صفحات مميزةنجيب جورج عوض

ولكن… ما هو «داعش»؟/ نجيب جورج عوض

 

 

لا أخرج عن الواقعية أو التمحيص العقلي حين أسأل هذا السؤال. أعتقد أن واحداً من الأهم الأسئلة، التي يجب أن نطرحها ونبحث عن إجابة جريئة وفعلية لها، هو السؤال عن ماهية الحالة التي نتعامل معها تحت تسمية «داعش». لا يبدو لي أن أي طرف إعلامي أو ثقافي أو سياسي أو مدني ما زال يشغّل نفسه بهذا السؤال. وكأنَّ ماهية داعش ودوره أمران جليّان للعيان ومعروفان للجميع. مراقبتي ودراستي للظاهرة المذكورة خلال السنتين المنصرمتين تخبرني أن الإجابة عن هذا السؤال ما زالت أمراً مفتوحاً على مصراعيه، ومسألة تحتاج إلى الكثير من التوضيح والتفكير. في هذه المقالة القصيرة، أحاول أن أقدم قراءة مختصرة لحصيلة مراقبتي ودراستي لتلك الظاهرة.

أول ما استخلصه من دراستي هو الخطأ المبين والبنيوي في التعامل مع داعش، وكأنه كيان واحد أو وجود موضوعي قائم بذاته وذو ماهية وطبيعة واحدة وحيدة. ليس داعش، أولاً، بأي شكل من أشكال «الدول»، حتى ولو سمّ نفسه «الدولة الإسلامية في العراق والشام.» ناهيك عن عدم ممارسة الكيان المذكور لأي نوع من أنواع ممارسات الدول (حتى ولو قرّع الإعلام الغربي والعربي، كلٌ لأغراضه وأجنداته الخاصة، رؤوسنا بأكذوبة أن ما نتعامل معه هو إدارة ووزارات ومجالس حكم وعملة وعلم وما سواها)، فإن من خلق داعش أو سمح له بالوجود أو غضّ الطرف عنه أو وظفه في مشروع أكبر واشترى سلاحه كله لا يريد أصلاً وأساساً أن ينشأ في العالم العربي أي نموذج من نماذج «الدولة» (بالانكليزية: state)، ولا أن يتعرف الشارع العربي على أي ممارسة مدنية أو عامة أو إدارية، تحمل في طياتها أي مكون من مكونات مفهوم الدولة، كما نعرفه في باقي دول العالم، وكما نقرأ عنه في كتب الفلسفة السياسية، فكيف سيسمح أصلاً بنشوء «دولة» جهادية عنفية على شاكلة «داعش». داعش ليس دولة لأنه لم يأتِ إلى الوجود كي يكون «دولة»، بل ليفكك الدولة وليمنع قيام أي نوع من أنواع الدولة، في أي مكان في المشرق العربي إن أمكن. وثانياً، ليس داعش أبداً بكيان واحد متجانس إسلاموي أو جهادي أو عقائدي أو أيديولوجي، مثلما هو الأمر مع «القاعدة« مثلاً. لا يوجد بين محاربي الكيان المذكورة مفكرون أو منظرون أو لاهوتيون أو فقهاء أو إيديولوجيون. هو مجرد كتل متفاوتة من المقاتلين وحملة السلاح المعروض للأجر وللتوظيف المادي والتجاري الصرفين. هو وكالة توظيف مقاتلين بالمعنى المركنتيلي والتسويقي للكلمة. عبارة عن مجموعات من المرتزقة، أسلحتهم معروضة للبيع وللتوظيف في خدمة من يدفع أكثر، ومن يسمح لتلك العصابات بالتواجد على بقعة أرضية لإدارة صفقات أعمالهم على الأرض.

انطلاقاً من هذه المعطيات الأساسية والقاعدية، ندرك أن ما نراه هو في الحقيقة «دواعش» وليس «داعش»: كيانات مرتزقة للإيجار والتوظيف تسوّق نفسها إعلامياً وعملياتياً وشعبياً (وعن عمد وبأوامر عليا) تحت تسمية واحدة مشتركة جامعة كي تعطي للرأي العام انطباعاً بقوة فائضة ونفوذ واسع واستطالات عريضة ومتشعبة غير واقعية تمهد أمام هؤلاء المرتزقة المذكورين أرض العمليات بزرع الخوف والرهبة والقرف السيكولوجي في نفوس الناس القاطنين في مناطق عملياتها. هذا ما يجعل المرتزقة الداعشيين يحرصون على تقديم صورة إعلامية مرعبة ودموية وحيوانية، عن سابق ترصد وتخطيط، عن أنفسهم، لأنها تأسطرهم في عيون المراقبين، وتزرع خوفاً وهمياً لا واقعياً عنهم، يخفي حقيقة أننا نتعامل في الواقع مع كيانات متشرذمة ومتفرقة ذات طبيعة عمل واحدة، وذات أجندات قد تكون متشابهة من حيث آلية العمل وميكانيزمات التنفيذ، كمؤسسات مستقلة خاصة تعمل كلها في قطاع العمل ذاته ولكن كل منها مستقل في صفقاته وهوية العملاء الذين يخدمهم، وفقاً لجغرافيا عمليات كل مجموعة، ولطبيعة التعقيدات الديمغرافية والأثنية والدينية والسياسية والمالية واللوجستية في كل أرض عمليات.

فقط الأسباب المذكورة في الأعلى، تكشف لنا أن عملاء ومستأجري سلاح المرتزقة الداعشيين في مصر وليبيا وتونس هم الأخوان المسلمون وممول صفقاتهم هم على الأرجح القطريون والأتراك، وأن أجندة عملياتهم في تلك الدول مختلفة تماماً عن أجندة عمليات فرق المرتزقة العاملين في سوريا والعراق. وفقط تلك الحيثيات البنيوية تكشف لنا حقيقة أن داعش العراق وداعش سوريا كيانان مرتزقان وعصابتان مختلفتان عن بعضهما البعض أيضاً (برغم اسطورة إمارة البغدادي واستطالاتها الكرتونية الإعلامية)، ولكل منهما صفقات متفاوتة، ومستأجر ومموّل لسلاحهما مختلف تماماً، ومستفيدون متفاوتون لعملياتهما على الأرضين السورية والعراقية.

 

في العراق، يشكل العراقيون المحليون السنّة حوالى 90 في المئة من مقاتلي المرتزقة الداعشيين. وقد وجد هؤلاء المحليون أنفسهم مرغمين على العمل في وكالة مرتزقة داعش العراقية، لأنهم يتعرضون لحملة اضطهاد، بل إبادة طائفية، من عملاء إيران الشيعة في الكيان العراقي. وجدوا أنفسهم مرغمين على الانضواء تحت لواء هؤلاء المرتزقة واعتبارها ممثلاً «للمقاومة» السنية، لأنهم حرموا من أي خيار آخر وسبيل بديل. أما من يستفيد من وجود مرتزقة داعشيين في العراق ويعمل على تعزيز وجودهم في ذاك البلد بالتحديد، فهو المعسكر السني العربي، كون هؤلاء المرتزقة هم السلاح الوحيد الفاعل والقابل للإيجار لمواجهة التغوّل الإيراني العنصري والدموي، وممارساته القمعية ضد سنّة العراق. وما احتلال المرتزقة الداعشيين للرمادي مؤخراً سوى انتصار خليجي على يد أُجرائه الداعشيين ضد الإيراني وحليفه الأميركي العتيد، في جولة من جولات معركتهما التي تبدو طويلة الأمد في المنطقة.

أما في سوريا، فالمرتزقة الداعشيون يتألفون في غالبيتهم العظمى من مقاتلين أجانب غير سوريين ونسبة ضئيلة من السوريين المحليين. أما المستفيد والشريك الأول لداعش في سوريا فهو نظام الحكم الإيراني الذي يدير سوريا ويشرف على المعركة الإيرانية – العربية فيها. ولهذا نرى الداعشيين لا يقاتلون سوى كتائب المعارضة المختلفة، بما فيها الكتائب الجهادية الإسلامية، ولا يطلقون ولا رصاصة واحدة تجاه النظام ولا يهددون مناطق سيطرته، بل يعملون بشكل ممنهج على اقتحام المناطق التي تدين فيها السيطرة لأي قوة مناهضة لقوات إيران ودميتها الأسدية في سوريا. ولهذا، مؤخراً انسحبت قوات النظام عمداً من منطقة تدمر والبادية وتركت عملية السيطرة على خمسين بالمئة من سوريا لمرتزقة داعش كي لا تسيطر على تلك المناطق قوات المعارضة وكتائب الجهاديات الإسلاموية المناوئة للنظام (خصوصاً بعد تحقيق تلك الأخيرة انتصارات ميدانية في مناطق أدلب وجسر الشغور)، وكي يتحول هؤلاء المرتزقة إلى وسيلة استنزاف وتشتيت للقوى، ما يسهل عملية محاربة القوات الإيرانية في سوريا لكل من يحاربها على الأرض. ما هذا الدخول الداعشي إلى تلك البادية السورية واحتلالها سوى انتصار للإيراني، عل يد أجرائه الداعشيين في جولة من معركته الطويلة مع العرب في الأرض السورية.

ما الذي يجعل مرتزقة داعش في سوريا أجانب في معظمهم وليس محليين، على العكس من العراق؟ السبب هو أنَّ مرتزقة داعش في سوريا فشلوا في كسب تعاطف السنة السوريين، وأساؤوا لهم وعاملوهم بشكل سلبي جداً، مفاده أن معظم السنّة في سوريا كانوا قد وجهوا تعاطفهم ودعمهم أصلاً لكتائب مقاتلة إسلاموية أخرى تم تشكيلها قبل أن يظهر داعش على الساحة السورية (أمثال «جبهة النصرة«). نجحت الكتائب الجهادية الإسلاموية المذكورة في تجنيد كل من يمكن تجنيده ودفعه للقتال ولم يعد في ساحة المناطق التي ظهر فيها داعش لأول مرة على الساحة السورية سوى سوريين عاجزين، مغلوبين على أمرهم، ينشدون النجاة والهروب من البلد ولا يصلحون للتوظيف في الارتزاق الإجرامي المطلوب. لهذا، كان على من خلق داعش السوري ومن عقد صفقة عمل معه ومن يستفيد من وجوده ويوظفه لمصلحته، كان عليه أن يجد مصدراً بشرياً لخلق داعش الجديد، فتم فتح الباب وفتح كافة الحدود لكل متحمس دينياً حول العالم كي يسافر إلى الأرض السورية ويتوظف في وكالة المرتزقة الداعشية السورية، ليقاتل هناك حسب الأوامر من دون أن يعرف لماذا يقاتل في سوريا، وما يحصل فعلاً فيها، ومن دون أن يحتاج لأن يتمتع بأي وعي ديني أو أيديولوجي أو سياسي. تم خلق آلة الحرب وتم استئجارها من السلطة الإيرانية في سوريا وتم توظيفها في خدمة الطرف الإيراني في حربه مع الطرف العربي في سوريا. وكله بعلم وموافقة الحليف الأميركي العتيد الذي غض الطرف، وبشكل معلن وبلا حرج، عن عملية فتح التركي لحدوده على مصراعيها لدخول دزينات الموظفين الجدد في مؤسسة المرتزقة الداعشية السورية (لغرض محدد يخدم أجندة المشروع التركي العثماني المتمايز عن الأجندة العربية، كما بينت في مقالات سابقة) خادعاً الرأي العام العالمي ومحتقراً له بالقول إنه يقود تحالفاً دولياً ضد داعش بالكاد تقوم طائراته بعمليات تجميلية مفردة وشكلية بين فترة والأخرى تلسع العميل المذكور من دون أن تفنيه في الواقع (تقول الأخبار بأنَّ الأميركان منفردين كانوا يقومون بأكثر من ألف طلعة جوية في ثلاثة أيام في أفغانستان لمحاربة بن لادن وعلى مدى سنوات، في مقابل بضع مئات من الطلعات خلال ما يقارب العام ضد كيان مزعوم يعمل في العلن وعلى أرض واسعة مثل داعش).

لا يتسع المجال في هذه المقالة القصيرة للاستطراد في شرح إرهاصات ومعطيات عمل المرتزقة الداعشيين في سوريا وفي العراق وتبيان تفاصيل تباينهما عن بعضهما وعدم تمثيلهما لكيان أو جسد تنظيمي واحد. ما أريد التشديد عليه هو أن أي فهم صائب وواقعي لطبيعة الظاهرة الداعشية يجب أن ينطلق من إدراك أننا نتعامل هنا مع كيانات متفرقة من المرتزقة وحملة السلاح المعروض للإيجار والذين يوظفون سلاحهم حالياً في مناطق مختلفة من المشرق العربي في خدمة أطراف متفاوتة ووفق صفقات عمل ومصالح تحددها حيثيات وأطراف شراكة مختلفين ومتباينين. أما الهدف من السماح بعمل تلك المرتزقات في الساحة المشرقية فهو متعدد الجوانب والأبعاد، ينطلق من عملية تطوير لسوق مالي واقتصادي جديد في العمل، هو سوق القتل والحرب بالوكالة المأجورة، ويخدم أكثر من طرف في وقت واحد في تحقيق أهداف متباينة تبدأ من شيطنة السنة، وصولاً إلى توظيف السلاح المعروض للإيجار في معركة كسر العظم الإقليمية، وصولاً إلى حرف الرأي العام العالمي عن الفشل الأميركي والغربي في التعامل مع المأساة السورية والأزمة العراقية بإلهائهم بشيطان مرعب بشع يغسل رؤوس الناس بأفلام رعب إعلامية، وصولاً إلى استخدام سلاح الارتزاق المذكور كحجة لإطالة أمد الصراع السوري واستثماره في الصفقة الإيرانية – الأميركية، وانتهاءً بجعل الشارع العربي يتخلى وللأبد عن مجرد التفكير بالمطالبة بالحرية والديموقراطية والانعتاق من الوضع المزّري والقمعي والاستبدادي والمتخلف والعنفي، الذي يعيش فيه تحت شعار «أي تغيير لمنظومات الحكم الحالية في العالم العربي سيجعل بلدانه محكومة من بديل لا يقل بشاعة ووحشية وشناعة عن مرتزقة داعش».

كيف يمكن القضاء على وكالات الارتزاق الداعشية في المشرق العربي؟ بأن ندرك أولاً أن ما نتعامل معه ليس بكيان أو دولة أو منظومة أيديولوجية أو دينية، بل عصابات مرتزقة أجيرة تعمل بمنطق الصفقة والاستئجار والتوظيف، وأن لا نسمح لأكذوبة مراكز صنع القرار والقوى المتصارعة في المنطقة بأن تغسل عقولنا. وبأن ندرك أن القضاء على الدواعش يبدأ بإيقاف الحرب البشعة بين إيران وحلفائها، من جهة، وتركيا والشارع العربي – السني، من جهة أخرى. وأيضاً بأن لا نسمح للمرتزقة المذكورين وجرائمهم الفظيعة أن تحرف أنظارنا على ما يحدث فعلاً على الأرض في سوريا والعراق على مستوى حياة الناس ومصير المجتمعين والدولتين في البلدين من تفكيك وتحطيم وإعادة تفصيل وتشريح وتشكيل. وُجِدَ الدواعش وتم استئجاره كسلاح حرب بالوكالة ومن بعد في المنطقة، كي يلهينا عن الواقع وعن ما يحدث حقاً على الأرض، وهو أخطر وأفدح وأشنع بكثير مما تزرعه جرائم الدواعش ووحشيتهم من رعب في داخلنا ومن هلوسات من كل نوع وجنس في حياتنا. الأبشع والأفظع والأشنع من الدواعش هم الإيرانيون والأميركيون والأطراف العربية التي تعقد من دون استثناء صفقات عمل وتستأجر السلاح المذكور، في حروبها القذرة ضد شعبَي سوريا والعراق، وضد المشرق العربي الأدنى، الذي نعرفه ولا يريد أحد له بعد الآن أن يستمر في الوجود.

المستقبل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى