صفحات سوريةمازن عزي

ولكن، من هو السوري؟/ مازن عزي

 

 

تقسيم التركة العثمانية في المشرق العربي، قبل مئة عام، كان عملية خارجية لم تنظر إلى موضوعها بقدر ما انشغلت بدوافع المقتسمين. حتى ضمن الطرف الواحد ساد النزاع بين الأجنحة، فالقرار البريطاني على سبيل المثال، شهد تنازعاً بين حكومة الهند والقيادة في مصر ووزارتي الخارجية والدفاع. في ذلك الوقت، كما هو الحال اليوم، لم يكن لأناس المشرق رأي في تقرير مصيرهم. ولذا كانت الكيانات السياسية المتماشية مع الحدود الجغرافية الجديدة، فعلاً تركيبياً خارجياً، أقام دولاً لا أوطان، كيانات سياسية لا أمماً.

جذور النشأة المفتعلة صارت بعيدة، لكن آثار الولادة المستعجلة ظلت محمولة في تلك الكيانات. ففي سوريا، كانت البداية السياسية في ظل الانتداب الفرنسي، مع أحزاب مناطقية، مثل “حزب الشعب” الحلبي و”الكتلة الوطنية” الدمشقية. ومنذ منتصف الخمسينيات، حازت المشروعية أحزاب قومية عروبية مثل “حزب البعث”، أو اشتراكية أممية مثل “الحزب الشيوعي”، أو إسلامية مثل “الإخوان المسلمين”. وكما حال الأحزاب المناطقية في مرحلة الاستقلال، والتي بحثت عن سند لها في القاهرة وبغداد، وجدت أحزاب المرحلة الثانية ذاتها في الدعوة إلى كيانات كبرى، عروبية أو إسلامية أو أممية.

انعدام البُعد السوري في إيديولوجيات تلك الأحزاب وخطاباتها ليس أمراً غريباً، بل هو طبيعي، نتيجة اصطناع الكيان السياسي ودولته اللاحقة. الافتقار إلى عمق متمثل في أمة سورية ضمن كيانها السياسي الجغرافي، كان الدافع الدائم للبحث عن مشروعية في نطاقات وأزمنة أخرى. وكأن أزمة المشروعية السياسية المستندة إلى عمق داخلي، لم تكن هاجس الكيان فحسب، بل صارت علّة لازمت التيارات والأحزاب والقوى كافة في المشهد السوري المعاصر. كيان سياسي مفتعل، نجحت قواه السياسية في استدامة الدولة التي أقامها الانتداب الفرنسي، لكنها عجزت عن تأسيس وطن، أو هوية سورية جامعة. الأزمة تكوينية، والحل كان دوماً باستحضار خارج ما، لملء الفراغ وتعويض نقص المشروعية، فكان الصراع على سوريا.

مع تعثر المشروع الاشتراكي وتقلص وانشقاق أحزاب اليسار، بقيت دعوتان تستحقان التوقف عندهما في سوريا: تجربة القومية العربية والحركة الإسلامية، وهما طرفان، عرّف كل منهما ذاته كنقيض للآخر، منذ أول أحداث حماة في الستينيات وصولاً إلى أحداث الثمانينيات. فـ”حزب البعث العربي الإشتراكي” الواصل إلى السلطة مطلع العام 1963، مستنداً إلى عقيدة قومية أوجدها مؤسساه ميشيل العفلق وصلاح الدين البيطار، كانت حوامله للوصول إلى الدولة مجموعات ريفية من الأقليات المذهبية، وجدت في العقيدة العروبية مظلة تخفي تحتها أقلويتها.

ورغم وجود “القيادة القطرية” وصراعاتها مع بقية أجنحة الحزب التي سادت ستينيات القرن الماضي، إلا أن سوريا كانت في الخطاب، تفصيلاً ضمن معادلة عربية أكبر، تمتد من المحيط إلى الخليج، حيث يُمكن بناء “المجتمع العربي الإشتراكي الموحد”. ومع كل معركة داخلية ضمن أجنحة “البعث”، وصولاً إلى “الحركة التصحيحية”، كانت العروبة تزداد تجريداً، وترتفع شعاراً مُقدّساً مع سباق الإقصاء الذي خاضته قيادات الحزب الأقلوية، وصولاً إلى هيمنة الأقلية العلوية الريفية على الحزب والدولة.

الحركة الإسلامية المُعارضة كانت أكثر مدينية، وسادت الخلافات المناطقية بين قيادات “الإخوان المسلمين”، وباتت ظاهرة في تنوع توجهات الأجنحة الدمشقية والحموية والحلبية. الريف السوري كان خارج دائرة تأثير “الإخوان”. التوتر بين “الإخوان” و”البعث”، ومنذ التماس المباشر الأول في الستينيات، بدأ يتخذ شكل التناقض الهوياتي لا السياسي. فالحركة الإسلامية وجدت نفسها في صراع مع نظام “أقلوي”، فابتعدت عن تمثّل “الجماعة الإسلامية” بمعناه الواسع، لصالح المجموعة السنيّة المدينية. إلا أن مجريات الصراع المسلح في السبعينيات والثمانينيات، دفعت الجماعة الإسلامية السورية إلى النهل من هويتها الأشمل: الإسلام السني. هنا صار النزاع بين العروبة والإسلام محاذياً للصراع بين السنّة والعلويين.

في الحالتين، كانت سوريا تتضاءل لصالح هويات أوسع وأبعد. فـ”الدولة” تهيمن عليها مجموعة أقلوية تسوق خطاباً عروبياً، والمجموعة “المعارضة” الأبرز هي حركة سّنيّة تسوق خطاباً إسلامياً. مع انتصار “الدولة” وهيمنة المشروع الأقلوي “العروبي”، بات الخطاب المعارض الأبرز إسلامياً سنّياً. هنا كانت المجموعات المعارضة الأخرى حاضرة، من يساريين وليبراليين وناصريين، إلا أنها لم تمثّل سوى نخب أمكن للنظام امتصاص بعضها وقمع بعضها الآخر. سوريا وحدها كانت الغائب الأكبر، مع نمو الطموحات الإقليمية للنظام، وتدخله المسلح في لبنان، ووصايته على المقاومة الفلسطينية، وعدائه مع “البعث” العراقي، باسم “العروبة” وحماية “الأمن القومي العربي”.

“الإخوان المسلمون” المهزومون في الحرب، و”طليعتهم المقاتلة”، وجدوا ملاذاتهم في العراق والسعودية ومنها إلى أفغانستان مع “المجاهدين العرب”. تجربة الإسلاميين السوريين كانت لافتة على صعيد “السلفية الجهادية” في العالم، من أبو مصعب السوري ومصطفى الست مريم وأبو خالد السوري. “السورية” الكنائية في أسمائهم لم تكن سوى بُعدٍ دلالي على المنشأ، فتأثيرهم كان كبيراً في تحولات “السلفية الجهادية” وتحولها إلى عقيدة عابرة للحدود.

“هدم حدود سايكس بيكو” الذي قامت به “الدولة الإسلامية في العراق والشام” مطلع العام 2014، كان حلقة ضمن سلسلة الإفتراق عن المنشأ، والدعوة إلى هوية أكثر انتشاراً وأوسع امتداداً. فـ”السلفية الجهادية” السنّية صارت أحد حوامل الصراع في سوريا، ولم تجد المجتمعات الريفية السنّية المنتفضة في وجه النظام، حرجاً في استقبال مجموعات مسلحة كاملة من “الإيغور” و”الأوزبك” و”التركمان” و”المصريين” و”التونسيين”. هم سنّة في نهاية الحساب، “ينصرون” السنّة في سوريا. “أسلمة” المعارضة، كانت بهذا المعنى جرعة “تسننّ” زائدة لبعض الفصائل بطعم “السلفية الجهادية” رغم وجود تيارات أخرى كـ”السرورية” و”السلفية العلمية” و”الصوفية”. ويندر في معظم هذه الحالات البحث عن ركيزة “سورية” في الخطاب والسلوك.

النظام بدوره، لم يجد حرجاً في استقطاب “السلفية الشيعية”، من الباكستان وأفغانستان وإيران والعراق ولبنان، لمواجهة الريف السني المتمرد عليه. وما كان “عروبة” ميشيل عفلق وصلاح البيطار، تحوّل إلى “حلف الأقليات” المحمي من “انتدابات” خارجية روسية وإيرانية. وذلك في مواجهة مجتمعات متمردة ظهرت فيها رموز “السلفية الجهادية” كالجولاني، بعدما كان مؤسس “الإخوان المسلمين” في سوريا مصطفى السباعي، يراهن على حركة إسلامية على الطريقة الليبرالية الغربية.

تاريخ العداء بين المعارضين الإسلاميين والأقلويين الدولاتيين في سوريا، يعكس بشكل فج، غياب الموضوع الأساس: سوريا. وذلك، ليس بالأمر الممكن التحكم فيه، إذا ما كان الكيان هشّاً، وجميع فاعليه السياسيين يبحثون عن شرعية في هوية أوسع، تتجاوزه. واليوم، بعد خمس سنوات من الثورة/الحرب الأهلية/الإقليمية، ومع تدمير الكيان، واستدعاء فاعلين خارجيين للمساهمة في تدميره، يبدو السؤال الأول الأكثر إلحاحاً: من هو السوري؟

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى