بيسان الشيخصفحات العالم

ولكنْ، هل تجدي الوساطات الدولية؟…/ بيسان الشيخ

 

 

«هل فقدت الوساطات جدواها في نزاعات بالغة التعقيد»؟ بذلك السؤال أو العنوان العريض، انطلق الأسبوع الماضي «منتدى أوسلو» في العاصمة النروجية، مستقطباً عدداً من كبار الديبلوماسيين والخبراء الضالعين في فنون التفاوض و «إسكات صوت البنادق» في نزاعات دموية تمتد من أفريقيا الى آسيا مروراً بالشرق الأوسط الملتهب.

ومع ما تحمله «اوسلو» من ذكرى كئيبة في أذهاننا حيال القضية الفلسطينية، كانت سورية هذه المرة الحاضر الأبرز في المنتدى، على رغم حضور اليمن وليبيا وأفغانستان وغيرها من ساحات قتال وتفاوض، كأن السباق بات على «النزاع الأكثر تعقيداً» وسبل حله، ليخرج المراقب أكثر كآبة مما دخل.

كانت سورية الحاضر الأبرز سواء عبر الكلمات الرسمية التي ألقاها كل من وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أو نظيره الأميركي جون كيري، أو في جلسة مخصصة لها غصت بالحضور، أو حتى في النقاشات الدائرة على هامش طاولات الحوار حيث تضرب كنموذج صارخ من التعقيد، ولكن أيضاً كاحتمال أن تكون «قصة نجاح» للمسار التفاوضي في حال أتت الوساطات بين الفرقاء الدوليين ثمارها. وعليه، يفترض أن تتوقف الأعمال العسكرية، ويبدأ البحث في مرحلة انتقالية، فيما برامج إعادة الإعمار وخطط الإسعاف والطوارئ ترسم على قدم وساق ولا تحتاج إلا هدنة لتبدأ التطبيق.

لكن ذلك النجاح المحتمل، مشروط بوضع بالغ الصعوبة هو سباق مرير مع الزمن، وتعدد الأطراف الاقليميين المعنيين به، بما يحمله كل طرف من أجندات ومصالح يجب أن توفرها سورية المستقبل. مسابقة الزمن ليست حتى مهلة أشهر، بل «أسابيع قليلة مقبلة»، كما يقول أكثر من مصدر. وإلا، فالبقاء عند أسفل الحائط المسدود، بانتظار إدارة أميركية جديدة، وجرح مفتوح ينزف ويلتهب الى ما لا نهاية.

«لا حل عسكرياً في سورية»، قال ظريف في افتتاح المنتدى، مرسلاً أكثر من إشارة الى أن بلاده لا تتمسك بـ «مصير شخص» وانما تبحث عن تغيير إيجابي في المشهد السياسي عبر «إصلاح دستوري» ما.

هل يعني ذلك شيئاً؟ ليس بالضرورة، يقول متابعون للملف. فلطالما عبر الإيرانيون عن دماثة وديبلوماسية في المحافل الدولية، وتصلبوا أكثر في مواقعهم وسلوكهم على الأرض بما يطيح كل جهد تفاوضي. كذلك يفعل الروس. إن أعلنوا هدنة هنا، اعتبروا أنها لا تلزم حليفهم هناك. فيتوقف قصف طائراتهم في بقعة، وتنهمر براميل النظام على بقعة أخرى، ليبقى ذلك من أدوات «شق الطريق الى المفاوضات».

لكن الجديد في كلام ظريف هذه المرة، وربما تكون تلك الأهمية الوحيدة لما قاله، يكمن في الشكل وليس في المضمون. بمعنى أن يتاح له هو، إصدار موقف رسمي في الشأن السوري، فيما هو معروف أن صلاحياته التفاوضية محدودة ضمن الملف النووي ولا تشمل الملف السوري المتروك لاختصاص الأجنحة الأكثر تشدداً والتابعة لـ «الحرس الثوري». أما وقد منح ظريف هذا الهامش، فهو ما قرأه بعضهم على انه إشارة من ايران الى أنها مستعدة للعب الورقة الديبلوماسية، عبر شخصية مقبولة من الغرب، أثبتت قدرتها على تحقيق الإنجازات للداخل، سواء عبر الاتفاق النووي الذي وُقّع، أو عبر مزيد من المفاوضات لتحسين شروط تطبيقه.

والواقع أن «ايران أيضاً، تريد حلاً في سورية» كما أكد كيري لاحقاً، «بعكس أطراف تختلف في الرؤية وتستمر في تمويل مقاتلين متطرفين» على ما أضاف، رافضاً «ذكر جهات بعينها»، ليبقى البحث جارياً عن لحظة تقاطع مصالح اقليمية ودولية قد توقف سفك الدم السوري.

تلك هي سورية التي كانت مطروحة على سرير تشريح الخبراء، رافقها تغيير في اللغة والمصطلحات لضمان «نجاح المسار التفاوضي». فبات الالتفاف على القضايا الشائكة ممكناً بفضل توصيفات حيادية وموضوعية من نوع «قبل 2011 وبعد 2011» بحيث لا ذكر للثورة، ولا «الحرب الأهلية» أو الأزمة أو النزاع. كذلك، في سياق البحث عن مستقبل البلد، وشكل دستوره المرتقب، استبدلت عبارة «حماية الأقليات» أو الحفاظ على حقها أو ما شابهها سابقاً بالحديث عن دستور «يضمن التنوع والتعددية في المجتمع». ذاك أن «التنوع»، بعكس «الأكثرية» أو «الأقلية»، لا يقف عند واقع ديموغرافي يلزمه بأن يجعل التمثيل مرآة للحجم الواقعي للفئة (أو النوع) المراد تمثيله في الدستور، بالتالي تحديد حصته من السلطة بناء عليه. فالتنوع والتعددية أرحب أفقاً من حجم الطوائف، وديموغرافياً، الاتنيات ومصالح الأكثرية والأقلية والتحالفات الخارجية لكل منها. فهي تتيح تبسيط «نزاع بالغ التعقيد» (وفق عنوان المنتدى) كما الحال في سورية الى حد التمييع.

وذلك ليس بلا طائل، وانما يساعد على تفكيك المشكلة وتبسيطها حتى يكاد أن يحيلها الى معادلة حسابية بسيطة، تتيح حلها بحيث ينصب الهمّ كله على وقف صوت الرصاص وهو أولوية لا شك، ثم حفظ التنوع وهو أولوية أيضاً، ولكن أيضاً تسجيل إنجازات في سجلات المفاوضين ومسارات الوساطات.

اما عن أولويات السوريين التي رفعوها في 2011 ومطالبهم بحياة كريمة في بلدهم، فباتت اليوم ترفاً صعب المنال… وإلا، كيف كان يمكن لاتفاق الطائف اللبناني أن يحضر في سياق نقاش كهذا، بصفته قصة نجاح «قد» تنفع لسورية؟ ولكن، طبعاً بتعديلات تقتضيها «الخصوصية» السورية واحتراماً لمبدأ أن «السلام لا يُفرض من فوق.

أي محاولة للقول أن الطبعة الأولى من الطائف في 1992 فشلت للبنانيين أنفسهم، وأن ما يجري اليوم من انهيار المؤسسات والقطاعات ووضع البلد في مصاف الدول الفاشلة ليس إلا نتيجة لذلك «النجاح التفاوضي»، ثم الطبعة الثانية المعدلة في العراق فشلت بدورها، فكيف تنجح طبعة اضافية منه لسورية مهما راعت من خصوصيات، تسقط أمام عقبة كبيرة باتت اقرب الى الابتزاز السياسي والأخلاقي وهي «إسكات صوت البنادق».

هكذا، وكما في نزاعات أخرى حضرت سورية وغاب السوريون… لكنها ببساطة شروط لعبة الحرب والسلام.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى