صفحات الثقافة

وكيل الفنّانين/  إسحق باشيفيز سينغر

 

 

في رحلتي إلى الأرجنتين توقفت حوالي أسبوعين في البرازيل. كان اللغويون الييديشيون قد نظموا محاضرةً لي، وما انفكوا يؤجّلونها. وعندما ركبت السفينة إلى سانتوس، أعطاني راعي البرنامج مخطوطة كبيرة له، متوقعاً، كما هو جلي، رسالةَ إطراء. لم أكن في حاجة إلى المحاضرة، ولم أرِد أن ألفق الأكاذيب بخصوص عمله الذي ما أحببته. بغتةً وجدتُ في متناولي فائضاً من وقت الفراغ.

حل الخريف في نيويورك، أما هنا فكانت بداية الربيع. كنتُ قد أحضرت كتاباتي معي وكنتُ أشتغل عليها بغرفتي في الفندق المطلة على الأطلنطي. كانت النسائم العذبة محملة بروائح نباتات وفواكه مدارية لا أعرف لها اسماً بالييديشية. كانت قوارب شراعية بيضاء تتهادى على الأمواج. ذكّرتني بموتى مكفَّنين. اتصل بي منظِّم محاضرتي مراراً، لكني لم أستعجلِ الردَّ عليه. هذه المرة، بعد أن رفعتُ السماعة أخيراً، سمعتُ صوتاً لم آلفه، تأتاة ونحنحات شخص لا يعرف من أين سيبدأ. كان يقول، “أنا قارئ مخلص لكتاباتك. لقد اكتشفتك قبل أي شخص آخر بسنوات. سيكون شرفاً كبيراً لي لو…” وانعقد لسان الرجل على الجهة الأخرى.

دعوتهُ للصعود إلى الغرفة، وبعد عشر دقائق قرع بابي. فتحته فرأيتُ رجلاً هزيلاً، شاحباً، ذا أنف أقنى وخدين غائرين وتفاحة آدم بارزة. كان يحمل معه حقيبة صغيرة كنتُ واثقاً من أنها ملأى بالمخطوطات. كنتُ أضع التشخيص من النظرة الأولى مثل طبيب خبير: لقد كتب أعواماً دون أن يعرفه أحد. تجاهله المحررون، والناشرون ثلّةٌ من المحتالين المأخوذين بالمال. هل ينبغي عليه مواصلة الكتابة؟ قدمتُ له كرسياً فجلس وهو يشكرني ويسرف في الاعتذار. ثم سمعتهُ يقول، “معي هدية من أجلك”.

“تشكراتي القلبية”، قلتُ. ولكني سمعتُ الساخر الذي في داخلي يقول، إنه كتاب قصائد طبعه على نفقته مع إهداء إلى زوجته التي لولا معونتها لما كُتب هذا العمل أو طُبع أبداً.

أخرج من حقيبته زجاجة نبيذ وعلبة أنيقة من الحلوى. غمغم شيئاً لم أتبيّنه. كان حكمي على الرجل خاطئاً تماماً. لم يكن شاعراً بل أستاذاً للغة الألمانية والفرنسية في جامعة ريو. فرَّ من الجيش النمساوي إبان الحرب العالمية الأولى. كان والده يملك بئر نفط في غاليسيا، في منطقة دروخوبيج. كان اسم ضيفي ألفرد رايسنر. كان يتكلم ييديشية قاموسية، وقد جاء ليروي لي قصة ويستفسر عن سبب تأجيل محاضرتي. شاع الود بيننا فقلتُ له، “إذا كانت قصتك ممتعة فسأخبرك لماذا تأجلت محاضرتي. ولكن عليك الاحتفاظ بالسبب سراً”.

“أحتفظ بأسرار كثيرة”.

“قبل أن تبدأ بالقصة، أيمكنني أن أسألك عن صحتك؟ تبدو لي عليلاً، أو منهَكاً”، قلتُ.

“ماذا؟ أنت مخطئ، كالآخرين جميعاً”، أجاب ألفرد رايسنر.”كلما ركبتُ الباص، نهض الركاب لأجلس مكانهم، حتى النساء الشابات، وكأنني عجوزٌ طاعن في السنّ. لكنني قويّ كالحديد. أنا في أوائل ستينياتي وأمشي كل يوم ما بين اثني عشر وستة عشر كيلومتراً. لم أمرض يوماً قط طوال حياتي. وكما يقولون، “سأعمر إلى المائة والعشرين”. على أية حال، لستُ متلهفاً إلى حياة طويلة”.

“لِمَ لا؟”

“ستعرف بعد قليل”.

استدعيتُ نادل الغرف وطلبتُ قهوة- لا القهوة السوداء القوية التي يشربونها في البرازيل، بل القهوة الممزوجة بالسكر والكريمة. قضمنا الحلوى التي جلبها ألفرد رايسنر. سمعتهُ يقول، “كنتُ خائفاً من الاتصال بك. أنا أبجّل المبدعين. كلما قرأتك رغبتُ في الاتصال بك، ولكنني لم أتصل قط. ولماذا سأهدر وقتك الثمين؟ كنتُ آمل في لقائك أثناء المحاضرة هنا في ريو، لكني أعرف أن جمهوراً غفيراً سيحيط بك. كثيراً ما تذكر سبينوزا في قصصك. أتخيل أنه فيلسوفك الأثير. هل لا تزال سبينوزيّاً؟”

“لستُ سبينوزيّاً، بل مؤمناً بوحدة الوجود. كان سبينوزا جبرياً، أما أنا فأؤمن بالإرادة الحرة، أو بيشيرا- وتعني…” قلتُ.

“أعرفُ ما تعنيه كلمة بيشيرا”، قاطعني ألفرد رايسنر وأردف، “استقدم والدي معلم لغة عبرية لكي يدرّسني الكتاب المقدس والميشنا. عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى وغزا الروس غاليسيا، هربت عائلتنا إلى فيينا. كان والدي متديناً بعض الشيء لكنه لم يكن متزمتاً قط. كان رجلاً عركته الحياة ويعرف ثماني لغات. وُلدتُ ملمَّاً باللغات، كما يقولون. دخلتُ جامعة فيينا، لكنهم جنّدوني لاحقاً وأرسلوني إلى الجبهة الإيطالية. وكما أخبرتك، لم تكن بي رغبة في الدفاع عن إمبراطورية هابسبورغ، ففررتُ”.

“أهذه قصتك؟”

“إنها البداية فحسب، إذا أتحتَ لي بعضاً من وقتك. آمل أن يثير اهتمامك ما أرغبُ في قوله لك. أنت تكتب عن موضوع الغيرة غالباً. هل لاحظتَ إن الأدباء الحديثين قد كفُّوا عن الكتابة حول هذا الموضوع؟ لقد كتب النقاد بكثيرٍ من الاشمئزاز عما يسمُّونه روايات غرفة النوم فذُعِر الكتّاب. لقد أصبحت الغيرة مادة عفى عليها الزمن، أو يكاد، في الأدب الحديث. غير أنني اعتبرتُ الغيرة دائماً غريزة إنسانية وحتى حيوانية جبارة وجوهر الرواية. إعجابي بستريندبرغ كبير وقد قرأتُ كلَّ كلمة كتبها. كان سبب هذا الإعجاب هو حقيقة أني كنتُ، وربما لا أزال كذلك في قرارة قلبي، رجلاً غيوراً إلى أقصى حد. أثناء الدراسة في المدرسة الثانوية كان يكفيني أن تبتسم صديقتي لطالب آخر لكي أقطع كل علاقاتي معها. قررتُ أن أتزوج من عذراء؛ وإذا أمكن، فعذراء لم تواعد قط رجلاً آخر. بالنسبة إلي، كان الرجل المخدوع رجلاً دنِساً- منبوذاً. سألتَ منذ قليل إن كنتُ مريضاً. والحقيقة هي أنني في العشرين من عمري كنتُ أبدو رجلاً عجوزاً، عليلاً، ضعيفاً. أفكر أحياناً بأن الخوف من الانتهاء ديُّوثاً، ومعرفة أن جنس الذكور برمته تحت رحمة النساء، قد استنزفاني. لكن هزالي الصريح ساعدني أيضاً خلال الحرب. لم يرتَبْ بي أحدٌ بصفتي جندياً فارّاً. ألا تزال راغباً في أن أواصل قصتي؟” سأل ألفرد رايسنر.

“نعم، أريد”.

“حسناً، هذا لطفٌ كبير منك. آنذاك، في فيينا، ارتبطتُ بامرأة شابة تنحدر من القسم الروسي في بولونيا. كانت تصغرني بثلاث سنين. كان أبوها وأمها ممثلين ييديشيين مغمورين يتجولان بعروضهما في الإسطبلات ودور الإطفائيات. كان اسمها مانيا. بدأت التمثيل مع والديها عندما كانت في الخامسة فحسب. كانوا ينتحلون مسرحيات غولدفادن ولاتّاينر، كما أدت أدواراً في مسرحيات مبتذلة كتبها والدها. وكما يقولون، كان يتهجّى اسم نوح مع سبعة أخطاء.

“جاءت مانيا إلى فيينا إبان الحرب، وحاولتْ أن تنتج مسرحياتِ أبيها. في وارسو، تأثر رجل ثري بصوتها فسدّد عنها أجور دروس الغناء. وأخيراً حصلت على عمل في جوقة الأوبرا- وليس هذا بالإنجاز الصغير بالنسبة إلى فاجرة يهودية. توفي والدها بالحمى التيفية عام 1915. أصبحت أمها مدبرة منزل لدى أحدهم وخليلته أيضاً.

“إلى الآن، في عمر الستين، لا تزال مانيا جميلة الطلعة، أما عندما التقيتها فكانت حسناء نادرة المثيل. كنتُ أشاهدها تغني أغنيات ماجنة في مسرح ييديشي يتردد عليه لاجئون من غاليسيا. كان مزيجاً من الوكر والمطعم والملهى الليلي. وكلما زارتني في وقت متأخر من الليل أحضرتْ لي على الدوام كيساً من بقايا الطعام. ومن حين لآخر، كان عليّ أن أعطيها كرونين لقاء أتعابها. كان صوتها يسحرني عندما تغني “في الهيكل المقدس، في زاوية الحجرة تجلس أرملة صهيون والكآبة تلفُّها”. كانت تثير عاصفة في روحي. أولعتُ بها، وكنتُ مستعداً للزواج منها على الفور. ولكن عندما بدأت مانيا تبوح بماضيها الجنسي تولدت أزمة فظيعة في داخلي. تحطمتُ إلى حد شعرتُ فيه بأني سأقتلها ثم سأقتل نفسي. ببلوغها التاسعة عشر كانت لديها قائمة تربو على العشرين عشيقاً، كان والدها من بينهم؛ سيُشوى في جهنم. كما كانت لديها بعض التجارب كسحاقية. لقد تذوّقتْ كل شيء: السادية، المازوشية، الاستعرائية، وكل انحراف ممكن. تفاخرتْ أمامي بخطاياها، فتنامت لدي، رغماً عن حبي، كراهية ضارية تجاهها. لم أرغمها على الاعتراف، لقد اعترفت بمشيئتها. كانت مزهوة بفسقها. معظم الرجال الذين عاشرتهم كانوا شذاذ آفاق، أناساً من القاع. وفي بعض الحالات لم تتذكر أسماءهم. كان بعضهم بولونيين على صلة بالأوبرا في وارسو. كانت تحدثني ضاحكةً وكأن الأمر برمته ليس سوى نكتة. هذه المرأة التي غنت غناء بديعاً عن الهيكل المقدس وأرملة صهيون لم تكن تتحلى بأدنى احترام لليهودية والتاريخ اليهودي وما أحسّتْ بأرض الميعاد. لم يكن جسدها بالنسبة إليها غير قطعة لحم تمنحها مقابل أصغر خدمة، أو لقاء نتفة إطراء، أو لمجرد الفضول في تذوق ذكَرٍ آخر. كانت تقذف البذاءات كقشور بذور عباد الشمس. ملايين الرجال حاربوا على الجبهات وماتوا في سبيل بلادهم، بينما يراود مانيا طموحٌ واحد: أن تصبح مغنية أوبريت رخيصة وتغنّي كل التفاهات التي تزخرُ بها كلمات الأوبريتات. وكذلك أن تذهب إلى السرير مع أولئك الدجّالين الأثرياء الذين يتباهون بمضاجعة الممثلات.

“وفي أثناء اعترافاتها، قبّلتني ولاطفتني وحاولت أن تؤكد شدة عشقها لي، ولكني كنتُ أعرفُ أنها تتكلم بالطريقة نفسها مع سائر الرجال الآخرين، وستواصل هذا النهج إياه مع أولئك الذين سيأتون من بعدي. لقد شغفتُ بمومس. تلك الليلة ساورتني رغبة في القفز من السرير والهرب. لكنّ ذاك التصرف كان انتحاراً محضاً، لأنني كنتُ فارّاً من الجيش وفيينا تعجُّ بالشرطة العسكرية. والعودة إلى البيت ستعرّض والديّ للخطر أيضاً”.

أخذ ألفرد رايسنر سيجارة، أدارها بين أصابعه ثم أشعلها بقداحة. “بلى، رغبتُ في الهروب من هذا الوصال الفاجر، ولكني لم أهرب. كانت تثير اشمئزازي، وإذ كنتُ أقبّلها وأداعبها كنتُ مغفَّلاً تماماً في مناشدتها أن تكون مثل أمي وجدتي. كانت واثقة من سلطانها عليّ بحيث رفضتْ حتى أن تعِدني. عوضاً عن ذلك عرضتْ عليّ الزواج، مع الاتفاق على السماح لكلينا بأن نحظى بمعاشرة آخرين.

“كيف كانت تبدو، لعلك تتساءل. لم تكن طويلة ولكنها رشيقة، ذات شعر أسود وعينين سوداوين تنمّان عن الشبق والعجرفة والتهكم. كانت تتميز بمقدرة خارقة على الكلام. نحن في غاليسيا نتكلم الييديشية ممزوجة بالألمانية مزجاً طفيفاً. أما ييديشيتها الوارسوية ففيها كل المصطلحات والجواهر اللغوية لمنطقتك. وكانت تنساب من فمها. وإذا شتمتْ، انسكبتِ الشتائم كجدولٍ من السم. وعندما تهتاج إيروتيكياً تستخدم كلماتٍ تندى لها جباهُ فوجٍ من القوزاق. لقد التقيتُ بساخرين كثر في حياتي، لكن تهكم مانيا منقطع النظير. كثيراً ما كنتُ ألعبُ بفكرة تدوين تعابيرها الماجنة، كل نكاتها المبتذلة، ومن ثم نشرها، إلا أن خطتي هذه، ككثيراتٍ سواها، لم تتحقق أبداً.

“أتى كل شيء دفعة واحدة: الثورة في روسيا، المذابح في أوكرانيا، هزيمة الألمان في فرنسا، انهيار إمبراطورية هابسبورغ. نالت بولونيا استقلالها خلال ليلة واحدة تقريباً، وناشدني والداي العودةَ إلى البيت معهما. لكن دروخوبيج، بعد فيينا، بدت مثل قرية صغيرة، لا تشبه المدن. علاوة على ذلك، أرادت مانيا أن تعود إلى وارسو، وإلى هناك ذهبنا. عصابات المجرمين في ليمبرغ ارتكبت مذبحة ضد اليهود. كانت القطارات مكتظة بجنود الجنرال هاللر الذين جزّوا لحى اليهود. أعلنت إنكلترة وعد بلفور وما عادت الصهيونية حلماً. لو كنتَ في وارسو آنذاك، لعرفت ما جرى: مزيج من الحرب والثورة والاغتيالات. في البداية لاحق بيلسودسكي البلشفيين حتى كييف. ثم طارد تروتسكي الجيش البولوني إلى فيستولا، حيث يفترض أن معجزة عسكرية قد حدثت. أرادوا أن يجعلوا مني جندياً بولونياً ويرسلوني للذود عن أرض آبائي التي فقست للتو. لكن “معجزة” حدثت لي أيضاً. حصلتُ على جواز سفر مع تاريخ ميلاد مزوَّر.

“كانت وارسو اليهودية تغلي كالمرجل: بالمتظاهرين الصهاينة والمغامرين الشيوعيين. وصلنا إلى وارسو مفلسين، لكن المصادفة جمعت مانيا بعشيق سابق، مضارب في البورصة يدّعي رعاية الفنون. كان اسمه زيغموند بيلزر. دختُ عندما قبّل زيغموند مانيا، وقلبي يضرب صدري كالمطرقة. كنتُ أعلم أن العيش مع هذه المرأة سيكون جحيماً مستديماً بالنسبة إلي. أقسمتُ يميناً مقدسة إني سأتخلص منها مرة واحدة وإلى الأبد. ولكننا، بعد أسبوعين، تزوّجنا.

“أعطتني خياراً أخيراً: إما الزواج أو الانصراف. أمهلتني ثلاثة أيام للتفكير. أقنعتُ نفسي آنذاك إني لستُ سوى عبد تعيس. لا أظن إنه قد أغمض لي جفن طوال تلك الليالي الثلاث.

“قرأت مقالة لك ذات مرة اشتكيتَ فيها من أن الفلاسفة يتجاهلون العواطف ويعتبرونها وباءً. في الحقيقة، العواطف هي جوهر وجودنا الصميمي. عندما قال ديكارت “أنا أفكر إذن أنا موجود”، فلا بد من أنه كان يتحدث عن العواطف. هيامُ سبينوزاك بالأفكار الصافية ليس إلا عقلانية ساذجة.

“فلأختصر، ذهبنا إلى حاخام غير رسمي فقيّد وثيقة زواج ثم عقد قراننا. ومن تظنه وليّ العروس؟ إنه زيغموند بيلزر نفسه، عشيقها”.

“كيف أصبحت بروفسوراً في البرازيل؟” سألتُ.

لم يجبْ ألفرد رايسنر على الفور. “كيف حدث ذلك؟ بعد بضع سنوات، جاء وكيل فنانين مزعوم، بولوني، من أمريكا الجنوبية إلى وارسو. أقول “مزعوم” لأنني لم أره قط يزاول مهنته أو أية مهنة أخرى غيرها. كان اسمه زجيسواف رومانسكي، وهو زميل عمل، أشقر طويل وساحر إلى أبعد حدّ. سمع مانيا تغني في مسرح فودفيل قميء فقرر إنها الفتاة التي يبحث عنها بالضبط. أدرجها في قائمته، وأخذها إلى البرازيل، فانجررتُ وراءهما.

“كان تعلُّمُ البرتغالية يسيراً بالنسبة إليّ لأنني كنتُ أعرف اللاتينية والفرنسية. كانت وظيفة أستاذ مساعد في اللغة الألمانية شاغرة في جامعة ريو ليشغله فتعيّنتُ هناك. وبمرور الوقت بدأت بتعليم الفرنسية أيضاً. كان بوسع مانيا أن تغتني من صوتها، لكن الدجال، وكيل الفنانين، اقتحم حياتها وحياتي أيضاً. بدأ ذلك على متن السفينة المبحرة إلى البرازيل.

“تعلمتُ شيئين في حياة الخزي التي عشتُها. أولهما، إن كامل مفهوم الإرادة الحرة والخيار الحرّ وكل العبارات الأخرى المتعلقة بحرية الإنسان هي هراء محض. ليس للإنسان حرية أكثر من بقِّ الفراش. في هذا المنحى، كان سبينوزا على حق. لكنه، بصفته جبرياً مستديماً، لم يجد أي مسوِّغ لكي يعظ بالأخلاق. الشيء الثاني الذي تعلمته هو أن كل شغف إنساني قد ينقلب، في ظروف معينة، ليصبح نقيض ما كانه بالضبط. من وجهة نظر سيكولوجية، كان هيغل على حق: كل فرضية تتقدم في اتجاه الفرضية المضادة لها. قد يتحول الحبُّ الأقوى إلى الكراهية الأشدّ فتكاً. قد يتحول معادٍ شرس للسامية إلى عاشق متحمس لليهود وقد يعتنق اليهودية. قد يشرع بخيلٌ على حين غرة بتبديد أمواله يميناً وشمالاً. قد يصبح المسالم سفّاحاً. لقد عاش الرجل الجالس أمامك تحولاتٍ كثيرة. ذات حين كنت أتأجّج غيرةً. كنتُ أفقد صوابي لمجرد فكرة إن زوجتي قد تشتهي رجلاً آخر أضأل اشتهاء. وبعد بضع سنوات، بلغتُ حدّاً كان بوسعي فيه النوم مع مانيا وعشيقها في سرير واحد. أرجوك، لا تسألني عن أيّ تفاصيل أو إيضاحات. المتعة بحد ذاتها شكلٌ من أشكال الألم. الزهد ومذهب اللذة متردافان في الواقع. أعرف أني لا أكشف لك شيئاً جديداً. كان حكماء ديننا يعرفون ذلك بطريقتهم الخاصة”.

“أي ضرب من الأشخاص كان هذا الوكيل؟” سألت.

“شيطان”.

“كم كان عمره؟”

“مَن يعرف عمر الشيطان؟ لم ينطق فمه قط بكلمة صدق واحدة- كذاب سيكوباتي، دَعيٌّ مجنون. بحسب أقواله، كانت كلُّ حسناوات بولندا محظياته، وكان يخاطب بيلسودسكي وجنرالاته جميعاً بأسمائهم الأولى. وفي الحرب ضد البلشفيين تمكن من القيام بكل صنوف المآثر البطولية ونال أوسمةً لا تحصى. بحسب ما أعرفه، فإنه لم يخدم الجيش قط. ولم تنحدر أصوله من البارونات والكونتات. لم يكن والده سوى كاتب عدل في فولخينيا.

“وبعد كل ما خضتُه، ما عاد أيُّ شيء يدهشني. ومع ذلك، كلما ساورني الشعور بأنه ما عاد قادراً على مفاجأتنا، أقدمَ على فعلٍ يذهلني تماماً. كانت قوته البدنية، ولا تزال، استثنائية. وعلى الرغم من كونه أفظع الكحوليين الذين عرفتهم، لم أعهده مريضاً أبداً. بحسب نظريات الطب، لا بد أنه الآن قد أتلف معدته وأمعاءه. كل صباح، ما إن يفتح عينيه، يردد النكتة نفسها، “سأغرغرُ المعقم في فمي”، والمعقم هو كأس صغير من الفودكا على معدة خاوية. لقد جعل من مانيا مدمنة مثله. ولا ينقطع عن تهديدنا، أنا ومانيا، بالانتحار، أو بأنه سيقتل كلينا. كما يهذر باعتناق اليهودية”.

“مَن يسدّد الفواتير؟” سألتُ.

“أنا أسدّدها”.

“ألم يحاول أبداً القيام بأي شيء؟”

“فقط عندما يتيقّن من فشله”.

“هل تسمّي نفسك مازوشياً؟” سألتُ.

“تسمية جيدة كأي تسمية أخرى. نعم، أنا، هم، وكل بني البشر؛ بحروبهم وثوراتهم وفنونهم وحتى دياناتهم. ليست الإنسانية إلا تمرداً متواصلاً ضد الله وضد ما سماه سبينوزا نظامَ الأشياء، أو الطبيعة. وُلد الإنسانُ عبداً، وبمرارة العبودية عليه أن يقوم بنقيض ما يجدر القيام به. إنه خصم الله الأبدي: إنه إبليس في الحقيقة”.

“هل تعتقد إن وكيلك لا يزال يحب مانيا؟” سألتُ.

بدا ألفرد رايسنر كمنِ ارتعد. “يحبّ؟ من يدري ما هو الحب؟ فكرة الحب برمتها ملتبسة وغامضة. ولكن عندما تتعامل مع شيطان، فأي ضرب من الحب يستطيعه؟ لقد دمّرها. إنها تسمّيه “ملاك موتي”. لقد واصلتِ الشرب حتى فقدتْ صوتها. لديها مرض في الحلق لا يستطيع الأطباء في البرازيل تشخيصه، نمط من السرطان. غالباً ما يستفحلُ مرضها استفحالاً خطيراً فنضطر لإسعافها إلى المستشفى. أصيبت بالربو وفقدتِ القدرة على الكلام. ذات مرة، سعلتْ سعالاً مرعباً فهُرعتُ بها إلى المستشفى، فشخّصوا لديها انخماصاً في الرئة.

“وقد كان ذلك كله نتيجة الشرب، والصراخ، ومحاولة الغناء دونما صوت، وهي ترغم الجسد على البقاء شاباً في حين أنه محكوم بالتقدم في السن. لقد خاض هذان الاثنان حرباً دامت عشرين عاماً، حرباً شعواء، حرب الجنون والتمرد. وعلى الرغم من لامعقولية ذلك، فإني لم أفهم طوال كل هذه السنوات ما كانا يتشاجران بشأنه. ينسى المرء مثل هذه الأشياء كما يُنسى كابوس. كلاهما يهذران في نفس الوقت، هي بالييديشية وهو بالبولونية. ويستمران في مونولوجات لا صلة فيما بينها. لطالما فكرتُ، لو استطاع المرء تدوين حواراتهما الضارية فسيحظى بمادة تحفةٍ أدبية. لكن، وعلى الرغم من اختلافاتنا، فإن لثلاثتنا سمةٌ مشتركة: لا يتحلى أيٌّ منا بأدنى موهبة في الأمور العملية. عندما تنفجر فاصمة في منزلنا، نجلس في الظلام لساعات يائسين ننتظر وصول مدير المبنى، وهو مدمنٌ بدوره ولا يحضر أبداً. نخسر النقود، ننسى التواريخ، نحن في حالة دائمة من الفوضى المطلقة. لا يمرّ يوم دون أن يتعطل شيءٌ ما في بيتنا الكاريكاتوري: الكهرباء، الغاز، المرحاض، الهاتف. عندما تمطر، يدلف السقف في غرفة النوم فنضطر إلى تغطية الأرضية بالأواني. أجل، يمكنك أن تسمّينا مازوشيين. ولكن لماذا ثلاثتنا فحسب؟ وأي قدر تعيس يبقينا معاً، عاماً تلو عام تلو عام؟ لقد حلفنا بأغلظ الأيمان أن نفترق إلى الأبد لننهي هذه المأساة الكوميدية من الوجود. في الواقع، لقد هربنا من بعضنا البعض مراتٍ لا يعرف الشيطان عددها وتحت ظروف في منتهى الغرابة، لكننا نعود دائماً إلى الفوضى إياها، الجنون نفسه، تشدُّنا قوةٌ لم أجدْ لها اسماً بعد في أي قاموس أو موسوعة، سمِّها أنت. لا فرويد ولا آدلر ولا يونغ استطاعوا أن يفسِّروها عبر نظرياتهم المختلفة. الشهوة؟ يمكنك أن تسميها الشهوة، العقدة، الجنون، أو ببساطة اللامعقول. نفترق فيضنينا الشوق والفقد. نتبادل رسائل يائسة ناشدين السلامَ والغفران وبداية جديدة، وترهات سخيفة أخرى نحن أنفسنا نسخرُ منها. نضحك ونبكي ونبصق عندما نلتقي من جديد ونرفعُ نخب عفريتنا المشترك. أجل، لقد تعلمتُ الشرب أيضاً، وإن لم أكن بإسرافهما. لا أستطيع تحمل النفقات. لدي أسْرةٌ أعيلها، ويلاه”.

رمق ألفرد رايسنر ساعة معصمه وقال، “لقد تأخر الوقت أكثر مما ظننت. أرجوك، سامحني لأنني أخذتُ الكثير من وقتك الثمين. لِمَنْ كان بوسعي أن أحكي قصةً كهذه؟ ثمة فلاسفة، وعلماء نفس، وحتى أولئك الذين يعتبرون أنفسهم كتّاباً في الجامعة، لكن الوثوق بهم محضُ انتحار. باستثناء فتاة المكتب التي ترسل إلي راتبي كلّ شهر، لا أحد يعرف عنواني. الآن، وقد أُحِلْتُ إلى التقاعد، صرتُ كالمتوفَّى. حسناً، ماذا عن محاضرتك؟ متى ستنعقد؟”

“أخشى ألا تنعقد”، قلتُ.

“أتستطيع أن تقول لي السبب؟”

رنَّ الهاتف وأخبرني راعي البرنامج إن محاضرتي قد تغير موعدها. أعطاني التوقيت. نقلتُ النبأ إلى ضيفي، فالتمعت عيناه لوهلة.

“هذه أنباء سارة. ستكون حدثاً. سنأتي ثلاثتنا لنستمع إليك”.

“والبولوني أيضاً؟ سألتُ.

تملى ألفرد رايسنر سؤالي. “إذ ليس من هذا العالم حقاً، فمن يعرف إن كان بولونياً أو روسياً أو يهودياً؟ إنه من كبار المعجبين بكتاباتك. يقرؤك بالفرنسية والإنكليزية، وقليلاً بالييديشية أيضاً. لا تخفْ. لن يأتي إلى المحاضرة بذيلٍ وقرونٍ ممتطياً مكنسةً. بوسعه أن يكون جنتلماناً مثالياً عندما يقتضي الأمر ذلك”.

********* ******** ********* *********

(نقلها إلى العربية جولان حاجي)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى