صفحات سورية

ولكن أين هي الإسلاموفوبيا؟/ نزار آغري

 

 

هناك الآن، في اللحظة التي أدون فيها هذه السطور، سفن تجوب عرض البحر الفاصل بين القارة الأوروبية وبين آسيا وأفريقيا. هذه ليست مراكب بحارة مغامرين أو متسابقين في مباريات الزوارق السريعة. إنها سفن حكومية في مهمة محددة وثابتة: إنقاذ اللاجئين الذين لا يكفون عن خوض الرحلات المهلكة عبر البحر للوصول إلى البلدان الأوروبية. هذه السفن ليست تابعة للبلدان التي ينطلق منها أبناؤها في رحلة التيه والشقاء تلك، أي البلدان العربية والإسلامية، ولا هي تابعة لحكومات يكرر زعماؤها بلا كلل استعدادهم للدفاع عن المشردين والتائهين والمظلومين والمغلوبين على أمرهم والمستضعفين في الأرض، مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والمرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية علي خامنئي. هذه سفن تابعة للحكومات الأوروبية التي هيأت لها طواقم قيادة وفرق إرصاد وعمال إنقاذ، على مدار الساعة، وخصصت لها ميزانيات كبيرة تقتطعها من الضرائب التي يدفعها مواطنو تلك البلدان. وفور العثور على السفن الشاردة، التي غالباً ما تكون على وشك الغرق، تجرى عمليات إنقاذ فورية ويُنقل اللاجئون إلى أماكن استقبال ويجرى تأمين المسكن والعناية والطبابة والأكل والشرب لهم. ثم تقوم جمعيات ومنظمات وفرق لمواصلة العناية بهؤلاء. وهذه الجمعيات والمنظمات، كلها، تابعة أيضاً للبلدان الأوروبية. ليس بينها أية جمعية أو منظمة، لا من تركيا ولا من إيران ولا من غيرها من بلدان الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا. وبعد ذلك يجرى فرز اللاجئين إلى معسكرات لجوء كبيرة، تنتشر في طول البلدان الأوروبية وعرضها. يتم إيواؤهم وتخصيص معاش شهري لهم إلى أن يُبت بطلبات لجوئهم. وحين يحين الوقت للحصول على حق الإقامة ينتقلون إلى بيت سكن عادي يتسع لجميع أفراد العائلة، مهما كبرت، ويبدأ الأبناء بالذهاب إلى المدارس أو روضات الأطفال وتجرى دورات تعلم اللغة للكبار خلال فترة معينة. أما قوافل اللاجئين الذين يتمكنون من تخطي البحار ويصلون بطرقهم الخاصة إلى بر الأمان فإنهم يحظون باستقبال ودي، على رغم الأعداد الهائلة التي تفيض عن قدرة أي بلد. وتستنفر المؤسسات الحكومية والجمعيات الأهلية والمتطوعون لمساعدة هؤلاء وتلبية حاجاتهم الأولية الماسة إلى حين استقرارهم في البلد. وقد رأينا كيف هبّ الناس إلى ملاقاة هؤلاء باللافتات التي ترحب بهم وتدعو إلى توفير أسباب الراحة لهم. وخلال هذه المراحل جميعاً تُحترم خصوصياتهم وتقاليدهم وعاداتهم ويتمتعون بكامل الحرية في ممارسة طقوسهم الدينية.

غير أننا لا ننفك نسمع ونقرأ، كل يوم، عن أن ثمة عنصرية في البلدان الأوروبية وأن المسلمين يتعرضون لمعاملة رهيبة وأن حيواناً مخيفاً ينهض في وجههم وينقضّ عليهم ويفتك بهم اسمه الإسلاموفوبيا.

يعرف الجميع في البلدان الأوروبية، مسؤولين ومواطنين عاديين، أن اللاجئين القادمين إليهم بغالبيتهم مسلمون. ومع ذلك، وعلى رغم معرفتهم المسبقة بذلك، نهضوا وحملوا الورود وذهبوا إلى محطات القطارات لاستقبالهم بوجوه ضاحكة وأذرع مفتوحة. فلماذا يفعلون ذلك إن كانوا يضمرون الكراهية للإسلام أو للمسلمين؟ كيف ينقذونهم من الموت غرقاً أو على الطرقات ويفتحون لهم حتى أبواب بيوتهم الخاصة، في الكثير من الحالات، ويطعمونهم ويكسونهم ويمنحونهم الدفء ويبذلون الجهد والمال لكي يوفروا لهم سبل العيش الكريم، وبعد ذلك يغيرون رأيهم ويقولون لهم: نحن نكرهكم، اتركوا بلادنا؟

ولكن، من الذي يقول إن اللاجئين المسلمين يتعرضون للعنصرية؟

لو أن واحدنا طرح هذا السؤال على اللاجئين أنفسهم لاعتقدوا أننا نعاني من لوثة في عقولنا. سيقول أغلبهم، إن لم يكن كلهم، إنهم لو بقوا طول العمر يشكرون البلدان الأوروبية، بحكوماتها ومواطنيها، فلن يقدروا على أن يردوا الجميل الإنساني العظيم الذي حظوا به على أيديهم. سيقولون لو أن هناك بالفعل عنصرية وإسلاموفوبيا لما تهافت المسلمون للمجيء إلى هذه البلدان زرافات ووحداناً، فالناس لا تستميت من أجل الذهاب إلى مكان سوف يتعرضون فيه للمهانة والإذلال والتمييز والكراهية والعنصرية والخوف المَرضي منهم ومن دينهم. لو أن الحال هكذا لما كانوا تركوا بلداً إسلامياً، مثل تركيا، وجازفوا بأرواحهم في البحار للهروب منه، أي من البلد الإسلامي وحكومته الإسلامية ورئيسه المسلم، وركوب القوارب المطاطية المميتة للوصول إلى بلد يستقبلهم ناسه بالورود في النهار ويلاحقونهم بخناجر الإسلاموفوبيا في الليل.

ليس من شك في أن هناك حالات يتصرف فيها أفراد أوروبيون في شكل أرعن أو يتفوهون بعبارات مهينة أو نابية. غير أنهم يفعلون ذلك مع كل اللاجئين، وليس فقط المسلمين، بل ربما مع ناس من مقاطعة أخرى في بلدهم.

غير أن الأمور بدأت بالفعل تتغير، إلى هذا الحد أو ذاك، في الفترة الأخيرة. وانتشرت في بعض الأوساط القومية نزعات متشددة لا تخفي تبرمها من اللاجئين، لا سيما المسلمين، وتدعو علانية إلى تشديد الإجراءات الأمنية والقانونية لوضع حد لظاهرة الهجرة الكاسحة التي لا يبدو في الأفق أنها في طريقها إلى التلاشي. وليس من شك في أن صعود دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية وشروعه على الفور في اتخاذ إجراءات حادة ومهينة وعنصرية بحق المسلمين على وجه الخصوص، وتعزز فرص فوز الأحزاب اليمينية في الوصول إلى السلطة في غير بلد أوروبي، تؤدي إلى تعمق وتوسع نطاق الكراهية والنبذ والإقصاء. وقد وقعت بالفعل حوادث متفرقة تعرض فيها المسلمون للاعتداء. وأغلب الظن أن هذه الحوادث ستزداد وتنتشر في قادم الأيام مع تعمق الشرخ السياسي الذي يجرى بوتيرة سريعة في أميركا وأوروبا.

ترتفع أصوات المناهضين للهجرة في الكثير من البلدان الأوروبية. وهم يعترضون على الطريقة التي تفتح فيها الحدود والأبواب، على مصراعيها، أمام اللاجئين. هناك منهم من يرى ذلك سلوكاً خاطئاً له عواقب وخيمة على المجتمع والناس واللاجئين أنفسهم. ويساهم في صبّ الزيت على النار، كما يقال، سلوك بعض اللاجئين، الذين لا يتورعون عن اقتراف جرائم بشعة كالاغتصاب والضرب والإرهاب ونشر الفوضى وتعميم الكراهية (كراهية معاكسة: اللاجئون يشتمون ويحتقرون المجتمعات التي لجأوا إليها). هناك أيضاً من يدعو إلى عقلنة عمليات اللجوء بحيث يتاح المجال للمحتاجين إلى الحماية والأمان فقط، وليس الآلاف المؤلفة التي تترك بلدانها بحثاً عن حياة الترف في أوروبا.

الأرجح أن هؤلاء لا ينطلقون من تعصب أو كراهية ولا تدفعهم إسلاموفوبيا مزعومة. هؤلاء يستندون إلى الوقائع التي نصطدم بها، كلنا، كل يوم، وتؤدي إلى الاحتقان والتململ في صفوف المواطنين الأصليين.

ويلعب الإعلام دوراً كبيراً في نشر البلبلة وتعميم الخوف حين ينشر أخباراً عن تعرض المسلمين أو المسلمات للأذى. وفي الكثير من الحالات يجرى نشر أخبار تتحدث عن اعتداءات مزعومة يقوم بها ناس مصابون بمرض الإسلاموفوبيا ضد المسلمين، ثم يتبين أنها أخبار كاذبة ومفبركة.

لقد اجترح اليسار الأوروبي مقولة الإسلاموفوبيا في خضم الصراع مع اليمين. واليسار بارع، كما هو معروف، في اجتراح التعابير والشعارات، منذ ديكتاتورية البروليتاريا وخرافات المجتمع اللاطبقي وإلى الآن.

والآن، إذ يرى هذا اليسار في اللاجئين القادمين من الشرق بروليتاريا جديدة، فإنه ينصب نفسه، بالطبع، الطليعة الثورية التي تكمن مهمتها الأبدية في قيادتهم نحو الخلاص. وفي أثناء ذلك لا بد من التحذير من أعداء جدد يتأهبون للانقضاض على البؤساء، أي اللاجئين، والمظلومين، أي المسلمين. العدو الجديد يحمل اسم الإسلاموفوبيا.

حوادث الاعتداء التي يتعرض لها المسلمون حقيقية، غير أنها تنبع من مكان آخر غير كره المسلمين. إنها في أغلب الأحوال رد فعل، سقيم، على سلوك المسلمين أنفسهم والسياسة الضيقة الأفق التي تتبعها الحكومات الأوروبية في مقاربتها مسألة اللاجئين والإسلام السياسي وما شابه. الإسلاموفوبيا هي في واقع الحال كذبة سقيمة اخترعها اليسار الأوروبي في سعيه المحموم للقيام بدوره العتيد في الدفاع عن مظلومين مزعومين على حساب الحقيقة والمجتمع.

* كاتب كردي سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى