرة من الأولويات.

الاتفاق على صيغةٍ لإدارة مرحلةٍ انتقالية، ليس المقصود بالانتقالية هنا هو ما بعد إسقاط النظام أو تنحيته، بل انتقالية لما بعد وقف الاقتتال الذي يجب أن يكون المطلب الأكثر إلحاحًا، ربما تفسح مجالاً لإبداعات فئاتٍ أخرى من الشعب السوري، همّشتها الحرب، وأسكتها صوت المدافع ووهج الدم، فئات قد يكون الدواء الناجع مكنونا في أعماقها، لكنها مقصيّة عن القرار مكبوتة الإرادة، مع تأكيد أن إدارة سورية لا يمكن أن تعود كما كانت، فكل أنظمة الحياة هزّها الزلزال السوري، ولن تعود الأساسات القديمة مفيدةً لبناء على الشاكلة القديمة. ليس هذا الطرح فريدًا، ولا انبثق من العدم، هذا شأن الثورات والتحولات الكبرى، كما تعلمنا تجارب التاريخ، فالتغير في عمر الشعوب لا يُقاس بعمر الأفراد. صحيح أن الثمن كان باهظًا، لكن التغير واقع لا محالة.

ليس الشعب السوري في مناطق المعارضة فقط، وليس تحت رحمة النظام فقط. ما زال الشعب السوري موزعًا على أراضي سورية، حتى من هجّرتهم الحرب وصاروا لاجئين في دول الجوار وفي كل أنحاء العالم، ما زالوا سوريين، ومن حقهم أن يكون لهم رأي وصوت في تقرير مستقبل وطنهم.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى